إشكالية المنهج وتأويل النص الصوفي
شريف هزاع شريف
" طـريـقـنا طـريق الكـيـمياء " نجم الدين الكبرى
تتوخى الحركة النقدية المعاصرة بدراساتها المكثفة الوصل إلى مرحلة الاستقرار في بلورة المناهج النقدية وتوطيد دعائم ثابتة لا تنغلق في قوالب نظرية بحتة .. بل بتطبيقات واسعة مستبعدة الأسس الأيديولوجية التي تضفي عليها الطابع الدوغمائي، وقد تكون حركة النقد حالياً هي الممهد لظهور المنهج الكلي في المستقبل. إلا أنه لازال العامل التكثيري سائداً على النوعية وكأنه إرهاص بإفلاس النقد، فما الذي يدفعنا لرصد إشكالية المنهج والتطبيق.. هل هو عقم المناهج الحديثة؟. الحقيقة إن إشكالية المنهج ليست قضية القرن بل هي مسألة تاريخية من عصر الفلاسفة قبل افلاطون مروراً بأرسطو، ومثلما ظهر افلاطون من أجل هيدكر الذي أنهى الفلسفة بشكل تراجيدي معلناً العودة إلى أسلافه (لإعادة النظر) لكن ضمن رؤية جديدة هي (التأويل) وهو في حقيقة الفعل، قام بإحياء الفلسفة التي وصلته ميتة، فممارسة التدوير بمحور جديد بتطبيق منهج نقدي يحمل في طياته (الإحياء) وإن كان قد سد باب الفلسفة إلا أنه من خلال المنهج الجديد فتح لنا فيها باباً لن ينسد عن طريق (التأويل) الذي منهجه غادمير ومن بعد ايزر وياوس وهابرماز وغيرهم، من أجل إيجاد مفاتيح اللعبة (اللغوية) أو الفكرية للتراث الغربي. أمام هذه المعطيات الكثيرة وقف النقد العربي لحظة تأمل أمام الكم الفكري الهائل لنتاجه (التراث) عبر العصور، وفي خضم الصرعات النقدية الجديدة أراد هو أيضاً (إعادة النظر) طارحاً تساؤلات جوهرية عميقة لم تقفها الدول المصدرة للنقد! دارساً بشكل جدلي التراث والمعاصرة، ورغم توقفه تماماً أمام إشكالية خطيرة هي: (هل نطبق النقد القديم على النص القديم والمعاصر، أم النقد المعاصر على النص المعاصر والقديم؟). فانقسم النقد العربي/ الناقد العربي، وتأطرت كل جهة بمنطلقات قطعية جامدة أوقفت الحركة التطورية المنشودة للنقد المعاصر في الساحة العربية، والحقيقة أن لكل التطبيقات، مهما تنوعت، نتائج معينة تتحدد على ضوئها معيارية التقرير، وسنبقى بحاجة لإنشاء منهج لا يهدف للوصول إلى الحقيقة! بقدر ما يسعى للاقتراب من حدودها، والأمر ينطبق على دراسة النص الصوفي ومحاولة تأطير منهج نقدي بمستواه، فالأدب الصوفي طفرة نوعية في تاريخ (الانسكلوبيديا) العربية منذ تأسيسها، كما أن له أوجه تشابه كبيرة بالأدب المعاصر (كيميائية الكلمة) إلا أن التصوف يقع تحت تأثير المنظومة الدينية الثابتة على الرغم من ابتكاراته التعبيرية الكثيرة والمتجددة من عصر لآخر، بينما يتشكل النص المعاصر تحت تأثير حركة الفكر المتغير الذي لا يتسم بالثبات كما هو في الدين، فتمحور الأدب الصوفي ضمن ثوابت ومتغيرات هي:
ثابت متغير ثابت
الأسس ــــ الشكل ـــــ المعنى
الدين النص (الذي يتضمن المفهوم الديني)
تقع إشكالية تأويل النص الصوفي بدراسة (الشكل/المتغير) الذي يتميز بسياقات متنوعة مرنة لا تخضع للمرجعية اللغوية (المعجمية) إنما تشكل قاموساها الخاص ومفرداتها وتركز على دور المصطلح (اختزال الجملة الصوفية، أو الحالة الوجدانية) الذي يحيل إلى دلالات مبتكرة ومنفتحة على عكس محصورية العلاقة بين الكلمة والمعنى في اللغة، أو في الخطاب، التي تنحصر في دلالات ثلاث:
1)ـ الدلالة العقلية. 2)ـ الدلالة الطبيعية. 3)ـ الدلالة الوضعية.
