مواضيع اليوم

اسماعيل التوراتي من بئر السبع الى مكة

اسرائيل .

2010-03-21 23:03:19

0

اسماعيل التوراتي من بئر السبع الى مكة

تصف التوراة اسماعيل بانه الجد الاول للبدو الرحل.. ورد في التوراة , سفر التكوين , 16 , ان اسماعيل سيكون انسان بري ، بيري آدام بالعبرية بمعنى انه يسكن البراري والبوادي، يده تطال الجميع ويد الجميع تطاله.. والبوادي خلاف الحضر، والبدو الرعاة الرحل خلاف القرويين والمزارعين المستقرين والحضر.. وبهذا فان في قول التوراة يده تطال الجميع ويد الجميع تطاله اشارة الى الصراع المستديم بين البدو والحضر تارة تكون الغلبة للبدو وتارة للحضر.. ولنا من التاريخ امثلة كثيرة تصف هذا الصراع الازلي.. وفي ذات الاصحاح تذكر التوراة ان اسماعيل يسكن امام بقية اخوته.. والفعل التوراتي هنا (يشكون) يقابل الفعل (يسكن) بالعربية.. وهناك وصف لسارة انها كانت امرأة عاقر فوهبت جاريتها هاجر لابراهيم فدخل عليها فحملت باسماعيل، ولما ادركت هاجر انها حامل هانت مولاتها سارة في عينيها فاشتكت سارة الى ابراهيم أن يرفع عنها الظلم ويرد اليها اعتبارها سائلة المولى ان يقضي بينهما، فقال لها ابراهيم ها هي جاريتك تحت تصرفك فافعلي بها ما يحلو لك فأذلتها سارة حتى هربت منها ولاذت الى صحراء بئر السبع فناداها ملاك عند البئر ان عودي الى مولاتك واخضعي لحكمها، وبشرها بغلام اسمه اسماعيل ومعناه (سمع الله) لان الله سمع عذابها وهوانها... واما البئر هنا فتحمل من المعاني الرمزية ما يفوق كونها مجرد بئر ماء فالاسم الذي اطلقته هاجر على البئر (بئر الحي الذي يرى) يدل بشكل واضح على الرعاية الالهية وان الله حي قيوم لا يغفل عن العباد وقد شاءت ارادته ان يكون هذا البئر الذي يفيض بالخير للاحياء من عباده.. واما اسماعيل فقد حلت عليه بركة الله وبشر الله ابراهيم انه جاعل لاسماعيل اثني عشر سبطا تخرج من صلبهم ذرية اسماعيل.. لكن الامور لم تستقر في بيت ابراهيم فبعد ان ولدت سارة اسحاق قررت ان تطرد هاجر واسماعيل للمرة الثانية فخرج بهما ابراهيم الى الصحراء وهامت هاجر على وجهها قاصدة ذات البئر لكنها هذه المرة فقدت البوصلة وتاهت في صحراء بئر السبع وهنا تدخلت الرعاية الالهية مرة اخرى لتهتدي هاجر الى البئر بالهام من الله..

ونتوقف في محطتنا القادمة عند موت ابراهيم حيث اتسمت علاقة اسحاق وابراهيم هنا بان تجلت معاني الأخوة والتعاون فاجتمع كلاهما لدفن والدهما في مدينة الخليل فكان هذا ايذانا ببدء مرحلة جديدة وفارقة في التاريخ اليهودي في ارض اسرائيل وظل مرقد ابراهيم شاهدا تاريخيا على تراث الآباء والاجداد.. وحمل اسحاق مضاربه وخيامه ليستقر في بئر السبع بجوار بئر الحي الذي يرى ليتولى امر السدانة والسقاية والرفادة.. فيما يصف الاصحاح 25 اسماعيل بانه "نزل" على اخوته، فيما يفهم على انه وصفا اشد حدة مما ذكر في آية سابقة ان اسماعيل "يسكن" امام اخوته، تأكيدا على عمليات الغزو والاجتياح والمداهمة التي يقوم بها اهل الصحراء في ارض القرى والحاضرة.. ويصف الاصحاح 25 اسباط اسماعيل بانهم يسكنون في حصونهم وحواضرهم .. وهنا لا بد من الاشارة الى ان كلمة (طيرة) التي استخدمتها التوراة للاشارة الى الحصن او القلعة هي اصل التسمية للبلدات الخمس التي تحمل هذا الاسم في ارض اسرائيل "فلسطين".. فيما كلمة "حصر" وتلفظ (حتسير) بالعبرية هي الكلمة التي استخدمتها التوراة هنا لوصف مجتمعات (الحضر)، في اشارة الى ان الاسماعيليين باتوا يسكنون البوادي والحضر..

