السمات العامة لأزمة الرأسمالية العالمية
تتميز أزمة الرأسمالية العالمية الحالية بالحدة والشمولية. ويكاد يجمع المحللون على أنها الأخطر مند الأزمة التي هزت الاقتصاد الرأسمالي في سنوات الثلاثينات. خلافا للأزمات المتواترة خلال العقدين الأخيرين بمحيط الاقتصاد الرأسمالي المعولم، انطلقت الأزمة الراهنة من داخل القوة الاقتصادية الرأسمالية العظمى، وانتشرت بسرعة عبر مختلف مناطق العالم، بخاصة القوى الرأسمالية الكبيرة الأخرى. وتحول الانهيار المالي، إلى أزمة اقتصادية تطول الأنشطة الإنتاجية الحقيقية، التي تشهد ركودا اقتصاديا، وانخفاضا في الاستثمار، وصعودا مذهلا للبطالة. كل ذلك، بعد أزمة القروض العقارية الرهنية عالية المخاطر في الولايات المتحدة الأمريكية، التي جففت السيولة في الأسواق المالية، وأدت إلى إفلاس العديد من البنوك وشركات التأمين(أكثر من 100 مؤسسة حتى الآن في أمريكا وحدها).
إننا إزاء أزمة شاملة ومركبة للنظام الرأسمالي: أزمة اقتصادية، واجتماعية، وغذائية، وبيئية، وإنسانية. إنها أزمة مركبة، لفيض إنتاج للسلع، وفرط تراكم للرأسمال، وشح الاستهلاك. استفادت الحكومات البرجوازية من دروس أزمة 1929، وسارعت إلى ضخ مبالغ مالية هائلة في الاقتصاد [5 تريليون دولار]، على ظهر دافعي الضرائب الذين لا مسؤولية لهم في الأزمة. اتاح الأمر في أقصى الحدود تخفيف حدة مفاعيل الأزمة بدون القضاء عليها. وتظل التريليونات التي استدانتها حكومات العالم، لإنقاذ النظام المالي من الانهيار، ديونا مستحقة سيتم سدادها باعتماد سياسات تقشف قاسية مستقبلا. هذا ما يهدد بمرحلة أشد خطورة في الأعوام القادمة. وأقوى دليل ما يجري الآن في قلب الرأسمالية الأوروبية، بكل من اليونان وإسبانيا والبرتغال وايرلندا، وتحليق شبح التقشف على دول الاتحاد الأوروبي برمته.
تشير التقديرات الحالية إلى أن الاقتصاد العالمي سيواصل الركود، و الأزمة المنطلقة قبل أزيد من سنتين لن تضع أوزارها بعد. وستكون البلدان التابعة، الحلقة الأكثر هشاشة في النظام الرأسمالي، مسرحا لتداعيات رهيبة، فالتجربة على مر تاريخ الرأسمالية دلت على أن أزمات المراكز الامبريالية تنتج كوارث مهولة في دول المحيط. فالأزمة الحالية ستزيد من سوء أوضاع الفئات الشعبية التي أنهكتها السياسات الإجرامية المتمثلة في آلية الديون الناهبة، والمجاعة الناتجة عن التبعية الغذائية، والبطالة الجماهيرية المستشرية نتيجة تدمير القطاعات الإنتاجية من جراء المنافسة الأجنبية، وخصخصة المؤسسات العمومية الكبرى، الخ.
هذا ما يجعل اقتصاد المغرب مقبلا على مواجهة مصاعب وتقلبات مرتبطة بكيفية اندماجه في الاقتصاد الرأسمالي العالمي.
تعميق أزمة اقتصاد مأزوم أصلا
ظلت السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة رهينة التوجهات الليبرالية الجديدة زهاء 30 سنة، بهاجس الحفاظ الصارم على استقرار المؤشرات الاقتصادية الكبرى، خاصة؛ عجز الميزانية، و نسبة التضخم ونسبة المديونية. مع ذلك ظل عجز الميزانية مرهونا لفترة بموارد الخوصصة الظرفية. وانعكس التحكم في التضخم بفقد القدرة الشرائية، ما أثر سلبا على فعالية السوق الداخلية، و ظل النمو الاقتصادي هو الآخر مرتهنا بحصيلة الإنتاج الفلاحي المتقلب، وبتغيرات السوق الرأسمالية العالمية، ونتائجها المدمرة، التي ترهن مصيره عبر اتفاقات التبادل الحر، والانفتاح الشامل.