أما في التصوف فإن الدلالات (معظمها) دلالة عرفانية أو ما تسمى بمصطلح التصوف (ذوقية) وعليه أنشيئ للتصوف لغته الخاصة وشكل له دائرة لغوية تشترك فيها الكلمات وضعاً فقط مستمدة وجودها وشرعيتها من العلاقة التي تربطها باللغة الدينية، لكن بدلالات خاصة تمثلها بمرجعية إشارية مثلما نجدها في المصطلحات الآتية[1]:
الكلمة المعنى اللغوي المعنى الصوفي
الحيرة عدم التوجه لشيء موقف من اليأس والطمع في الله
العرش سرير الملك، البيت تحقيق مظهر العظمة
الستائر من.. الستر: الحجاب صورة الأكوان ومظاهر الأسماء الالهية
الحرق النار تجلي جاذب إلى الفناء
ومن ترابط هذه الكلمات يتولد النص الصوفي بشكل يختلف عن تولد النص الآخر، فالنص الصوفي يركز على رؤية (المعاني ـ الثابتة) من خلال جوانب روحية واستنسال دلالات كثيرة بتمثلات لفظية كثيرة (مصطلحات) فيتشكل النص
(الشكل ـ المتغير) حيث أن اللغة الصوفية تنشأ من آلية مختلفة عنها في اللغة/الكلام هي:
اللغة الصوفية معاني دلالات كلمات
عَ عَ
ع ـ علاقة باطنية غير ظاهرة بربط إشاري لا منطقي تحتاج إلى تأويل.
اللغة / الكلام كلمات معاني دلالات
عَ عَ
ع ـ علاقة ظاهرية بواسطة نظام منطقي تركيبي لا تحتاج إلى تأويل.
حضور المعاني عند المتصوفة يخضع لما قبله (الاستعدادات القبلية ـ التجربة الصوفية على العالم) وهي تحضيرات مسبقة منظمة (أذكر، أوراد، قراءات..إلخ) تتولد من مخاضاتها (اللغة الصوفية)، هذه التحضيرات تكون (الحال ـ مصطلح صوفي) وهو مرحلة تلقي المعاني دون إرادة أو اختيار فتنصب على القلب دون قصد كإحدى حالات الغيبوبة أو التحليق في عوالم روحية تجريدية غير مرتبطة بالواقع المادي، وبعد هذه الحالة تتم عملية الربط والبحث عن دلالات لتشكيل النص الصوفي لنقل تقرير وجداني (للعالم ـ الصوفي) وهي ما نسميه بمسألة (الشكل ـ المتغير) حيث يختلف النص الصوفي من متصوف لآخر قياساً لعمق التجربة أو درجتها؛ فالأقدم انتساباً في التصوف والتزاماً بقواعده أكثر عمقاً وتنوعاً في (النص) فالمريد (المرحلة الابتدائية في التصوف) قد يصرخ صرخات متتالية أو يتأوه أو تتكسر الكلمات في فمه أثر وقوعه في دائرة (الحال) فلا يستطيع تكوين (نص) بينما الشيخ (من المراحل النهائية في التصوف) يستطيع نقل مجمل خالات الوجد مكوناً (النص) إلا في حالة (الفناء ـ مصطلح صوفي) التي يعجز هو أيضاً عن نقل تفاصيلها.. فإنه يصبح في درجة المريد لكن في (مقام) أعلى، أما إذا حاول نقل الحالة تلك فسوف تكون لغته غير مفهومة ولا يمكن تأويلها كقول:
(1)ـ" قهرم طمس هوالم صعنح، ذلكم الله ربكم يا يا يا ".
(2) ـ" في القدوم العياني إلى نزل التداني على نياق التجريد الجثماني بعد التجريدات على الاعتلاقات الحشاوية بتجليات الاعراق الطهاوية".
