- قبل أكثر من قرن من الزمان دخلت رؤية جديدة في الفن والأدب في العالم عموما وكان ميلادها ثورة على التقاليد وعدم السير على النهج الذي سار عليه المبدعون الأوائل الذين عاشوا ذلك الزمن ، وقد أدرك هذا الأمر العديد من كتاب أوربا بصورة خاصة آنذاك وتبعهم نخبة من كتاب أسيا وإفريقيا ،ولكن أوربا فاقت كل التطورات التي كانت مجرد تصورات ذهنية متفتحة ، وذلك لوجود وسائل الطباعة الحديثة والتفنن في صناعة الكتاب ، وسعة انتشار المطبوع ووفرة وجود القراء ومشاهدي المسرح وغيرهم من عشاق الجديد والتغيير بصورة عامة ، فكان المسرح وكانت الرواية الجديدة والقصة القصيرة ، وكانت مدارس الرسم المعروفة وحتى الموسيقى المتغيرة وبدا هذا الجديد يأخذ سمت الواقع ويحظى بالقبول حتى تحول إلى رؤية حياتية ثقافية وجدت نفسها ممثلة بالدراما وحداثتها التي أفرزتها الرواية والقصة القصيرة ونصوص المسرح وكانت لهذا كله كتاب مبدعون أدركوا ما قدموا ثم تواصلوا فيه مجددين على صعيد الأدب والفن والمسرح في العالم وكان منهم تشيخوف موضوع دراستنا رغم حياته القصيرة والتي كانت عبارة عن إبداع متواصل ومواقف إنسانية جليلة دفعتني للكتابة عن سيرته واستذكار أدبه بالدراسة والتحليل.
انطون تشيخوف ( 1860- 1904)
- ولد في تاغارنوغ في روسيا وبدا الكتابة عندما كان في العشرين من عمره تحت اسم مستعار هو ((انتوشا تشيخونتا )) ، - تخرج طبيبا عام 1884 منحته الأكاديمية العلمية الإمبراطورية في بطرس بورغ جائزة بوشكين في عام 1888 - انتخب عضوا في جمعية محبي الأدب الروسي . - انتخب عام 1902 عضوا في الأكاديمية العلمية في بطرس بورغ .. كتب في أهم الصحف وقتذاك وقد زود تشيخوف خلال الأعوام السبعة الأولى من نشاطه الأدبي تلك الصحف بأكثر من أربعمائة أقصوصة ورواية وصوره قلميه وقد ظهر نتاجه الأدبي في تلك الفترة بالأسماء المستعارة ، دعي إلى التحرير في جريدة (نوفوي فرميا الروسية) فبدا يكتب أشياء ذات طابع جدي بعد أن كان يغلب على طابع كتاباته الفكاهة وأيضا بأسماء مستعارة ومنها ( حكايات ملبومين) بأسلوب فكاهي (قصص موتلي ) مجموعة قصصية (أغنية البجعة ) مسرحية في فصل واحد بين عامي 1886و1887 (شيطان الغابة ) كوميديا(في نور الغسق ) مجموعة أقاصيص (ايفا نوف ) مسرحية ذات أربعة فصول قدمها مسرح كورش في موسكو عام 1889فولديا قصة (الهاربون في سخالين ) انطباعات لزيارته إلى منفى سخالين للسجناء والوقوف على متاعبهم وماساتهم وكتب (ملاحظات رحلة ) نشرت في الصحف في حلقات متتالية في عام 1890عين مشرفا طبيا في النضال ضد وباء الكوليرا الذي تفشى في القرى والأرياف وقتذاك .. في عام 1892ذهب إلى مقاطعة نوقجورد ليساهم في صد المجاعة التي أصابت