شيركو شاهين
sherkoo.shahin@yahoo.com
مع تجدد الربيع في هذه الارض المعطاء يستعد الكورد في مناطق تواجدهم للاحتفال بهذا العيد الوطني القومي مع اخوانهم من ابناء القوميات الاخرى بين احضان الطبيعة الخلابة بعد رحلة الشتاء والثلوج التي كللت قمم الجبال، حيث تدق الفصول الاربعة اجراسها ايذانا بيوم (النوروز) والذي استلهم عبقه التاريخي من ملاحم واساطير الامة الكوردية فيمسي حينذاك عيدا قوميا رمزه الاول الانسان المتحرر (كاوا الحداد)، وبين عيدي الطبيعة والانسان يكون الحادي والعشرين من اذار عيد الاعياد.
فشمس صباح النوروز اجمع الجميع على انها غير شموس بقية الايام وذلك لمعانيها المنتظرة، فمع تسرب اشعتها للعيون والاجساد تسري في النفوس الفرحة والطمأنينة فينطلق بعدها كل الى غايته فمنهم من يشعل النيران على مدى ايام الاحتفالات ومنهم من ينشد ويغني بعد ان يرتدون اجمل مالديهم بخاصة براعم الربيع من فتية وصبايا والتي يستمدون الوان ازيأهم من جنائن الارض وازهارها.
ماهو النوروز:
لتلسيط الضوء اولا على اصل تسمية النوروز والاسطورة التي تناقلتها الاجيال حولها، التقينا بالاستاذ (كاوران صديق)-باحث في اصول الحضارات- وعن اصل تسمية النوروز اجاب بالقول:
-يخطى الضان ان جذور هذا العيد حديثة العهد، فقد ذكرت البحوث والدراسات الى عودة اصول هذا العيد الى ماقبل ثلاثة الف سنة واكثر، حيث عرفته الحضارات القديمة (سومر وبابل ونينوى) وبتسميات عدة، ويعود اصل التسمية الى اللغة الفارسية حيث يعني النوروز (اليوم الجديد)، ورغم ما كان يمثله من رأس للسنة وعيدها لما يصادفه الانقلاب الفصلي وبدأ الاعتدال الربيعي، الانه استمد قيمته المعنوية الغنية بالعبر السامية من تبعاتها القومية الكوردية ومنبعها اسطورة (كاوا الحداد).
هلا وضحتم للقارى الكريم اصول تلك الاسطورة؟
-اختلفت اغلب الرويات على واقع هذه الاسطورة الا ان اكثرها قربا للواقع ما يروى عن انه قبل اكثر من (2000) عام كان هناك حاكم غاشم اسمه (الزهاك) الم به ورم خبيث بظهور ورمين على كلتا كتفيه فنصحه احد اطباء عصره ان يضع مخ شاب يافع على كتفيه كدواء لشفائه (وذلك بعد عجزه وبعد ان قتل كل الحكماء الذي عجزوا عن شفائه)..
ولكن وزير ذلك الحاكم كان نبيلا حيث عمد على فسح المجال الى هروب الشباب الذين كانوا ينفذون من ايدي حراس الملك الى الجبال، ويقال انه كان يقدم بدلا عنم (مخ شاه)، ومن ضمن اولائك الشباب كان (كاوا الحداد) ذلك الشاب اليافع الطويل القامة ذو البنية الضخمة والجميل المظهر، والذي رحل الى الجبال مع اقرانه للعيش في الكهوف ومغار الجبال ساعيا بعد ذلك الى للعمل على توحيد الشباب والفلاحين ليكونوا جيشا كبيرا وكرمز للتوحد عمد كل منهم على جلب حزمة من الحطب مع نهاية الشتاء وجمعها عند سفح الجبل فاوقدا من تلك الاحطاب نارا ارتفعت السنة لهبها الى عنان السماء وذلك اشارة لبدء الثورة وانهاء لحكم الطاغية والمصادف للحادي والعشرين من اذار.
وهناك قصة اخرى قريبة من هذه الفكرة، تنص على ان الحاكم الغشوم بعد ان التهم بظلمه جموع شباب القرية ومنهم ابناء (كاوا الحداد) وبعد ان فر العديد منهم الى الجبال وكهوفها البعيدة عن قراهم استطاع (كاوا الحداد) وبجهد خاص القضاء على ذلك الطاغية وبعد ان وصل الى راسه متنكرا بزي الحكيم ضربه على راسه بمطرقته التي كان يخفيها ضربة نزع بعدها عن حياتنه وعمد بعدها لتعريف اغلب الفارين من اصحاب القرى والمدن باشعال نار عظيمة على قمة احد الجبال كعلامة على نهاية حكم (الزهاك).
وفي كلتا الروايتين لهذه الاسطورة فان شعلة النار تمثل الحرية المنشودة وروح الخلاص والانعتاق التام من ظلم الطغاة وبداية للعهد الجديد.
