عودنا ساسة لبنان على الخروج من قلاعهم الحصينة و غير الحصينة إلينا فور انتهاء الموت من طقوس انتزاع الروح من جسد له باع طويل و صيت ذائع في عالم السياسة اللبناني...يخرجون، يقفون أمام المايكرفون، ينددون، يشجبون، يتهمون، ثم يعودون إلى قلاعهم آمنين...إن تيمة الموت اللبناني لا تثير شهية ساسة لبنان فقط، بل صارت مثيرة و مستفزة لشهية ساسة البيت الأبيض و الإليزي وآخرون لا وزن لهم حتى نأتي على ذكرهم الآن...فور تأكد مقتل بيير الجميل، انتظرت خروجهم تباعا، و انتظرت سهامهم الموجهة دوما نحو قصر بعبدا ببيروت و قصر المهاجرين بدمشق، و انتظرت بلاغتهم و فصاحتهم و بيانهم و براعتهم في استثمارهم السياسي للموت...انتظرت جنبلاط و جعجع على أحر من الجمر الذي يكتوي به لبنان و لا يكتوون...كان لاسمي جنبلاط و جعجع وقع خاص في أذني لما كنت صغيرا أتابع مع الوالد أخبار الحرب في لبنان، كان لهما جرس موسيقي خاص، لا أدري لماذا، المهم أنهما نقشا على صخرة الذاكرة رغما عني...و الأكيد أن لوقع اسميهما اليوم وقع من نوع آخر و هما يتوسطان الشيخ سعد الحريري و أمين الجميل...
و خرج سعد الحريري أخيرا، بل كان خارجا بالصدفة، أمام مايكروفونات الصحافة بالصدفة، يحدثهم عن وضع لبنان بالصدفة، جاءه خبر وفاة بيير الجميل بالصدفة، فصرح للصحافة بالصدفة أنهم بدؤوا بتنفيذ الاغتيالات التي وعدوا بها، و نسي أن يحدد من هم، لكنني و العالم كله كان يعرف المقصود بكلامه، ثم أردف قائلا بزهو أن يد سوريا في كل مكان، و كأنها يد الله، بعدئذ ارتعش وارتعدت فرائصه خوفا على ثورة الأرز حين قال أنها تتعرض للهجوم...المهم أن الشيخ الصغير في كل شيء باستثناء المال والأعمال و الاستثمار في الموت و الحياة و ما بينهما من غريب الأسرار يخرج كما انتظرت و يصرح بما انتظرت...
و خرج البيك من قلعته الحصينة، فهاجم قصر بعبدا و طالب باستقالة لحود أولا، ثم دعا بأعلى صوته إلى فرض رقابة جوية دولية بشكل منتظم فوق الحدود السورية اللبنانية لمنع تدفق الأسلحة والذخائر إلى داخل لبنان...هكذا هي قراءة وليد للفاجعة، و هكذا هي انعطافاته دائما باتجاه دمشق محور الكون بالنسبة إليه...طارت عنزة، حطت عنزة...واقترح البيك أن يُطلب من قوات اليونيفيل أو أي دولة مراقبة الحدود بين لبنان وسوريا من خلال هضبة الجولان معتبرا أن سوريا لا تستطيع الاعتراض على شيء يجري بالفعل فوق أراضيها المحتلة...وكأنه انتهى لتوه من تحرير لبنان من الاحتلال القديم و الجديد الذي أتى به هو و حلفاؤه، و كأنه -أيضا- لم يعد يقوى على التحرك داخل المعترك السياسي اللبناني من دون الأجنبي الأمريكي و الفرنسي و ربما حتى الإسرائيلي...و المدهش في تصريحه أنه توقع هو و حلفاؤه المزيد من الاغتيالات بهدف إنقاص عدد أعضاء الحكومة والمجلس النيابي...هكذا يقرأ جنبلاط الحاضر و المستقبل اللبناني، و هكذا يتعمد تقديم قراءة سطحية بئيسة للأحداث، و هكذا يؤكد إفلاسه السياسي و بلوغه مرحلة الإسفاف و الابتذال، كون الجميع حفظ أسطوانة وليد بيك...لا تحضره و هو يطالع الراهن اللبناني من المختارة أو البيت الأبيض غير سوريا و حزب الله...
و خرج جعجع من عين الرمانة و روح رشيد كرامي لا تزال تحوم حوله...ليصوب سهمه باتجاه لحود و سوريا، و يوظف الحدث خدمة لأهداف و مصالح فريق الرابع عشر من آذار، و يتوقع كما توقع حليفه مزيدا من الاغتيالات، فيمارس بذلك لعبة الضحك على الذقون التي ألفوا لعبها لتحريض الشارع و استجداء تعاطفه معهم...