سبق أن أكدت تقارير رسمية عديدة في السنوات السابقة على أن ضعف مردودية الاقتصاد المغربي مرتبطة بفترات الانحسار الاقتصادي التي يمر منها الاقتصاد العالمي، وخصوصا على صعيد دول الإتحاد الأوروبي. وينطبق نفس الأمر على الأزمة العالمية الحالية التي ستنتقل نتائجها إلى المغرب عبر طرق حقيقية مرتبطة بالمبادلات التجارية وحجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتدفق أموال المساعدة الدولية على التنمية، والقروض الموجهة للخزينة والمقاولات الكبيرة، وتدفق تحويلات المهاجرين. يتعلق الأمر، باقتصاد مأزوم أصلا، ترهن تبعيته المطلقة للامبريالية مصيره، إنتاجيا، وغذائيا، وتكنولوجيا، وماليا، وسياسيا... وتديم تخلفه، وتفاوت بنيته الإنتاجية التي تجمع بين بنية حديثة متطورة موجهة بشكل شبه كلي للتصدير، وبنية هشة وبالية موجهة أساسا للسوق الداخلية.
الآثار الاقتصادية للأزمة العالمية لا زال أفق تجاوز الأزمة غامضًا وغير مؤكد. فبعد أن تمكن المغرب، في مرحلة أولى، على غرار مجمل الدول المتخلفة، من تفادي الأزمة المالية بفضل ضعف اندماج نظامه البنكي والمالي في الأسواق المالية الدولية، تأثر بانعكاساتها ابتدءا من النصف الثاني لسنة 2008، سواء على قطاعات التصدير، أو الأنشطة السياحية، أوتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، و كذا على تدفق الاستثمارات الخارجية.كما كشفت الأزمة الحالية عن العوائق الهيكلية التي تشل اقتصاده الهش، ومن جملتها ضعف احتمال الميزانية، وضعف التنافسية الاقتصادية، وتفاقم العجز التجاري، وضيق السوق الداخلية...
عجز تجاري بنيوي، مرشح للتعمق . لقد تعمق العجز التجاري سنة 2008، نتيجة تضافر ارتفاع الواردات القوي، وخاصة النفط (36,2% مقابل 16,8% سنة 2007 ، وضعف تطور الصادرات. سجل المغرب عجزا تجاريا تجاوز 5.4 مليار درهم مع فرنسا الزبون والمزود الأول حتى متم أبريل من السنة الجارية، وعجزا بقيمة 4 مليار درهم مع إسبانيا الزبون والمزود الثاني. ويبقى معدل تغطية الصادرات للواردات ضعيفا بنسبة 45 في المائة، في حين ارتفع معدل انفتاح اقتصاد البلد على الخارج أزيد من 60 في المائة. الصادرات المغربية مهددة بشدة لانخفاض قيمة اليورو.
لن تتمكن الصادرات من تفادي العاصفة، فجزءها الأكبر مكون مواد أولية. ستتضرر ليس فقط من انكماش الاستهلاك في الدول المستورِدة الأساسية، الاتحاد الأوروبي، بل أيضا بسبب المنافسة المحمومة بين دول العام الثالث على هذه الأسواق المنكمشة.
تحويلات المغاربة من الخارج تشكل تحويلات المهاجرين بين 8 و9 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وهي المصدر الثاني للعملة الصعبة، بعد عائدات السياحة. وساهمت هده التحويلات حسب بعض الدراسات الرسمية في تقليص الفقر بأكثر من أربع نقاط في الفترة 1990ـ2004. وبفعل الأزمة تقلصت بنسبة 5.4 في المائة سنة 2009 ، بعد أن سجلت نقصا بنسبة 3.5 في المائة سنة 2008. وهي مرشحة لمزيد انخفاض نظرا لوضع الكساد ببلدان المهجر. حيت تكشف الإحصائيات المتوفرة، أن معدل البطالة في صفوف المهاجرين بفرنسا تضاعف بأكثر من مرتين خلال سنة 2007 مقارنة مع معدل الأشخاص غير المهاجرين، وذلك على التوالي بنسبة2,15 في المائة مقابل 3,7 في المائة. ومعدل البطالة بين المغاربة في اسبانيا هو 21%, مقابل 14% بالنسبة للاسبان. وبالنسبة للأسر الفقيرة، فهي تشهد تقلصا لمواردها المتأتية من تحويلات المهاجرين. وقد يتأثر حجم تلك التحويلات أيضا بسبب انخفاض قيمة اليورو مقابل الدرهم. كما سيتضرر سوق العقار من تدهور أوضاع المهاجرين.