السكان هناك وأنشأ منظمة لتموين الفلاحين والفقراء ، قدم (طير النورس) على مسرح الكسندر نيسكي في بطرس بورغ ففشلت فشلا ذريعا قال حينها :( لن انس الليلة الماضية ماحييت ، ولن اكتب مرة أخرى تمثيليات ولن اسمح بإخراجها على المسرح ) في 1896 كتب(طير النورس ) كوميديا في أربعة فصول ونشرت وقدمت على مسرح موسكو الفني بنجاح عظيم وفي عام 1898قدم (العم فانيا) على مسرح موسكو الفني عام 1900بدا الكتابة في (الشقيقات الثلاثة ) 1901قدمت كعمل مسرحي على مسرح موسكو ولاقت نجاحا وفي نفس العام تزوج (اولكا كنيبر )وهي ممثلة في مسرح موسكو الفني في عام 1903كتب (بستان الكراز) كوميديا في أربعة فصول ، في عام 1904انتخب رئيسا لجمعية الأدب الروسي وفي نفس العام (كتب العروس )قصة (فتاة الكورس)(قصة رجل مجهول )(كان لي ذات مرة حبيبة اسمها ميزيس ،إني اكتب عنها).. شخص فيه الأطباء مرض السل وبنصيحتهم انتقل إلى شبه جزيرة القرم مداراة لصحته ومن ثم انتقل إلى بادن فيلر وهي قرية في ألمانيا (إن السعال يقلقني ،وخاصة عند الفجر ،ليس هناك شيء خطير حتى ألان ) في عا م 1904هاجمه نزيف رئوي وتوفي 2تموز في بادن فيلر في ألمانيا عن عمر 44عاما ودفن في موسكو.
سقت هذه المقدمة البسيطة والمقتضبة عن كاتب مبدع حظيت كتاباته بنصيب وافر من الانتشار والذيوع بين قراء العربية وما ترجم إليها من إعمال أدبية عن الروسية والانكليزية ومقالات نقدية تخص مبدعها تشيخوف الكاتب الروسي اللامع ومازال خزين كتاباته إلى ألان يتداول بين دراسة وبحث وتذوق ،إلا إن القليل ممن يهمهم الأدب العالمي في حواضرنا الثقافية من يعرف سيرة هؤلاء المبدعين ومعرفتهم عن قرب أكثر من خلال الإشارة بنبذة عن حياتهم وضرورة معرفة الجوانب المضيئة في مسيرة حياتهم الإنسانية .
إن أول ما يلفت نظر الدارس لحياة تشيخوف تلك العاطفة الجياشة التي تختلج في صدره بحب الحياة وحب الإنسان ، فعلى الرغم من انه قاسى ألوانا من العنت والآلام منذ ولادته حتى مماته إلا انه لم يضق يوما ذرعا بالحياة ، ولم يشعر بالاشمئزاز نحو البشر ، فلقد ولد في بيت فقير ، وعاش طفولته في جو عابس متجهم . وبينما كان زملاؤه تلاميذ المدرسة يقضون وقتهم باللعب بعد خروجهم من المدرسة كان عليه أن يقضي الوقت في حانوت أبيه البقال لمساعدته ،انهى دراسته الثانوية وضاعف جهوده في العمل ليكسب من المال ما يمكنه من الإنفاق على أسرته وعلى مواصلة دراسته في كلية الطب بجامعة موسكو وامتهن الصحافة في هذه الفترة من حياته فكان يزود عدة صحف ومجلات فكاهية بالصور القلمية والإخبار والأقاصيص الهزلية ، والمدهش أن يكون لشخص يعيش تلك الحياة القاسية هذه المقدرة الرائعة على كتابة الأشياء الفكاهية .
