وقف شاكر قرب دكانه القديم الواقع قرب سكة الخيل في دبي فتراءى له شخص يعرف ملامحه جيداً رغم مرور أكثر من أربعين عاماً على آخر مرة شاهده فيها. تحشرجت الكلمات في حلقه وهو يصيح بصوت عال:
- إسماعيل شاكليته... إسماعيل.
نظر الرجل الجالس في السيارة باتجاه شاكر، لكنه لم يجبه، تحركت السيارة التي يقودها السائق بينما الرجل جالس في المقعد الخلفي، شرد ذهن الرجل، عاد بذاكرته إلى سنوات طويلة مضت.
تذكر الحي الذي عاش به لسنوات عديدة، فهناك تعرف على الشخص الذي ناداه قبل قليل، شاكر! صاحب الدكان في الحيّ نفسه، فقد كان يتردد عليه يوميا ليشتري الحلويات والشوكولاته حتى أطلق عليه لقب (اسماعيل شاكليته).
لم يكن قد تجاوز حينها الخامسة عشرة من عمره عندما توفّي والداه في حادثة غرق السفينة الهندية قرب مضيق هرمز، فتكفلت به عمته نسرين التي كانت أشهر من نار على علم، ولم تكن شهرتها نابعة من فراغ، رغم أنها لم تشغل أية وظيفة حكومية مرموقة؛ وإنما كانت معروفة في المدينة بفضل ما كانت تجلبه من الهند وبعض الدول في تلك الأيام، وهي كامرأة لم تنل نصيباً من الجمال، فعيناها متخاصمتان، كما أنها عانت من شلل الأطفال فصارت عرجاء في بداية طفولتها، وكان يميزها ضرس الذهب الذي كلما فتحت فاها لمع في وسط النهار.
عاش إسماعيل مع عمته في البيت المكون من ثلاث غرف صغيرة: الأولى، كانت له ولعمته، أما الغرفتان الأخريان، فقد كانتا للعمل، ومن ثم النوم للموظفات الكادحات اللائي يعملن ليل نهار. والصالة الصغيرة كانت مخصصة لاستقبال الزبائن، زبائن من مناطق كثيرة، جنود بريطانيون وهنود وإيرانيون ومواطنون وجنسيات أخرى، حتى البحّارة ترددوا على بيت نسرين للمتعة وقضاء أسعد الأوقات.
في تلك الفترة ترك إسماعيل الدراسة بعد وفاة والديه، ولم يعش كأقرانه الفتيان، حتى في الوقت الذي يسمح له بالخروج للعب في منطقة الرأس التي لا تبعد أكثر من كيلومترين، كان يعود حزيناً بسبب التعليقات التي يسمعها من الصبيان ومعايرتهم له بعمته نسرين وما يحدث في بيتهم. ولم يجد في تلك الفترة ما يشغله سوى الاعتناء بالبيت والزبائن، بينما كانت عمته تقضي معظم وقتها في الجلوس في الصالة والاستماع للإذاعة وتدخين (الجدو).
كانت عمته شديدة البخل ونادراً ما كانت تشتري له ملابس جديدة، وكان في معظم الأوقات يرتدي السروال المخطط مع فانلة قد اصفرّ لونها من العرق والوساخة، ولم يعد يجدي معها نفعا غسلها بالماء والصابون، وفانلته هذه في زمننا هذا تعجز عنها كافة مساحيق الغسيل، فكان يضطر في بعض الأحيان إلى الخروج من المنزل لشراء بعض الأغراض، مرتديا الشورت القصير المليء بالمربعات والمثلثات الشبيهة بنجمة إسرائيل، والذي يسميه الناس (هاف اسرائيلي) فتلاحقه النكات والتعليقات من الشباب الذي يلعبون الورقة قرب دكان شاكر .
تعلم إسماعيل توفير النقود لنفسه بعيداً عن أعين نسرين، وكان يضع النقود في حفرة قرب البئر الموجود في باحة البيت، وكثيرا ما كان يشفق عليه المترددون على المنزل فيكون نصيبه بضع روبيات هندية،إن كان الزبون ميسور الحال.
ظل على هذه الحال عدة سنوات حتى توفيت عمته نسرين بمرض غريب لم يستطع الأطباء تشخيصه في ذلك الوقت، وكان من حسن حظه أنَّه الوريث الوحيد، خصوصا عندما تفاجأ بأن حصيلته من الميراث بلغت ما يقارب الثلاثين ألف روبية صرفها من البنك البريطاني للشرق الأوسط.
استمر في نفس المهنة التي امتهنتها عمته . وفي أواخر الستينيات قامت الحكومة بطرد السكان الذين امتهنوا الدعارة في هذه المنطقة فاختفى إسماعيل ولم يشاهده أحد من معارفه لسنوات طويلة.
مرت هذه اللحظات التي تذكرها إسماعيل مثل شريط سينمائي استعرضه منذ وصوله لسكة الخيل وخروجه منها ولم يقطع هذه اللحظات سوى صوت السائق:
- إلى أين تريد الذهاب الآن يا سيد راشد؟
- توجه إلى مكتب الوزير... إنّه في انتظاري؟
التعليقات (0)