وتجدر الاشارة هنا ان ثمة قرية اسرائيلية تسمى حتسور وتكتب (حصور) تحمل معنى الحاضرة او القرية او المجتمع الحضري وهو اسم عبراني قديم.. يقول دعاة التهويد إن اسرائيل تعمل على تهويد الآثار واسماء القرى العربية فيما الواقع ان هذه اسماء عبرية قديمة هي الاسماء الاصلية لهذه البلدات وما كلمة حتسور الا مثال واحد للاسماء العبرية القديمة التي طمست وما تداولها اليوم الا اعادة احياء ورد اعتبار لهذه المفردات التي تصف واقع الحال في ذلك الزمان خير وصف.. وما كلمة حتسور الا عبارة كانت تطلق في العصور الخالية على الحضر وهو خلاف البداة والبداوة كما اسلفنا..

وفي زماننا يستطيع المرء ان يميز بين البدو الخلص او الاعراب الذين يرتادون الكلأ ويتتبعون مساقط الغيث ويجوبون البادية مع جمالهم ويعرفون شعابها واوديتها، والبدو الحضر وهم قوم من الاعراب الذين يسكنون البادية حضروا القرى وهاجروا الى الحاضرة فأقاموا بجوارها.. والسؤال المطروح هنا هل كان اسباط اسماعيل الذين ورد ذكرهم في التوراة من اهل البادية ام من البدو الذين هاجروا الى الحضر.. والجواب هو ان التوراة تصف نسل اسماعيل بانهم من البدو الحضر فهم لم يبقوا على بداوتهم وترحالهم ولم يستقروا في القرى والحاضرة، علما ان التوراة تصف نسل اسماعيل أنهم أمم لا اسباطا، اثنتي عشر أمة، لكل أمة منهم رئيس، وهم يقيمون في حواضرهم وقلاعهم، بمعنى انهم انتقلوا تدريجيا من طور البداوة الى طور الحضارة كما وصف ابن خلدون هذا الحال في مقدمته، فهم يقيمون في القرى ويمارسون حياة البداوة..

ونتحول سريعا الى قصة الذبيح هل هو اسحاق ام اسماعيل؟ في الواقع لا يصعب على المرء المتتبع لقصة طرد اسماعيل في التوراة ومن ثم قصة الذبيح اسحاق في الاصحاح التالي (سفر التكوين الاصحاح 22) ان يلاحظ مدى التشابه بين الروايتين، ففي كلاهما يقع الامر الالهي على ابراهيم ان "يضحي" بولده سواء بالطرد او بالذبح.. وفي كلتا الحالتين ينجو اسحاق واسماعيل بفضل الرعاية الالهية.. ففي حالة اسماعيل ألهم الله هاجر فوقع نظرها على بئر الماء وانقذت ولدها من الموت عطشا، كذلك الامر في قصة اسحاق حيث افتداه بكبش لينجو اسحاق من موت اكيد.. وفي الحالتين يتبدل الخطر المحدق باسحاق واسماعيل بمكرمة الهية ليس وحسب انها افضت الى النجاة والخلاص بل جعلت لهم ذرية من بعدهم تمثلت بأمة اسحاق وأمة اسماعيل.. وقد وعد الله هاجر ان يبارك بنسل اسماعيل وهو ذات الوعد لابراهيم بخصوص نسل اسحاق وقد صدق الله وعده في كلتا الحالتين..