- لقد قضي انطون تشيخوف الأعوام الأربعة والأربعين في حياة مشرفة وكان أدبه في الواقع صورة صادقة لتلك الحياة المجيدة . لقد أوقف حياته لخدمة الإنسانية ،من خلال مهنة الطب التي كان يمارسها بالمجان للفقراء ،حينما انتشر وباء الكوليرا في روسيا عام 1892 إذ انه هجر الكتابة والتحق بالجان الطبية كمشرف صحي ، لم يدع تشخوف فرصة يستطيع أن يؤدي فيها خدمة للإنسان إلا واستغلها رغم صحته المعتلة ، كان عطوفا على المعذبين فقد خطر له عام 1890 أن يحقق في حالة المسجونين بالإشغال الشاقة الذين تبعدهم السلطة إلى شبه جزيرة سخالين وشد الرحال إلى سيبيريا إلى تلك المنطقة النائية وهناك اتصل بكل سجين من ساكني تلك المستعمرة البالغ عددهم عشرة ألاف سجين ،وأستقصى أحوالهم ثم اصدر كتابا بعنوان (الهاربون إلى سخالين ) يعتبر الدراسة الأولى من نوعها في مبحث وإدارة السجون وقد كشف فيه عن وحشية الحكومة القيصرية آنذاك في معاملة الشعب .
وفي رسالة أرسلها تشيخوف إلى صديق له يشرح فيها ما يعانيه وعن نقمته على زمن الظلم نوردها هنا وهناك الكثير من الرسائل التي سنوردها أيضا في هذا المبحث تؤكد إن تشخوف يعيش هم الإنسانية بلا تصنع..
(أنت تريد تاريخ حياتي ؟ ..إنني أقاسي من مرض اسمه ((تاريخ الحياة)) إن قراءة خصوصيات عن حياتي ،بل كتابتها ليقرأها الناس ،وهو امر اشد سوء،لعذاب حقيقيا لي ، وفي طي هذه الرسالة في ورقة منفصلة بعض الحقائق القليلة العارية كليا ولست استطيع أن افعل شيئا أكثر من هذا ).
- لقد كان صادقا مع نفسه ومع الناس وكان يحارب في شتى المجالات كان همه الأول والأخير نصرة الإنسان فهو لايتصنع في حنوه على الفقراء فلقد انشأ في القرية التي يقطنها والقرى المجاورة عدة مستشفيات على حسابه الخاص وشيد بضعة مدارس أيضا على نفقته وحث الحكومة لتشييد مدارس أخرى للفقراء ،هكذا نلمس سعي تشيخوف الدائب – قولا وفعلا – للقضاء على عدوه الأكبر الانحطاط بكل لون من ألوانه ، وحول ذلك يقول الكاتب مكسيم غوركي : كان الانحطاط عدوه الأول ، وكان يناضل ضده طوال حياته ، ويحاربه بقلم ساخر حاد الشفرة ) لم يكن تشيخوف يكتب عن الفقراء أو أفراد الطبقة الوسطى والمعذبين وهو قابع بين جدران بيته أو من مصائف الاستجمام وفنادق خمس نجوم في بلدان أخرى خارج وطنه كما يفعل اغلب كتابنا الكبار للأسف،ولاشك إن الفضل الأكبر في قوة أدبه يرجع إلى ما فيه من صدق .كان يحاول جهد استطاعته أن يتغلغل في أعماق مجتمعه ، ويندس بين جماعات الناس البسطاء ، يصغي إلى أحاديثهم ، ويستمع شكواهم ، ويلتمس مشاكلهم ،وعدته ملاحظة دقيقة حادة لا تفلت في مجالها أدق الإشارات واللمحات فإذا أدركنا ذلك أدركنا لماذا جاء أدبه نموذجا عليا للأدب الرفيع ، فياضا بأرق العواطف وأدق أللفتات الإنسانية .
- كان تشيخوف يصرح دائما انه لايمكن للكاتب أن يخلق المواضيع من ذاته ، بل ينبغي عليه أن يحتك بحياة الناس ويسمع أحاديثهم ويحاول فهم مشاكلهم ، وبذلك يستطيع أن يعبر عنهم بصدق وكمال . (على الكاتب أن يكتب دون أن يفكر في شكل كتاباته على الإطلاق ،بل يدع هذا الشكل يسيل تلقائيا من نبع روحه ) ما أجمل هذه الكلمات التي يعبد فيها تشيخوف الطريق للحداثة التي تسود مجالات الأدب والفن في وقتنا الحاضر وقد فعل .
