ترى ما الذي يدفع زيدا أو عمرا من الناس إلى اعتناق أفكار تنحو باتجاه التشكيك بالأديان وحتى نفي وجود خالق للكون؟
العامل الأول الذي يطرأ على البال تلقائيا هو عامل الشكّ بحدّ ذاته!
قد يشكّك إنسان ما في وجود خالق للكون، ليس كبرا ولا بحثا عن تميّز ولا حبّا في مخالفة السائد والمألوف، وليس طمعا في المتع والملذات كما يزعم البعض، وانما ببساطة لانه غير متأكّد من وجود الخالق أو عدم وجوده!
أي أن قناعته تتأرجح ما بين الشكّ واليقين.
ولعلّ هذا يشكّل مدخلا صغيرا للحديث عن فكرة الإله ذاتها.
الإله، كفكرة، موجودة منذ القدم، وهي جزء لا يتجزّأ من مسيرة التطوّر البشري نحو معرفة كنه الحياة وأصل الإنسان ونشأة الكون.
في المسيحية هناك التثليث الذي يقول بوجود ثلاثة أرباب، وعند الهندوس هناك اكثر من 330 مليون اله! وفي العهد القديم هناك إشارات كثيرة إلى يهوه الغاضب! ثم هناك آلهة الإغريق والرومان التي لا تعدّ ولا تحصى!
أما نحن – المسلمين – فنؤمن بوجود اله واحد "ليس كمثله شئ وهو العزيز الخبير" كما وصف نفسه في القرآن الكريم.
لكن من وجهة النظر الفلسفية والفيزيائية، ثمّة نظريات كثيرة ومتباينة عن الله والكون.
الفيلسوف والفيزيائي البريطاني ستيفن هوكنغ الذي يعتبر اليوم اشهر فيزيائيي العالم وثالث اعظم العلماء في مجال الطبيعة بعد نيوتن واينشتاين له كتاب مشهور عنوانه تاريخ موجز للزمن (A Brief History of Time).
في هذا الكتاب يحاول هوكنغ الإجابة على بعض الأسئلة المصيرية التي يسألها الناس اليوم: من أين أتى الكون، وكيف بدأ، وهل ستكون له نهاية؟!
ويتصدّى هوكنغ في الكتاب لعدد من القضايا الهامة مثل الجاذبية والثقوب السوداء والمادّة المظلمة والانفجار الكبير وطبيعة الزمن وسعي العلماء للبحث عن نظرية واحدة ومتماسكة عن هذا الكون.
لكن اللافت أن هوكنج لم يتطرّق في كتابه لسؤال الأسئلة، أي مسألة وجود خالق من عدمه، وعمد إلى ترك الإجابة عنه مفتوحة!
والحقيقة أن هذا الكون عبارة عن متاهة كبرى من الأسرار والظواهر الغامضة. إذ يحتار المرء كيف يمكن للذرّة أن تنطوي على تلك القوى الهائلة والكفيلة بتحويل المادة البالغة الضآلة إلى طاقة بحجم القنبلة التي قتلت مائة ألف إنسان من سكّان هيروشيما وناغازاكي!
وكيف يمكن للشيفرة الوراثية أن تخلق جميع الكائنات الحيّة من البكتيريا إلى الشجر والحيوان إلى هتلر وبيتهوفن وجنكيز خان وأديسون ونيرون وغاليليو!
وكيف يمكن للإلكترونات، التي تسكن جسد كل إنسان، أن تتشظى إلى حزم عنيفة من البرق عندما يتم فصلها عن بعضها البعض!
مارتن هيديغر الفيلسوف الألماني قال ذات مرّة: كلّ ما نعرفه هو أننا نوجد لبعض الوقت على هذا الكوكب ثم يكتب علينا الفناء دون أن نعرف سببا لوجودنا أو موتنا!
وايليا أبي ماضي الشاعر العربي كانت تؤرّقه هذه المسألة الوجودية وهو قال مثل كلام هيديغر في إحدى قصائده.
ونفس الفكرة تناولها فلاسفة آخرون مثل ديكارت الذي قال: أنا أفكر إذن أنا موجود I think, therefore I am ، وفولتير و ريتشارد دوكنز و بيرتراند راسل و ديفيد هيوم وغيرهم ممن ناقشوا مسألة وجود اله من عدمه ووصلت بهم استنتاجاتهم إما إلى الإيمان أو إلى الإلحاد الخالص atheism أو إلى الغنوصيّة agnosticism التي تضع معتنقها في منطقة وسطى بين الشكّ واليقين.