(3) ـ" كأنها كأنها كأنها كأنه كأنه كأنه كأنها كأنها كأنه كأنه كأنه كأنها".[2]
فالنص الصوفي ينقسم إلى :أولاً: ما يؤول. ثانياً: ما لا يؤول. وقضية التأويل يجب أن تكون بمستوى من التنظيم والمنهجية العلمية على أن لا تقع في الانغلاق أو الهدم الذاتي، بتوجه فلسفي لتكوين أسس صحيحة لبناء (المنهج)، والمنهج التأويلي يستند في أساسه على مجموعة من المنطلقات الفلسفية وعلى تصميم يخضع لهندسة دقيقة من الافتراضات وطرائق البحث، إلا أن المؤول يقف أمام اختيار الفرضيات واختيار طريقة البحث بما يلائم فضاءات العمل المطروح لديه.
في الأدب الصوفي؛ بتكوينه وماهيته (نقدياً) لا يخرج عن ثلاثة أنماط وصفية تحدد درجة التلقي، التأويل، الفهم..إلخ، أو بمعنى آخر تحدد لنا أولاً؛ مشروعية التأويل قبل الشروع فيه، وهذه الأنماط هي:
أولاً: نص صوفي تتسم لغته بالبساطة والمباشرة، لا يستخدم دائرة اللغة الصوفية بل يعتمد على نقل الدلالات العرفانية من خلال اللغة المتعارف عليها (تداولاً) أو من اللغة الدينية، ويتميز هذا النص بوضوح الطرح والأسلوب وظاهرية المعنى وترابط الدلالات في السياق النصي بشكل منطقي أو أدبي مفهوم لا يحتاج إلى وسيلة تأويلية لبلوغ الغاية (الفهم)، ونجد هذا النموذج واضحاً في تصوف (عبدالقادر الكيلاني، الغزالي، ابن عطاء الاسكندري، الشاذلي،..إلخ).
ثانياً: نص صوفي تتسم لغته بالتعقيد والمجازات اللغوية المتفردة التي تستمد مفرداتها من دائرة اللغة الصوفية فتنقل المعاني بواسطة دلالات معقدة أو بعيدة عن الإدراك إلا بواسطة التأويل ورد المفردة إلى أكثر من مرجع للوصول للمعنى. وعادة يطرح هذا النوع من النصوص قضية أو تجربة صوفية من خلال مفهوم (الذوق).وهذا ما نجده واضحاً في أكثر مؤلفات (ابن عربي) ونجده أحياناً عند (ابن سبعين) و(الحلاج) في بعض الأسطر والرسائل.
ثالثاً: نص صوفي مغلق تماماً لا يمكن فهمه وتأويله، ومحاولة تأويله ضرب من الالتواءات النقدية التي ترسم معان ونتائج مسبقة دون نظر وتحليل علمي مشروع. وقد وضحنا نماذج من هذه النصوص كما عند (ابن سبعين، الصاحب النقشبندي، الحلاج).
من خلال هذه الأنماط الثلاثة نستطيع تحديد ماهية النص الصوفي قبل الشروع بتأويله، الذي يمارس على ما هو قابل للتأويل لتبيان إشكالات النص والمفهوم والتلقي والخطاب واللاتقليدية ليظهر آلية اللغة النصية، فلسفتها، ماهيتها، دورها،..إلخ. وإذا كان التأويل ممارسة خطيرة فلا بد أن يكون النص (..).
مجلة الواح العدد 12 2002
[1] المنطق/ محمد رضا المظفر/ بغداد،1982، ص37.
ينظر: معجم المصطلحات الصوفية/ عبدالمنعم الحفني/ دار المسيرة،بيروت. ومعجم ألفاظ الصوفية/ حسن الشرقاوي/مؤسسة مختار، القاهرة.
[2] رسائل ابن سبعين/تحقيق؛عبدالرحمن بدوي/الدار المصرية،ص183.
نور الهداية والعرفان/الحلاج/تحقيق؛محمد أسعد/المطبعة العلمية، مصر،ص84.
الطواسين/الحلاج/تحقيق؛ماسينيون/مطبعة الأوفسيت، بغداد،ص77.
التعليقات (0)