و قال ذات مرة واصفا نشاطه المسرحي إن مسرحياته ليست سوى كوميديات خفيفة : ولكن احد من النقاد والكتاب لم يتفق معه على هذا الرأي ابدأ ، ورد إن الحزن الذي يوشم قصصه ومسرحياته هو إن الكآبة للكاتب الروسي كالبطاطس المتواضعة بين يدي طباخ فرنسي بارع فهو يستطيع أن يطبخها في مائتين طريقة مختلفة .
إن المميزات الرئيسية لموهبته الفذة في فن القصة هي التحليل الداخلي (وهو أكثر رأفة وطبيعيه وأملا من تحليل ديستوفسكي) من حيث الملاحظة الدقيقة ، والإشراق ، والرقة ، الفكاهة العذبة ، الرأفة ، الفهم العميق ،التهكم الخفيف والريبة المتحركة للعاطفة التي تقترب من الحزن ، ولقد كان مثل تشيخوف الأعلى مجتمعا صحيا مثقفا ليس لروسيا فقط بل للإنسانية جمعاء .
لقد اتفق اغلب القصصيين في العالم آنذاك على اعتبار انطون تشيخوف أستاذ القصة القصيرة بلا منازع ، والواقع إن القصة القصيرة تدين له بفضل كتابتها على الوجه الأكمل ، فقد أدرك إنها ليست أداة للتسلية كما فيها كثير من الكآبة ، بل هي وسيلة للتعبير عن الحياة واكتشاف مجاهل محورها (الإنسان ) كي نرسم له حياة مثالية مجردة من الأخطاء والحماقات . لهذا كانت ميزة قصصه إنها بعيدة عن (التهريج القصصي ) الذي لجأ إليه كثير من كتاب القصة في العالم آنذاك وحتى في وقتنا الحاضر ، أولئك الذين حسبوا إن القصة عبارة عن حشد من الحوادث المسلية أو المحزنة تصاغ بقالب ينتزع إعجاب القارئ لذا وجب أن تثير بدايتها ((الاهتمام)) وتترك خاتمتها ((الدهشة والاستغراب)) .
إما تشخوف فلم يعبأ (بالبدايات المثيرة للاهتمام ولا النهايات الداعية إلى الاستغراب) ولم يحشد الحوادث تحشيدا بل كتب القصة باعتبارها قطعة من صلب الحياة لذلك يستشعر قراؤها حرارة الحياة في شخصياته ، فهم ليسوا مجرد أسماء على الورق تجري لهم حوادث معينة بل كلا منهم شخص حي يتمثل حركاته وسكناته ويتجاوب معه في أفراحه وأحزانه . لقد اثبت تشيخوف إن القصة مادامت تعالج شؤون الحياة فيتحتم عليها أن تكون طبيعية كالحياة .انظر قصص (الزوجة)و (الصرصار) و(المعلمة )و(في الطريق العام )(فتاة الكورس)0(الساحرة) ومسرحياته التي لاتنفك عن تشريح هموم الإنسان بمبضع الرأفة الحسية وتقديم قضاياه على طاولة البحث في ذهن القارئ.