وما هي اهمية عيد النورز بحسب وجهة نظركم؟
بعيدا عن الكتب والتاريخ، للنوروز قدرة عظيمة على توحيد الامة الكوردية بمختلف اقاليمها المقتطعة والتابعة لدول متفرقة من المنطقة فرغم تعدد ثقافات تلك الشعوب الواقعة تحت نير حكمها وتسلطها عليهم، الا انها لم تفقد اي من خصوصياتها (اللغوية والثقافية والتاريخية) ولم تزل الشعلة تمثل عين الاثر لما تمثله في ديار بكر واربيل ومهابات والقامشلي وحتى حدود ارمينا، موجهة بذلك اكبر الدليل على وحدة ابناءها القومية بمختلف اعراقها.
يتداول الكثيرون ان شعلة النوروز (والتي هي الدليل على اصول هذا العيد) ماهي الابقايا من الديانات السابقة وبعدها عن روح الاسلام، فاين الحقيقة من كل ذلك؟
-كل مايشار اليه هنا اوهناك، ماهو الا محض افتراء فالشيء الوحيد المؤكد الذي يشير اليه هذا الرمز لدى ابناء الشعب الكوردي هو روح الانعتاق من كهوف الظلم والاستبداد مهما طال الزمن واستعدادهم بعدها للتضحية من اجل حرية الفرد والجماعة، مشكلين بذلك تاريخاً لاينسى من ذاكرة شعوب المنطقة من الفدرالية الميدية وصولا الى عهد الايوبين بقيادة صلاح الدين ومن تبعه من بعده.
ماهي دلالات هذا العيد برأيكم؟
-احب ان اشير ان عيد النوروز يستحق البحث فيه والتعمق لما له من دلالات عظيمة واهمها انها عيد يجتمع في يومه ومباركته العديد من الاديان والطوائف، والوثائق التاريخية تشير الى العديد منها ولايسعنا المجال هنا لذكرها.
ودعنا الاستاذ بعدها على امل ان نلتقي في المستقبل في حوار موسع واكثر تفصيلا.
رحلة الى قلعة اربيل:
بعد ان عرفنا التاريخ باصل عيد النوروز واسطورته كان لزاما علينا بعدها ان لا نفوت هذه المناسبة دون زيارة اربيل (هولير) عاصمة الاقليم وقلعتها الشهيرة، ورغم ماواجهناه من صعوبة الدخول اليها على يد رجال نقاط التفتيش فيها (وذلك لما تشهده من تحوطات امنية خاصة بهذه المناسبة) الا ان القائمين على الامر انفذونا اليها بعد ان ادركوا مقصدنا من الزيارة، وتوجهنا حين ذاك صوب مركز المدينة واشد ما لفت انظارنا الاستعدادات المسبقة من تهيئة للطرقات والساحات عبر تزينها بالصور والنشرات الضوئية والاعلام القومية على مختلف الابنية الاهلية والحكومية حتى ليرى للزائر انه في مدينة ازهرت الوانها.
في مركز المدينة تشمخ كعادتها قلعتنا المنشودة متحدية بفخر كل من دقوا اسوارها وارادوا لها الزوال منذ اكثر من سنة قرون، لتشهد بذلك على هذا الكرنفال من عند بوابتها الغربية حيث يقام الرمز الازلي لها الا وهي شعلة الاحتفال.
والدائر في اسواق المدينة الرئيسة مثل (سوق المربع وسط اربيل وسوق الباتا) يلمس بوضوح اكتضاضها الملفت لاعداد المتسوقين ومقدار الفرح الذي تزهو به العيون قبل الثغور، برغم نمو بعض الازمات خاصة في مجال الكهرباء والوقود، الا ان الناس هنا حيوين ولاتفرق السعادة حسب اعمارهم من شيوخ وشباب، ولاتميزهم باعمالهم، وفي الطرقات يعمد سائقي السيارات الى رفع اصوات المذياع احيانا والتسجيلات والتي يغلب عليها صوت المغني المعروف (حسن زيرك) واغنيته الشهيرة (نوروزا هاتوا..) فنوروز هو النوروز مهما كانت الصعاب.
وفي طرقا اربيل، من الصعب ان تعلم من اين تبدأ الاحتفالات واين تنتهي، فكل شوارعها وساحاتها تمثل مراكز لجمعة الشباب بخاصة احياء (كولان وسنشكان، وشورش، والاسكان) فينطلقون برقصاتهم ودبكاتهم وهم بكامل اناقاتهم، وحدثنا الشاب (كاميران مزوري)طالب جامعي قائلا: ان هذه الاحتفالات ماهي الا قليل من كثير، حيث ان الاحتفالات الحقيقية تقام مع اضاءة الشعلة الكبيرة كما ويقومون الاهالي باشعال الشموع فوق سطوح المنازل كعلامات للايذان الرسمي لاحتفالات النوروز.