و خرج بعدهم كثيرون...لفت انتباهي تصريح مصطفى علوش ممثل تيار المستقبل حين قال أن نظام دمشق ليس بحاجة لكثير من الأفعال ليكون في قفص الاتهام، و قد أصاب بذلك كبد الحقيقة، لأن العازمين على توريط سوريا في سلسلة الاغتيالات التي حدثت بلبنان لا يحتاجون لكثير من الأفعال لتكون دمشق في قفص الاتهام و هم مدعومون من لدن الولايات الأمريكية المتحدة و فرنسا و الأمم المتحدة و إسرائيل...
لو يلتفت سعد الحريري و وليد جنبلاط و سمير جعجع إلى تحليلات الأمريكيين الذين كانوا رحماء بلبنان أكثر منهم جميعا...حيث رأى محللون أن اغتيال الشيخ بيار الجميل قد يضعف الآمال في إجراء محادثات بين الولايات المتحدة وسوريا...إن الأمر سيصبح أكثر صعوبة في اعتقاد جاشوا لانديس الخبير في الشؤون السورية ومنسق دراسات السلام في جامعة اوكلاهوما الاميركية... إن سعي سوريا إلى التواصل مع العراق في الأيام الأخيرة ينسجم مع محاولاتها الماضية في تخفيف الضغوط الدبلوماسية عنها، بعد ان بدأ الخناق يضيق عليها في الامم المتحدة...فهل لعقل أن يصدق فرضية إقدام دمشق على حماقة قاتلة و في ظل الوضع الذي كانت تعيشه بعد مرحلة اغتيال رفيق الحريري ؟؟؟...
ليعلم وليد بيك وجعجع و الشيخ سعد أن بإمكاننا تصديق أصوات خصومهم على الساحة...بإمكاننا مثلا أن نردد بأعلى أصواتنا أن القاتل المدرك تماما لدقة الوضع اللبناني أراد بجريمته عرقلة التحرك الشعبي الذي دعا إليه حزب الله وقوى سياسية فاعلة في الشارع اللبناني وبالتالي التأخير بالسقوط المحتوم للحكومة فاقدة الشرعية (صحيف البعث السورية)...و بمقدورنا أيضا القول مع القائلين أن عملية الاغتيال هي محاولة اغتيال للتحرك الشعبي وهي أيضا طوق نجاة للحكومة. وأن اغتيال الجميل كما كانت الاغتيالات السابقة مادة للإساءة لسوريا (صحيفة الثورة السورية)...و باستطاعتنا القول أيضا أن توقيت الاغتيال قبل ساعات من جلسة مجلس الأمن الخاصة بإقرار مسودة المحكمة الدولية يثير الكثير من التساؤلات تصل إلى حد الربط بين الامرين بشكل كامل، و أن الأمر يصب أولا ضد مصلحة سوريا، لأنه أدى إلى تعطيل الحركات المساندة لسوريا في لبنان ولم يعد نزول حزب الله إلى الشارع ممكنا، بل على العكس، أصبحت قوى 14 آذار هي الآن مسيطرة وتقود الدفة (المحلل السوري أيمن عبد النور)...وبإمكاننا أن نصرخ بأعلى صوتنا في وجوهكم أنكم صرتم جند أمريكا في لبنان، و أنكم خدام سياستها الأوفياء بمنطقة الشرق الأوسط، و أنكم تنفذون إملاءات فرنسا - حتى لا يقلق الفرنسيون بسبب عدم ذكرهم- في لبنان ضدا على سوريا، و أنكم جزء لا يتجزأ من سياسة المحاور، و أنكم تنفذون أجندة إسرائيل الهادفة إلى تقويض الوجود السوري و إنهاء دورها المحوري بالمنطقة (إدريس الهبري – مواطن عربي بسيط )...
فهل يعلن فؤاد السنيورة استقالته كما فعل عمر كرامي على إثر اغتيال رفيق الحريري بعد أن اتهمتها المعارضة آنذاك بالتقصير أو التواطؤ في الاغتيال؟...ألم تقصروا أنتم فريق الأغلبية اليوم؟...ألا يحق للمعارضة اليوم أن تعقد اجتماعا طارئا مثلما كان اجتماعكم في قصر الحريري في العاصمة بيروت طارئا، وينتهي اجتماعها مثلما انتهى اجتماعكم بتوجيه بيان للشعب اللبناني يدعوه إلي إضراب عام لمدة ثلاثة و يدعو لتشكيل حكومة انتقالية؟؟؟...
التعليقات (0)