وكثير من النقاد ممن عاصروا تشيخوف صرحوا علنا إن قصص تشيخوف لا تخلو من جفاف يبعث الملل في النفس . ولكن الواقع أن القارئ المتذوق للأدب يشعر بمتعة لاحدود لها في قراءتها ،على الرغم انه لم يتكلف الحوادث المثيرة فالقارئ يجد نفسه مستغرقا في متابعة قصصه بشغف عظيم ، وكأنه يشارك إبطالها حياتهم ولا سبيل إلى تركهم ، ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى قوة الحياة المتدفقة في قصصه والى صدق حوادثها وواقعيتها والى وضوح مشاعر إبطالها .. ولم يصب تشخوف هذا النجاح العظيم من القصة القصيرة فقط بل أصابه في المسرحية أيضا ، مع أستاذيته في فن المسرح والتي ماتزال مثار جدل بين النقاد والى وقتنا الحاضر ، لقد سار في مسرحياته على نفس الأسلوب الذي كتب به قصصه مبتعدا بها عن التهريج المسرحي ضاربا صفحا عن الحوادث الغريبة المشوقة والخداع المسرحي . إذ أن جميع شخوص مسرحياته أناس بسطاء اشد ما يلفت النظر إليهم عواطفهم الحزينة الهادئة ، وحياتهم المعذبة ، ومشاعرهم وأفكارهم الإنسانية العميقة . ومع انه لم يكتب سوى مسرحيات قليلة إلا انه يقف على صعيد واحد مع هنريك ابسن ، ووليم شكسبير إن لم يفقهما .
في مجال المسرح ليس ثمة شيء من مسرحياته قد رتبت من اجل المسرح ومع ذلك فتكنيكه وبراعته حيرت المشتغلين بشؤون المسرح حاول أن تحذف مقطعا من إحدى مسرحياته بشرط أن تكون حساسا تجاه العمل المسرحي لوجدت ذلك مستحيلا . إن مسرحيات تشيخوف وان كتبت بلا ريب لتمثل إلا إنها من أصعب المسرحيات ، فلكي تعبر عما في شخصياتها فلا يمكنك أن تكذب في مسرحيات تشيخوف ، ليس هناك مفر لا يمكنك أن تعبر عن بساطة جوهرية بالخدع والألاعيب المسرحية . ولهذا يبدو إن فرصة النجاح في تمثيل مسرحيات تشيخوف أكثر توفرا لمجموعة من الممثلين يربطهم رباط متين من الرغبة المخلصة العميقة في القيام بتمثيل تلك المسرحية من مجموعة نجوم المسرح الكبار الذين يحاول كل منهم أن يظهر نفسه بمظهر المتفوق وقد دعمت هذا الرأي التجربة .
إن اشد الأقوال افتراء على تشيخوف هو ذلك الحكم الذي يطلقه بعض النقاد على مسرحياته من إنها كئيبة مبطنة ، متشائمة ، ويدحض هذا الرأي ما سطره في مسرحية (الشقيقات الثلاث ).. رجل يشقى في حياته اليومية يعذبه عدم احتفال الناس به ، وقصورهم تجاهه ومع ذلك كانت صرخة حياة ( دائما عندما يمر الوقت قصير أكثر قرنان أو ثلاثة قرون أخرى فسيتأمل الناس نوع حياتنا في رعب وجزع وسيبدو لهم كل شيء من أشياء اليوم فضيعا ومرهقا وغريبا جدا وغير مريح ..أوه.. يالها من حياة رائعة تلك التي ستحقق للناس في وسعكم أن تتصوروا فقط ، سيأتي الوقت الذي يتغير فيه كل شيء ويصبح كما تشاءونه سيعيش الناس في طريقتكم بل ستصبحون انتم أيضا طرازا قديما ،سيولد الناس الذين يكونون أفضل منكم ) . وفي آخر مسرحيات تشيخوف ولنقل أعظمها وتحديدا في (بستان الكراز) يقول الطالب المسلول صاحب المثل العليا والأمل القوي بالحياة ومستقبلها : (( إن هدف وغرض حياتنا هو إقصاء الأشياء التافهة الوقتية التي تقف في طريق حريتنا وسعادتنا نحن نتقدم إلى الإمام بشكل لايقاوم نحو النجمة المتلألئة التي تشرق هناك في البعد ، لاتنكفأوا في المؤخرة أيها الأصدقاء تلك هي السعادة هاهي ذي تقبل إنها تزداد اقترابا إنني اسمع خطاها .. وإذا لم يكتب لنا رؤيتها ، إذا لم نستطع تلمسها أبدا فماذا يهم ؟ سيذوقها الآخرون بعدنا )) .
