اصوات متطرفة مسكونة بروح الكراهية للعروبة
أخذت المسألة الأمازيغية منحا خطيراً لدى بعض منظّريها والكتّاب الذين يتبنون منهجاً انعزالياً انفصالياً عن المكون العام لمنطقة المغرب العربي الكبير، حيث برزت خلال السنوات الأخيرة أصوات متطرفة مسكونة بروح الكراهية للعروبة كهوية حضارية، تخلط بتعمّد بين هذه الهوية وسلوك أنظمة تمارس اضطهادها على كل مكونات هذا المجتمع و لا تفرق في ذلك بين عرق وآخر أو ثقافة وأخرى..
إن الدعوة لإحياء الثقافة والهوية الامازيغة لهذا المكون المهم من مكونات مجتمعنا المغاربي يعد مطلبا شرعيا يجب أن يحضى بدعم ورعاية دول المنطقة وجماهيرها خاصة، وألا يسمح للانتهازيين و المتسلقين والباحثين عن الزعامة بتغيير مساره وتجييره لخدمة أهداف وأجندة معادية لوحدة وترابط مجتمعاتنا..
وما أشرت إليه في بداية المقال عن الأصوات النشاز، هي تلك الأصوات التي تحاول اليوم تشويه هذه المطالب و إلباسها لبوسا عنصرياً قائماً على الكراهية والحقد على العرب، ووصل الأمر ببعضهم الى حد الاستقواء بقوى خارجية (زيارة مجموعة امازيغية تدعي الوصاية على الامازيغ مؤخرا البرلمان والمفوضية الاوروبية والدعوة لتدويل هذه القضية)
فيما ذهب البعض الآخر الى حد الدعوة للتحالف مع اسرائيل ضد العرب، لتصور المسألة وكأنها قضية صراع بين العرب والأمازيغ، وليس صراعا ضد منظومة سياسية مستبدة تصادر حريات كل المجتمع عربه وأما زيغه..
إنه من العبث والمغالطة أن تحمَّل الثقافة العربية والعرب مسؤولية اضمحلال الثقافة الأمازيغية وجمودها وهجرها من قبل أهلها ، ومن التجني على العروبة أيضا تصوير الأمازيغية على أنها ضحية للثقافة العربية التي دخلت الى المنطقة مع الإسلام، فلم تورد لنا كتب التاريخ ـ إلا فيما ندرـ أخباراً عن منع اللغة أو التقاليد الامازيغية من قبل أية دولة حكمت المنطقة بعد دخولها في ظل الدولة الإسلامية؛ وما تم من اعتناق للعربية وتقاليدها وثقافتها بين الأمازيغ جرى كله بقناعة ورغبة الأهالي الذين وجدوا في هذه الثقافة الوافدة عليهم ما يلبي تطلعاتهم ويعبر عن مشاعرهم ويربطهم بالتطور الحضاري في العالم.. كما يرصد لنا التاريخ وتؤكد الوقائع أن العربية لم تصادر أياً من الثقافات التي امتزجت بها بل إنها تلاقحت معها وأخذت منها وأعطتها، وفي الحالة الأمازيغية يشهد النتاج الحضاري والثقافي والفكري لهذه المكون وكذلك حالة التعايش و الامتزاج والانصهار الحضاري والاجتماعي بين العرب والأمازيغ عبر التاريخ على ذلك، وإذا استثنيا عامل الدين فإنه يمكننا القول إنه لولا الثقافات الأمازيغية والفارسية وغيرها من الثقافات الأخرى التي امتزجت بالعربية ، لولاها لما كانت الحضارة والثقافة العربية لتصل إلى أصقاع الأرض وتتحول من لغة وثقافة قبيلة إلى لغة وثقافة إنسانية تستوعب كل ثقافات العالم..
