كان الجو خريفيا غائما مائلا إلى البرودة لذلك ترى الناس وقد انعكس عليهم شحوب الطقس يسيرون متثاقلين تظهر على سحنهم علامات هي مزيج من اللامبالاة والتفكير العميق . من النافذة كنت أرقب هذا المشهد الذي يتكرر أمام ناظراي كل يوم حتى أني لم أعد أفكر في ذلك ما دام لا يحمل إلي جديدا على الإطلاق وقد كان هاجسي في تلك الأيام هو تمضية الوقت بأسرع طريقة ممكنة لذلك أغلقت النافذة حتى استحال لون الغرفة مظلما فشرعت في تعديل السيجارة المعلومة على أنغام جون لينون وكلي لهفة للاستماع إلى "إيماجين" في الحالة المثلى التي بفضلها نصدق أشياء غير قابلة للحدوث.لطالما تعلقت بأغان من هذا النوع رغم أني في العمق أمقتها كونها تثير فينا الحاجة إلى اعتناق اللاممكن في الوضعية التي نترفع فيها عن منطق الزمان والمكان ، وهذه الوضعية من التراخي يعرفها المدمنون على الحشيش ولطالما طاردوها في خضم ما يعرفه الأطباء "غير المجربين" إدمانا ، لينون كان مدمنا حتى النخاع لذلك كانت أغانيه سريالية تحرك العواطف وتهيج الأحاسيس كلما ابتعدت عن الواقع ، والواقع الذي أتحدث عنه هو حكم القوي الذي يزداد قوة كلما تراخى الضعيف وتوغل في خيالات إيماجين وأمثالها..وفي الواقع فإن هذا الافتراض هو الأقرب إلى المنطق لكني لم ألبث أن وصلت إلى منتصف السيجارة حتى تراخيت ورفعت حجم الصوت إلى أقصاه حتى أن لينون في ظلام الغرفة خيل إلي أنه ينبعث من صوته ومن مجد كتب بمداد الحسرة والتأسف على عالم لم يصر بعد شيوعيا..
بعد ذلك استسلمت للنوم وفكرت أن جيوبي خالية لكن ذلك لم يشكل لي جديدا يستحق التدبر فالحيل ذاتها تتكرر ما دامت النهاية صغيرة تكتمل بالحصول على قطعة شيرا أو جرعات من الخمر..
عندما استيقظت،وكانت الساعة تشير إلى السابعة مساء ، شعرت بوجهي كأنه انتفخ وببطني كأن تنينا يسكنها لذلك التهمت ما كانت قد وقعت عليه عيني قبل أن أغادر صوب المقهى حيث وجدت المشهد ذاته يتكرر بشخوصه وحواراته وقد أخذت دوري لما طلبت قهوة وسيجارتين مع إشارة بأصبع يدي إلى أن الأداء فيما بعد ثم أشحت ببصري حتى لا تلتقي عيناي بعيني صاحب المقهى لما قد تحملهما من إشارات تبعث على الكدر ، وكأي فارغ يهوى النفاق الإجتماعي فقد دخلت في حوارات تافهة نسيت مضمونها بعد مغادرة المقهى صوب صالة انترنت صغيرة الحجم حيث وجدت صاحبها ، وكان أيضا صاحب أنف طويل كان مرارا مثار سخرية الخبثاء الذين استغربوا كيف احتمله جاثما على وجهه دون أن يفكر في جدعه ، وجدته منكمشا كالنعامة يكاد أنفه يخترق شاشة الحاسوب ، لما راني ناداني وكله لهفة :
-تعال.لقد وجدت أمريكية يلزمها فقط من يراودها عن نفسها...
قلت :
-جرب حظك. فمن يدري!! بلمسة حاسوب قد تفتح لك أميركا فخذيها..
فهم "سليمان" المقصود من ذلك فقد كنت مفلسا لذلك أعقب :
-تعال..علبة سجائر!!وإن أتت الأمريكية فإنك ستشرب الويسكي حتى الغيبوبة..
ضمنت سجائر الليلة إذن ولا بأس في الذي سيأتي.أخذت كرسيا وجلست قرب طويل الأنف الذي سلمني ملمس الحاسوب محتفظا لنفسه بحق فرض ما سأكتبه وهكذا كنت أسمع منه وأترجم له ما تكتب الأمريكية ثم أرد عليها بإنجليزية لو قرأها شكسبير لانتحر في قبره من الغم ، وكعادة هذه المواقف فقد أخذت الأمور ببساطة وكان الحديث فارغا إذ لم اسألها عن دوافع غزو العراق أو تماطل أوباما في إقامة السلام الموعود ، طلبت منها فقط بوحي من طويل الأنف أن تشغل جهاز الفيديو حتى نتمكن من رؤيتها فرفضت وقالت أن لديها مشكلا ، كتبت :
-ما المشكل الذي يؤرق بالك يا عزيزتي فمشاكلك هي مشاكلي
قالت :
-أنا الآن في نيجيريا في مدينة بعيدة ولكي أعود إلى أميركا يلزمني 1200 دولار أميركي
-قلت :
-وما العمل يا عزيزتي
قالت :
-إن ساعدتني سأرد لك ضعف المبلغ وسآتي لأخذك معي كي تعيش في أميركا
أفهمت ُ" سليمان " فحوى الحوار فقال أن أكتب ما مفاده:
-دعيني أفكر يا عزيزتي ولن يكون إلا الخير
كتبت أنا دون أن أستشيره :
-go to helle..
شرحت ذلك لسليمان فامتعض ثم أفهمته حيلة بعض الأفارقة للحصول على المال بهذه الطريقة التي قد تنطلي على أي شعب إلا المغاربة فاستشاط غضبا وبصق على شاشة الحاسوب ثم قام من مكانه وطلب مني أن أراقب المحل ريثما يعود.سألته :إلى أين؟
أجاب وهو يهم بالمغادرة :
-إلى فاطنة ، سنشرب "ماء الحياة" حتى الغيبوبة
قلت :
اشرب وحدك..!!
محمد الشاوي / الخميسات/ نونبر 2010
التعليقات (0)