- كيف يسمى صاحب مثل هذه المثل العليا متشائما !؟ من المؤكد إن التشاؤم أكبر نقيض لأصحاب المثل العليا لقد كان لتشيخوف ثقة عميقة في فوز الإنسان النهائي في معركة الحياة بكل ما في هذه العبارة من معنى ، وهذا ما يدعونا إلى التأكيد انه كان متفائلا عظيما . ( هناك أماكن كثيرة جميلة تصوري يا أينا أن جدك وجميع أجدادك كانوا عبيدا للملاكين ملاكي الأرواح ومن كل شجرة كراز في البستان في كل ورقة ومن كل جذع هناك مخلوقات بشرية تنظر إليك إلا تستطيعين سماع أصواتها . ياللفضاعة إن بستانك شيء مخيف وحينما يتمشى الإنسان حولها عند المساء يرى لحاء الشجر القديم يلتمع بكآبة في نور الغسق وتبدو أشجار الكراز القديمة كأنها تحلم بقرون طويلة قد عذبت خلالها بمشاهد مرعبة ( من بستان الكراز)..
- لم يكن تشيخوف يؤيد صراحة مذهبا من المذاهب السياسية ،لكن إعماله برهنت أكثر من مرة على اتجاهه الحقيقي ، فقد أعلن عن مبدئه في الحياة قائلا : (إنني أديب واقعي فوق كل شيء، ويهمني الجانب الحي في الوجود الإنساني قبل كل شيء ، ولست أكترث لأي شيء غير طبيعي ولست أؤمن بالأنظمة المطلقة ..إنني أحب الحرية أكثر من أي شيء .) وقد كتب تشيخوف مرة في رسالة بهذا الصدد إلى احد أصدقائه يقول : (أن أعظم ما أقدسه هو الإنسان وان ما أبغي تحققه له هو الذكاء والصحة والموهبة والحب ، والحرية المطلقة ، والتحرر من الجبروت والبهتان ) لم يخدم أي حزب أو برنامج أو كنيسة ، بل خدم (القيم البشرية ) التي قد يخدمها كل شخص من وجهة نظره الخاصة ، وكانت تساور بعض شخصيات قصصه ومسرحياته أحلام يائسة تصور زمنا بعيدا تحل فيه العدالة والعقل والنزاهة . وقد أعلن مرة على لسان احد شخصيات قصصه قائلا : (أذا كانت الحياة عديمة الرأفة برجعيتها فلابد أن نواجهها بصلابة مشابهة في النضال من أجل الحرية )
إن الأمثلة التي تواجهنا في قصصه دائما هي رجل أو امرأة أو طفل يحس أحساسا عميقا أنه يعيش في قيد . وهو في أغلب قصصه يقدم لنا المشاعر التي تنتاب الشخص ، ولكنه لايقدم لنا حلا لمشكاته ، ولا يخرجه من مأزقه ، ولو درسنا الأعوام التي ظهرت فيها أحسن أعماله لوجدناها تتفق في فترة الانتكاس السياسي آنذاك ورد الفعل النفسي وهذا يلقي الضوء على سبب اصطباغ أدبه بتلك الصبغة .
ويقتصد تشخوف في الوصف عموما ذلك الوصف الذي يجعل من وصف المنظر الطبيعي دعامة هامة ترفع من قيمة العمل الأدبي بما فيها من عرض للتجربة الإنسانية غير المنتهية تقدم لنا حياة حقيقية كاملة .