إذا كان الله ـ عز وجل ـ قد خص العرب والعربية بالإسلام وحمَّلهم مسؤولية نشره بين شعوب الأرض ، وهو ما نجحوا فيه بمساعدة الشعوب التي اعتنقت هذا الدين واتخذت العربية لسانا لها ومنها الأمازيغ ، فإن ذلك لا يجب أن نتخذه ذريعة لإدانة هويَّةٍ حضاريةٍ عالميةٍ كان للأمازيغ وغيرهم دورٌ محوريٌ في بلورتها ونشرها في العالم.. كما أن الهوية الحضارية العربية التي اكتسبتها هذه المنطقة على مدى قرون لا يجب أن يُساءَ استخدامها وتحويلها إلى أداة قمع ومصادرة لأية هوية ثقافية أو حضارية تعيش ضمن المكون العام للمنطقة ويتطلع أهلها لتفعيلها من جديد .. فالأمازيغية مُكوَّن أساسيٌ لا تكتمل صورة المنطقة إلا بوجوده وتميُّزه، شريطة ألا يكون قائماً على الكراهية والرفض لأية ثقافة أو حضارة أو عرق من مكونات المنطقة..
فعلى الأمازيغ الذين يتحلون بوعي متقدم ونظرة بعيدة لمستقبلهم، الانتباه إلى هذه الأصوات النشاز التي تحاول تحويل الأمازيغ إلى "حصان طروادة" بالاستحواذ على هذه القضية واستغلالها لتحقيق مصالح شخصية ضيقة، وخدمة مخططات خارجية معروفة بنواياها الهدامة والتخريبية التي تستهدف وحدة وتماسك مجتمعنا واوضح مثال لهذه الاصوات النشاز الوفد الامازيغي الذي زار مقر المفوضية الاوربية باسم الكونغرس الامازيغي قبل ايام عارضا على الاتحاد التدخل لتدويل هذه القضية كخطوة اولى لنشر الفوضى في كل المنطقة..
إن الأصوات الأمازيغية المتطرفة والتي تتبنى خطاباً عنصرياً ينضح بالكراهية للعرب والعربية وتستعدي محيطها العربي، تشكل في الواقع خطراً كبيراً على الأمازيغ ومطالبهم الثقافية وعلى مستقبل التعايش في المنطقة، وتؤسس لمرحلة من الاضطراب والتطاحن الذي لن يكون فيه رابح سوى القوى الأجنبية التي تعمل على إبقائنا رهناً للتخلف والفقر والتطاحن والصراع العرقي والمذهبي والطائفي، ولنا فيما يجري في العراق أوضح مثال..
إن ما تحتاجه منطقة الشمال الأفريقي اليوم ليس نبش الماضي وبعث الفتن ومحاكمة التاريخ، بل تحتاج وبشدة إلى تصحيح الواقع المعاش والتطلع إلى مستقبل أفضل وتجاوز كل مرارات الماضي لبناء المستقبل الذي يحتاج لكل ثانية من وقتنا وكل حبة عرق وكل تفكيرنا، لا أن نثير الفتن التي ستشدنا إلى الخلف ويجعلنا ندور في حلقة مفرغة.
إن المرحلة التي نمرُّ بها اليوم تتطلب منا التآزر والتوحد عرباً وأمازيغ ونبذ الفرقة و تجاوز الانتماءات العرقية والمذهبية والطائفية والدينية ، لإجهاض مشاريع البلقنة التي تستهدف منطقتنا، وإلحاق الهزيمة بالمنظومة السياسية التي تصادر أصواتنا وتقمع تطلعاتنا نحو الحرية والعدالة والتقدم والتنمية.. وأمام هذه التحديات يجب علينا اليوم أن نكرس كل وقتنا وجهدنا وامكاناتنا لبناء قاعدة معرفية وعلمية واقتصادية وطنية تمكننا من إنجاز مشروع الدولة الوطنية الكبرى التي تعترف بكل مكونات هذه المجتمعات وثقافاتها وخصوصياتها وتقدس الإنسان المواطن دون النظر إلى هويته الثقافية أو الدينية أو العرقية، وتجذر روح التسامح والمحبة والتعاون بين أفراد المجتمع .. ولنا في تجربة أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية خير مثال يجب أن نحتذي به حيث تجاوز الأوروبيون كل خلافاتهم ومراراتهم التي خلفتها الحروب رغم الدماء التي سالت فيها والتي لم تجف بعد، وقرروا بناء المستقبل الذي ينعمون اليوم في ظله الوارف..
محمد عبعوب
التعليقات (0)