الاستثمار الأجنبي المباشر
تم دمج الاقتصاد المغربي في الاقتصاد العالمي عبر الاستثمارات الأجنبية المباشرة والعمل من الباطن. وفتح المغرب سوقه بشكل واسع للاستثمار الأجنبي المباشر، بخوصصة المقاولات العمومية. وتتضمن مدونة الاستثمار لسنة 1995 إجراءات هادفة لخفض كلفة الاستثمار وتسمح بحرية تحويل الرساميل الأجنبية المستثمرة والفوائض المحققة. هكذا، انتقل المغرب سنة 2003 من المركز الرابع إلى الأول بين البلدان العربية التي توجهت لها الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ويحتل المرتبة الثالثة أفريقياً. وبلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر بالنسبة للناتج الداخلي الخام 52% سنة 2006 مقابل 9,7 % سنة 1990. واحد عوامل الجذب الرئيسية هو كلفة اليد العاملة الرخيصة. وهذا ما يبينه تحسن مساهمته في الاستثمار العام، منتقلا من 1,36% كمعدل سنوي بين 1970ـ1990 إلى 12,39% بين 1991ـ2005.
أدت الأزمة تقلص الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة % 28,6، ومع مبادرة الدول المتقدمة(خاصة المصدر الأهم، فرنسا واسبانيا ودول الخليج) إلى تقديم التحفيزات للمقاولات المتضررة من الأزمة، بشرط مواصلة أنشطتها فوق ترابها، فإن تدفق تلك الاستثمارات ستشهد تراجعا ملحوظا في السنوات القادمة. وأيا كانت الإكراهات الداخلية بالاتحاد الأوروبي، فلن يقود ذلك على الأرجح لنقل هام لبنيات الإنتاج نحو الجار بجنوب المتوسط، لأن الرأسمال هناك ينتظر ما قد ينتج عن الأزمة من تحولات نوعية.
أثر الأزمة قطاعيا
تعاني كل قطاعات الاقتصاد من الأزمة الاقتصادية العالمية، المستحكمة أساسا بأوروبا الرأسمالية، والتي لا يبدو في الأفق حتى الآن أمارات خروج قريب منها. الأزمة في بداياتها، وبالتالي فإن انعكاساتها الأعنف قادمة، من هنا لا يمكن قياس قسوة الأزمة حاليا رغم أن رياحها نالت من عدة مرتكزات اقتصادية محلية، وحتى ما يسمى انتعاشا في هذا النصف الأول من السنة الجارية لا يعدو أن يكون نتيجة تقلبات غير متحكم بها إطلاقا. إنها تدبدبات أزمة تتعمق شيئا فشيئا.
. انتقل معدل النمو بالمغرب من 3,5% في 2004 إلى 1,7% في 2005، ثم إلى 7,3% في 2006، وإلى أقل سنة 2007 بنسبة 2,7%. هذه النتائج المتقلبة تفسر بشكل خاص بالتبعية القوية للخارج وبالشروط المناخية. هكذا أضر ضعف الطلب الأوربي على صادرات المغرب، وإلغاء الاتفاق متعدد الألياف، والمنافسة الصينية، وجفاف شديد، بالنمو الاقتصادي سنة 2005. في حين كان أصل النمو العالي سنة 2006 حصيلة إنتاج فلاحي استثنائي، ويفسر ضعف التساقطات المطرية النمو الضعيف سنة 2007(2,7% بدل 6,2% باستثناء الفلاحة). في سنة 2008، بلغ النمو نسبة 5,6% مقابل 2,7% سنة 2007، بشكل خاص، بفضل موسم فلاحي جيد. مع ذلك، ظهرت علامات ملموسة لأثار الأزمة العالمية، بدء من الفصل الرابع من 2008، وخلال الفصل الأول من 2009، عبر انخفاض نشاط الصناعات التصديرية (النسيج والفوسفات والسيارات والجلد)، تبعا لانخفاض بلغ 4 في المائة للطلب الخارجي الموجه للمغرب. وسجل النمو الاقتصادي 4.9 في المائة سنة 2009 بفضل سنة فلاحية ممتازة. انتقل معدل التضخم إلى 3.9 % سنة 2008، مقابل 2 % سنة 2007، بفعل ضغط أسعار المواد الغذائية والمواد الطاقية المستوردة، وبفعل ارتفاع فاتورة النقل الخاص أيضا.
تأثر قطاع النسيج أكثر من باقي القطاعات بالأزمة، حيث تم إحصاء أزيد من 50000 منصب شغل مفقود سنة 2008 (يشغل قطاع النسيج 200000 أجير) وفقد 10 في المائة من مناصب الشغل سنة 2009، وتتعلق فقط بالشغل المفقود لدى 715 مقاولة عضو بالجمعية المغربية لصناعة النسيج والألبسة الجاهزة، أي 44.4 في المائة من مجموع مقاولات القطاع.