وفي صباح اليوم التالي كانت اغلب العوائل تتوجه الى المصايف والمناطق الجبلية للاستمتاع بطبيعة الربيع الخلابة والساحرة وتطغى على ملابسهم الكوردية الفلكلورية الالوان الزاهية والبراقة.
مشاعر المواطنين:
متنزه الشهيد سامي عبد الرحمن (بارك اربيل)، هذه الجنة الغناء والذي سرى من رأى كوردستان والتي بنيت على انقاض معسكرات النظام المقبور فكانت بذلك تحفة فنية رائعة، في هذا المتنزه استطلعنا اراء المواطنين المتواجدين فيه بكثافة ورغم اختلاف اراهم الا ان البهجة كانت تجمعهم.
ان نوروز هذا العام لاتماثله كل الاعوم التي قبله، فبعد خلاصنا من اعتى انظمة الحكم العنصري تشهد اليوم كوردستان توحيد الادارتين الحكوميتين الكورديتين، هذا مابدأ به السيد (روز فرمان) وهو استاذ جامعي، واضاف: فباجتماع الوحدة والحرية يكون نوروز قد تحقق واقعا فضلا عن ان وحدتنا مع اخواننا العرب التي اشتدت اواصرها بعد ازلة قيود الحدود التي اصطنعها الطاغية، واليوم لانهنى الكورد فحسب بل ونهنى كل الانسانية في العراق وخارجه داعين ان يعم الامان والسلام ربوع البلاد.
وعن ذات الشأن تحدث السيد (ديار حاجي)-موظف- عن مشاعره في ايام النوروز قائلا: هذا هو شهر اجمل المناسبات الكوردية والاحتفالات فيه كما تتابعون على قدم وساق منذ بداية الشهر وحتى اخره، وكذلك فاننا اليوم نفتخر بمجريات الاحداث السياسية وخاصة وان لنا في العراق اليوم رئيسا كورديا ومع قرب اقرار الفدرالية لتأخذ واقعها الملموس واستعادة اصحاب الحق حقوقهم في كركوك يدفعنا هذا كله الى التمسك اكثر بالعراق ويصبح بعد ذاك نوروز عيدا لكل العراقيين وليس لنا نحن الكورد فقط.
اما السيدة (سانا محمد) فتقول: يجدد فينا النوروز مشاعر نختزنها في ذاكرتنا من ايام الشباب، فنستذكر فيه المنا ونستذكر فيه افراحنا فهو فعلا مزيجا من المشاعر التي من الصعب وصفها، ومما لاتجده في بقية الاعياد والمناسبات وهو بذلك فرصة طيبة لتجمع العوائل والاصدقاء.
اما السيدة (ازادهي توما) فتؤكد: ان اجمل مافي النوروز انه عيد الجميع ويسع في حضنه كل الاديان والطوائف فتراهم متشابكين يرقصون ويغنون بصوت واحد ونغم واحد عكس بقية الاعياد والمناسبات التي تخص البعض دون الاخر، كم جميلا فعلا التوحد في ساعات الفرح.
اما عن ذاكرة الشيوخ وما تختزنه ذاكرتهم الجميلة عن هذا اليوم افادنا السيد (فرهاد طه) وهو في عقده السبعيني، وعلق بعد ان علت وجه ابتسامة كوردية صافية زينت وجه الصبوح: يا ولدي نوروز حين كنا شبابا كان ثوريا واكثر تحدياً وكان فيه كل القوة والاندفاع، فحين كنا نمنع من اشعال النيران كنا نتلسق احدى قمم هذه الجبال ونعمد على اعداد شعلة عظيمة في اشارة منا لكل المتنفذين البعثيين في حينه على قراراتهم، ولاذكر اني احتفلت بنوروز دون ان اسوق بعدها الى السجن لايام عدة، ويستمر بابتسامته ويضيف: اما اليوم فالحمد لله الامور اختلفت جذريا للاحسن وابنائي واحفادي لهم كامل الحرية في التعبير عن مشاعرهم.
بقى علينا قبل الختام ان نوصل الى قرأنا الكرام سلام ومحبة كل اخوانهم ممن التقيناهم في هذه الرحلة ودعواتهم المخلصة ان يعم ارض العراق الامان بعد ان يتم القضاء على افاعي الارهاب وعقاربه.
خلاصة القول
بعيدا عن روائح البارود ومناظر الدماء نتمنى اي يكون في نوروز هذا العام لمسة حنان تمسح الدموع وبلسما يداوي القلوب الجريحة، وان يكون كعادته نبراسا للحرية ورمزا ازليا للوحدة الداخلية.
نشر بتاريخ 25/3/2006
التعليقات (0)