عندما كنّا طلابا في المدرسة، كانت من وصايا مدرب كرة القدم لنا، عندما نعجز عن قطع الكرة من احد المهاجمين المندفعين بكل حماس وثقة، فعلينا عدم تركه، بل عرقلته من الخلف. بصراحة، هذا ماكان سائدا قبل عدة اعوام في كرة القدم بشكل عام، الى ان اصدرت الفيفا قرارا، بانذار اللاعب او طرده في حالة تعرضه للخصم من الخلف.
موضوعي هذا اليوم بعيدا عن الرياضة وعن كرة القدم، ولكني اتيت بالمثل لفهم النفس البشرية، فهذه النفس لا تقبل بالهزيمة ومستعدة لفعل اي شيء ممكن سواء كان اخلاقيا او غير اخلاقي، من اجل الانتصار حتى ولو كذبا، وعندما يعجز المقابل عن رد خصمه يلجأ الى "الضرب تحت الحزام".
الكلام نفسه ينطبق على حمَلة القلم من كتاب ومدونين وغيرهم، عندما يطرحُ فكرٌعظيمٌ يصعب على امثالهم فهمه والتصدي اليه، يلجأ هؤلاء الى "الضرب تحت الحزام"، اي التعرض للكاتب كشخص، فيحاولون التنقيص من شأنه، وسلبه ما يملك من فكر، كما حصل تماما مع الدكتور سيد القمني، فلقد ترك هؤلاء المادة التي كتبها ولم يستطيعوا حتى قراءتها وليس نقدها، واخذوا يتناولون تاريخه وتجاربه، فمرة يقولون ماركسي ومرة يقولون صهيوني ومرة ماسوني وهكذا، ثم تناولوا شهادة الدكتوراه التي يحملها وبدأوا يشككون بها، وهذا هو اسلوب دنيء ووضيع يبين ضحالة فكرهم.
من اشكاليات هؤلاء، هي خلطهم بين العلمانية والتنويرية، وهذا يعود لقصر فهمهم، فالعلمانية ليست تيارا او فكرا وهي ليست مصطلحا فكريا بل مصطلحا سياسيا يهتم بفصل السياسة عن الدين واعطاء فرصة لكل التيارات وهو بذلك ينقذنا من تسلط التيارات الدينية وغير الدينية التي تسيطر علينا وتقمعنا وتفرض علينا عدم نقدها بدعوى انها تعاليم الهية. اما ما يدعو اليه الكتاب الذين يطلق عليهم "علمانيين" فهو شيء آخر، هؤلاء الكتاب ينقدون الفكر الديني بشكل علمي ومنطقي، فاصبحت لهم شعبية تتزايد باضطراد، واصبحوا كالنار في الهشيم، لن يستطع احد ايقافهم، لان سلاحهم هو العقل، الذي لا يستطيع اي سلاح في العالم الوقوف بوجهه مهما كان.
من آخر التقليعات التي خرجت لنا هذه الايام، هي ان "العلمانيين العرب" اتوا بفكرهم من المستشرقين . . . ان السبب الرئيسي لاطلاق هذه الكلمات، هو محاولة سلب المفكرين العرب لفكرهم، اي بكلمة ادق، هؤلاء ليسوا اصحاب فكر بل مقلدين، ولا اعلم هل ان نسب مصدر الفكر لاي شخص او مجموعة، يمكن ان يعود باي فائدة تذكر؟ فليكن مصدر الفكر المستشرقون او الصهاينة او حتى الشيطان، مادخل كل هذا في الامر، ان ظهور هذه الصيحات هو لملء الفراغ السابق في كلامهم السمج، الذي كانوا يرددوه بمناسبة وبدونها، فكلما سمعوا مفكرا اتهموه بانه ماركسي، وبسبب فشل الماركسية وانحسارها، حاولوا اختراع مصادر جديدة.. بدل ان تهتموا بالتوافه مثل المصدر، اهتموا وركزوا على نقد هذا الفكر لكي تعم الفائدة للجميع.
بعض المستشرقين هم مؤرخون، جاءوا مع الاحتلال الاوربي للدول العربية والافريقية في بدايات القرن التاسع عشر، اثناء فترة الانتداب وبعدها، تم توضيفهم من قبل حكوماتهم ليكونوا جواسيسا في الاصل، والغرض الاساسي لوجودهم، هو دراسة تاريخ الشعوب العربية لفهم الطريقة الامثل للتعامل معهم فلم يكن هناك مصادرحيادية لهذا التراث بعد مسخه الاتراك ووضفوه لصالحهم، فمصالح هؤلاء المستشرقين ترتبط بشكل مباشر بالدول المستعمرة. بل ان مصلحتهم ومصلحة دولهم، هي بقاء هذه الدول متخلفة لسهولة السيطرة عليها.