أظهرت صادرات قطاع السيارات، وبشكل أقل، صادرات القطاع الإلكتروني، نتائج إيجابية ب 42% و 2,7 % على التوالي. في حين سجل قطاع النسيج انخفاضا بنسبة 32% بالمقارنة مع المستوى الذي سجله في أبريل 2009. من جانبه بدأ قطاع صناعة الطائرات الذي لم تنل منه الأزمة سنة 2009، في إظهار أثر تأجيل الطلبات من طرف الزبناء الكبار مسجلا تراجعا بنسبة 30.3% .
وحتى مبيعات الفوسفات ومشتقاته تراجعت ، بعد أن سجلت نمو قويا بداية 2008،. ولم تنم الصناعة سوى ب 2,8 %، أي أقل من الميل الذي سجلته في السنوات القليلة السابقة للأزمة، بفعل فتور النسيج والإلكترونيك.
ورغم استقرار عدد ليالي المبيت بالنسبة للسياح المقيمين فإن مبيتات السياح انخفضت بزهاء 3 في المائة سنة 2008. وعدد الغرف المشغولة انخفض بأربع نقط. تشكل عائدات السياحة مصدرا رئيسيا للإيرادات بالعملة الأجنبية تعادل 9 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بالنسبة للاقتصاد المغربي. وفي ظل معاناة أوروبا من زيادة معدلات البطالة، واضطراب نمو الأجور، وتعرض جهود الأسر من أجل إصلاح ميزانياتها لأضرار جسيمة ناجمة عن انهيار أسواق المال عام 2008، ودخول الركود الاقتصادي بعد ذلك، فهذه العائدات السياحية مدعوة للتراجع.
وبشكل عام، ستؤدي نتائج الأزمة المالية العالمية إلى تراجع ملموس للنشاط الاقتصادي ولمعدل النمو الذي فقد نقطة سنة 2009. كما ستؤدي إلى مزيد من الضغط على ميزانية الدولة ومواردها، في الوقت التي تعرف فيه مداخيل الدولة تقلصا ملحوظا من جراء إجراءات الانفتاح. وبالتالي تراجع كافة إجراءات الترقيع لدعم للقدرة الشرائية، وميل معدل التضخم إلى الارتفاع بنسبة 4.5% لأول مرة منذ سنوات عديدة، حسب تقديرات المركز المغربي للظرفية.
إلقاء أعباء أزمة النظام الرأسمالي التابع على الطبقات الشعبية
من أين للدولة الموارد المالية اللازمة لتغطية العجز الكارثي الذي سيزداد حدة؟ ستحاول أولا، أن تقلص نفقات الأجور، و عدد الموظفين والمستخدمين، و نفقات الميزانيات الاجتماعية كالتعليم والصحة والسكن، والسير نحو إلغاء صندوق المقاصة الذي يدعم مواد الاستهلاك الأساسية. ومن ناحية تنمية الموارد، ستلجأ إلى آلية الديون الخارجية والداخلية، ثم الزيادة في الضرائب خصوصا غير المباشرة التي تهم المستهلكين بالدرجة الأولى مادامت تحرص على منح امتيازات ضريبية لأصحاب الرأسمال، وبيع حصتها في الشركات العمومية الكبرى المتبقية من عمل مات الخصخصة، وتكثيف عمليات التدبير المفوض للخدمات العمومية، وبيع أراضي الدولة.
البديل الشعبي: فك الارتباط بالإمبريالية
إن البديل الشعبي للخيارات البرجوازية التي تحكم علينا بالتخلف والجهل والحرمان يرتكز على إحداث قطيعة جذرية مع تبعية بلدنا للرأسمالية العالمية وفك الارتباط مع المراكز الإمبريالية في إطار إقليمي أوسع تمثل المنطقة المغاربية طوره الأول. ويستدعي ذلك إلغاء الدين العمومي الخارجي، وإلغاء جمع اتفاقيات التبادل الحر، وعمليات الخصخصة واستعادة الطابع العمومي لكافة المؤسسات العمومية المفوتة، وإلغاء كافة عقود التدبير المفوض المتعلقة بالخدمات العمومية، وتوجيه الإنتاج إلى السوق الداخلية، واستعادة سيادتنا الغذائية وضمان أمننا الغذائي بالتركيز على حاجيات الاستهلاك الأولية في مجال الفلاحة. وبالطبع تحتاج جميع هذه الإجراءات إلى رقابة شعبية متمثلة في نظام ديمقراطي مرتكز على السيادة الشعبية عوض المؤسسات التمثلية المزيفة الحالية التي تموه الحكم المطلق وتشرعن الإجراءات التي تفرضها المؤسسات المالية والتجارية العالمية.
التعليقات (0)