لكن الحقيقة هي أن هذا الكون بكلّ ما يحتويه من أسرار ونظم دقيقة وقوى غامضة ومجهولة لا يمكن أن يكون قد وجد بمحض الصدفة، بل لا بدّ من قوّة عظيمة وخارقة هي التي أوجدته وهي القادرة وحدها على تسييره وضبط إيقاعه.
ولا أحد يعلم كيف كانت هذه الحياة لتبدو لو أننا لا نؤمن بوجود الخالق وما يستتبع ذلك من إيمان بكتبه ورسله وإقرار بوجود الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والنشور الخ..
هناك من يقول إن الحياة كانت ستبدو كالغابة بلا قانون يسيّرها ولا أخلاق تنظم علاقات البشر وترشّد سلوكياتهم وتحضّهم على الفضيلة والمحبّة والتعايش مع بعضهم البعض بسلام..
لكن على الطرف الآخر ثمّة من يجادل بأن فكرة الضمير والأخلاق سابقة على وجود فكرة الدين نفسها مع ما يستلزمه "أي الدين" من إيمان بوجود قوّة غيبية فوق-طبيعية هي التي أوجدت هذا الكون الهائل وتسيّره وفق آليات وقوانين معينة.
والحقيقة أن العلاقة بين الدين والأخلاق كانت وما تزال موضوعا للكثير من الأخذ والرّد بين المفكّرين والفلاسفة. فبعضهم يؤكّد وجود هذه العلاقة والبعض الآخر ينفي وجود علاقة جدلية بين العنصرين، زاعمين أن المنظومة الأخلاقية المستندة إلى الدين تمنع الإنسان من تشكيل قيم أخلاقية ذاتية وحقيقية بعيدا عن ثنائية العقاب والثواب وتحرمه من القدرة على التكيّف مع المسائل التي تفرض تحدّيات أخلاقية جديدة وغير مألوفة. فبالنسبة للمؤمن، السرقة لا تجوز لانها خطيئة، ولحم الخنزير لا يجوز لانه خطيئة، وشرب الخمر لا يجوز لانه خطيئة، وهكذا. المطلوب هو الطاعة المطلقة وليس من حق الإنسان المؤمن أن يسأل عن السبب أو المبرّر العقلي في كون هذا الأمر أو ذاك خطأ أو صوابا.
وأيا ما كان الأمر، فالحقيقة التي لا بدّ من الاعتراف بها هي أن الأديان في الأصل تكرّس الجانب الخيّر عند الإنسان، والإيمان بالله يقوّي شعور الإنسان بالفضيلة وحسن معاملة الآخر والإحسان للغير، شريطة أن يكون الإيمان مقترنا ولو بالحد الأدنى من الإنسانية ونبذ الأنانية وإدراك حكمة الله التي اقتضت أن يخلق البشر في حال من التمايز والاختلاف في الأديان والصفات والمعتقدات.
الأديان جاءت في الأساس لتهذيب الإنسان وكبح نزعاته الشرّيرة، لكننا نعرف أن الدين تسبّب في قتل الملايين من البشر في حروب طائفية مدمّرة لم تشهد لها البشرية مثيلا حتى في أوج وثنيتها وبدائيتها، بعد أن سخّره أصحاب المصالح والأطماع ليصبح أداة للتسلط والعدوان والقتل والكراهية.
ملاحظة: هذا الموضوع سبق لي أن كتبته في منتدى ُطوى. وقد خطر بذهني أن أعيد نشره هنا مع بعض التعديل الذي يناسب السياق، وذلك بعد أن قرأت مؤخّرا في بعض منتديات النقاش العربية مواضيع يتناول فيها كتابها أفكارا وجودية من قبيل وجود الخالق من عدمه وارتباط ذلك بنشأة الحياة والكون. وما لفت انتباهي في تلك النقاشات هو صراحتها الكبيرة وجرأة بعض المعقبين في الجهر بآراء قد تفاجئ القارئ، أولا كونها – ربما - تعبيرا عن تنامي الأفكار اللادينية في بعض المجتمعات العربية، وثانيا لان تلك الآراء صادرة في الغالب عن شباب نشئوا في بيئات محافظة دينيا واجتماعيا بشكل عام.
ترى هل ما يدفع هؤلاء هو الشك، أم انهم يبحثون عن تميّز ما أم أن ما يكتبونه مجرّد رغبة في مخالفة المستقرّ والمألوف؟
وهل يمكن أن تكون هذه النزعة تعبيرا عن ضيق هؤلاء وتبرّمهم من طبيعة الدين السائد وإيغال رجال الدين والوعّاظ في التضييق على الناس والتعدّي على خصوصيّاتهم وكبت حريّاتهم وتكريس الاستبداد والطغيان والتخلف في المجتمعات العربية باسم الدين؟!
التعليقات (0)