وعلى العكس من هؤلاء المستشرقين، كتاب التنوير العرب، فهؤلاء هم خيرة ما طرحت الامة العربية، فهم اناس قرأوا الواقع بمنظار آخر يختلف تماما عما قرأه اقرانهم ممن تربوا باحضان المشايخ والمرجعيات الدينية، غرض هؤلاء هو النهوض بالامة ومحاولة استدراك ما فاتها من تطور، هم تنويريون وليسوا تخريبيين مثل المستشرقين.
لقد حاول الكثير من المستشرقين، خداع العرب، من خلال مدحهم والضحك على عقولهم، لانهم علموا ان الشعوب العربية هي من اكثر شعوب العالم قابلية للخداع، فبمجرد ان تقول له "انت عبقري" يصدقك "على طول" وربما يلومك لانك لم تكتشف هذه الصفة فيه قبل. ولو كان غرض المستشرقين غير ذلك، لما وصل حال الامم العربية الى هذه المرحلة من الانحطاط.
السبب الرئيسي لظهور الكتاب العرب التنويريين وزيادة اعدادهم يعود لعدة اسباب يمكن ان نلخص اهمها:
ـ اولا وقبل كل شيء، المجتمعات تتبنى التجارب الناجحة، فنجاح التجربة العلمانية في اوربا، هو المصدر الرئيسي، لاي فكر يدعو التنوير.
ـ العولمة، فانفتاح العالم وتواصل الدول فيما بينها سياسيا وثقافيا واجتماعيا، اوجب على الدول العربية والاسلامية ردم الهوة الشاسعة بين ثقافتها البدائية وثقافات الدول التي قطعت اشواطا كبيرة من المعرفة والتطور.
ـ التقدم العلمي والتكنلوجي والطفرة الكبرى في مجال المعلومات التي ظهرت في السنوات الاخيرة، والتي وضعت كافة الوسائل الممكنة تحت متناول الجميع، مما فتح افاقا واسعة للتبادل العلمي والثقافي. لقد اوجد هذا التطور وخصوصا في مجال الانترنيت فرصا ثمينة للباحثين للاطلاع على المصادر التي حجرت عليها الرقابة الدينية والسلطوية لسنين وكذلك تلك المصادر التي لم يكن ممكن الوصول اليها لولا هذه الخدمة.
ـ الرقابة الثقافية التي فرضتها الامم المتحدة على كافة الدول ومتابعتها للمناهج وتطويرها، كان لها دور كبير في هذه النهضة.
ـ المجال الواسع للكتابة الذي اتاحته المواقع الالكترونية المختلفة من مدونات وصحف ومنتديات ومواقع، كان له دور بارز ومؤثر في وصول الفكر لكل مكان، ومن اهم هذه المواقع، موقع "الحوار المتمدن"، الذي اوصل الفكر الآخر الى اكبر شريحة ممكنة من الناس، والذي يكتب بفكر يُقرأ له باهتمام.
ـ الحراك السياسي الايجابي "النسبي" الذي حصل في العراق، كان ايضا من الداعمين الاساسيين لهذا الفكر، فالتجربة الديمقراطية العراقية ورغم حداثتها واخطائها الا انها مثل يجب ان يقتدى به، فكان هذا من احد اهم المصادر التي نهل منها الفكر التنويري الحديث، وهو قفزة كبيرة نحو الامام، فبدل ان كان كلام الكتاب نظريا في السابق، اصبحت التجربة ملموسة الآن، والدليل على هذا هو حضور موضوع العراق في الكثير من المقالات والدراسات التنويرية الحديثة.
ـ واخيرا وليس آخرا، هو ضحالة وجمود الفكر العربي والاسلامي ـ القديم والحديث معا ـ بصورة عامة وعدم تمكنه من مواكبة العصر والصمود امام الموجة التنويرية الكاسحة التي سادت العالم بشكل عام، ان هذا الفكر لم يتمكن يوما من الايام من اقناع الناس حتى عندما كان الجهل والتخلف هما السائدين، ولكنه لم يستطع الاستمرار لولا القمع والترهيب والحجر، فلقد راح ضحية هذا الفكر الضلالي الكثير من الشرفاء، والان وبعد ان فشلوا كل هذا الفشل في مواجهة التنوير اطلقوا صيحاتهم القديمة ليقتلوا ويرهبوا ويفتكوا ولكن هيهات فالمسالة الان تختلف تماما فاعداد التنويريين تضاعفت وهي في تضاعف مستمر ولن يثنيها اي شيء.
استودعكم الفكر
التعليقات (0)