وهذه رسالة خاصة كان قد بعثها الكاتب الروسي مكسيم غوركي إلى تشيخوف حول أنطباعاته حينما شاهد مسرحية (العم فانيا) تدعم ما ذهبنا إليه من صدق مشاعر وتفان في منجز تشخوف الأدبي بشهادة كاتب معروف لا يقل شهرة ومن مجايلي تشخوف جاء فيها : (لقد شاهدت المسرحية منذ بضعة أيام ، ولقد بكيت كامرأة طيبة رغم أني بعيد عن أن أكون عصبيا ، وعدت إلى منزلي وأنا في دوار وقد قلبتني مسرحيتك رأسا على عقب ،حينها كتبت لك رسالة مطولة ثم مزقتها . أن المرء ليخونه التعبير الواضح عما تثيره هذه المسرحية في أعماق النفس ، أنه ليس سوى شعور ، غير أنه يخيل إلي عندما أنظر إلى أبطالها على خشبة المسرح كأنه ثمة منشار ا مفلولا يعمل في كياني تقطيعا أن أسنانه تنفذ مباشرة إلى القلب الذي يتقلص تحت وطأة نهشها له ويئن وتمزق ، أن مسرحية (العم فانيا ) عمل رائع بالنسبة إلي أنها دستور لمسرح جديد كل الجدة ، ومطرقة تهوي بها على رأس الجمهور الفارغ ، هل تكتب درامات ؟ أنك تفعل ذلك على شكل يستدر الإعجاب . عندما شرع الطبيب في العم فانيا يتحدث عن حرارة الطقس في أفريقيا أخذت اهتز وجدا أمام عبقريتك وذعرا أمام الإنسانية أخذت اهتز أمام وجودك البائس الذي لا لون له ، أنك لتضرب هنا في الصميم ولكم تحكم الضرب أنك تتمتع بموهبة فياضة ، ولكن قل لي أي مسمار تود أن تغرز بمثل هذه الضربات ؟ هل أنت بهذا تحيي الإنسان ؟ مانحن في الحقيقة غير أناس يورثون الضجر ،أناس مقيتين ، وأن على المرء أن يكون غولا من غيلان الفضيلة حتى يستطيع أن يحب هذا اللاشيء .. أنني لا أنتحب أنا البعيد أن أكون رجلا فاضلا عندما أرى (العم فانيا )والآخرين معه رغم أن الحماقة بعينها أن يفعل المرء ذلك ،وأشد حمقا منه أن يصرح به ،يخيل إلي كما ترى أنك تعامل الناس في مسرحياتك ببرود الشيطان ، أنك كالثلج في مبالاتك كالعذاب .. عبثا يمتدحونك ، أنهم لم يقدروك حق قدرك . وأنه ليبدو أنهم يسيئون فهمك ) .
- من المؤكد أن تشيخوف فهم الناس – الناس الاعتياديين – كما لم يفهمهم أي كاتب آخر في الأدب الحديث . لقد كان موهوبا بمقدرة لا تتخيل الرؤية أخطائهم والابتسام لها ، وتقدير أفراحهم ومشاركتهم بها ، وتلمس أحزانهم وذرف دمعة من أجلها ، ورأى برقته وحنانه المتناهي أن الإنسان ليس رديئا ولا طيبا ، ليس سعيدا ولا شقيا ، ليس قويا ولا ضعيفا ، بل خليط من كل هذه الصفات في آن واحد ولقد صيغ أدبه من فهم عميق للحياة فهم درامي وفكه لحقيقة الحياة .. - سيظل أدب تشيخوف خالدا محافظا على سحره إلى الأبد مهما تجددت الحياة ومر الزمن .. الزهور المنبثقة من الأرض ،النجوم المتلألئة في السماء ، الدموع الملتمعة في عيني طفل ، غموض الموت ، الحب ، الولادة ، وكل شي تحدث عنه تشيخوف بفهم في الماضي وستترك نفس المفعول في نفوس الناس في المستقبل . إن أدب تشيخوف سيظل حيا لأنه ابن كل زمن، أبن كل شيء ، لأنه فهم الواقع من قممه الموضوعية وقدم الناس كما هم بدون تفضيل أو ميل شخصي لقد أبدع تشيخوف في تخيله الصادق البعيد المدى ويكفيه فخرا انه حارب الانحطاط بكل ما أوتي من إبداع وأقحم روح الجمال في حياة البائسين وهي مهمة لا تليق إلا بمن هم ولدوا إنسانيون أحرار .
التعليقات (0)