مما سلف يتضح اذاً ان قصة "الذبيح اسماعيل" سبقت قصة "الذبيح اسحاق" هذا بالمعنى المجازي طبعا حيث أمر ابراهيم اولا بابعاد اسماعيل الى الصحراء التي تفصل بين ارض كنعان وارض مصر، هي صحراء النقب، وتعريضه لموت اكيد، فلا ينجو تائه في صحراء النقب في ذلك الزمان.. وليس ادل على مشاعر الابوة تجاه اسماعيل من ما ذكر في الاصحاح 25 من امر العطايا التي اغدق بها ابراهيم على ولده اسماعيل بعد موت سارة.. واما سلخ اسماعيل وامه عن العائلة بامر الهي فكان منذ بدايته مقرونا بوعد الهي يهدئ من روع ابراهيم وخوفه على ولده فقد ارادت المشيئة الالهية ان ينفصل اسماعيل عن اسحاق حتى لا تضيق بهم الارض ليجعل الله لكل منهما ذرية.. ويخاطب الله ابراهيم لحظة وداعه لولده اسماعيل بالقول لا تهن ولا تحزن فاني جاعل لكل من اسحاق واسماعيل ذرية عظيمة (التكوين, 21 , 12-13)..

ولا يغيب عن القارئ ايضا تشابه الحوادث التي افضت الى تسمية اسحاق واسماعيل، فبينما نرى ان ردة فعل ابراهيم وزوجه سارة بعد ان بشرا باسحاق تمثلت باستغراب مشوب بشيء من الضحك وقد انعكس هذا جليا بتسمية اسحاق او يتسحاق بالعبرية ومعناها (يضحك) وتكتب (يصحك) في اشارة بادية جلية الى التشابه حد التطابق بين الجذر العربي والعبري، نرى ان مرد الاسم اسماعيل ان الله سمع شكوى هاجر وعذابها ثم افصح الملاك عن معنى اضافي للاسم عند نجاة اسماعيل من الموت بقوله لهاجر إن الله سمع نداء اسماعيل وهو يستغيث طلبا للماء..

فما بدا في ظاهره على انه قدر قاسي ومجحف بحق اسماعيل الذي أبعد عن اهله وبيته ليفسح المجال امام اسحاق ليستفرد بميراث ابيه مما قد يسفر ايضا عن تأجيج مشاعر الحقد لدى اسماعيل تجاه اخيه، بدا على غير هذا النحو بعد موت ابراهيم وما رافقه من تعاون أخوي بين اسحاق واسماعيل فيما يختص بمراسيم الدفن.. فأدركا ان ما بدا لهما على انه فراق وجفاء قد تحول الى مصدر قرب وتآخي.. وان الحكمة الربانية اقتضت ان يتبدل القدر المفروض على كلاهما بالهلاك، ببركة ونعمة الهية.. وان يتبدل بؤسهما نعيما..

وقد ذهب علماء اليهود السلف والخلف في مسألة الوعد الرباني لهاجر بأن يكون اسماعيل من أهل البراري والبوادي، مذاهب شتى، لكن آراءهم تجتمع حول نظرة ايجابية تجاه اسماعيل وذريته، فقد ذهب العلامة شلومو يتسحاقي (راشي) ابن القرن الـ 11 للميلاد الى ان الآية يفهم منها بان اسماعيل سيميل الى حياة البادية.. وقال البعض الآخر ان الآية ترمي الى الاصالة والحرية والحرب التي تميز حياة البادية.. واما العلامة ابراهام ابن عزرا ابن القرن الـ 12 للميلاد فيرى ان المقصود من الآية هي حرية اسماعيل وعدم انصياعه لسلطة عائلية... هذا ولم تنقطع اخبار اسماعيل في فترة التلمود ومنها استدل علماء اليهود الخلف من امثال راشي ورمبان (الحاخام موشيه بن نحمان) أن اسماعيل كان صالحا وتوابا وتقيا..

والخلاصة ان ذكر اسماعيل ظلت تتداوله السن علماء اليهود على مر العصور، من عصر التوراة مرورا بحقبة التلمود في ارض اسرائيل وبلاد الشام الى تفاسير العلماء الخلف في ارض العرب والعجم.. ولم يكن الاسلام منذ بدايته وبعد انتشاره بمنأى عن هذه الرواية التي بلغت أخبارها الآفاق.. وبالنظر الى كل هذا فان تسرب قصة ابراهيم وسارة وهاجر واسحاق واسماعيل الى العقيدة الاسلامية ربما يكون امرا بديهيا، كذلك لم يكن مفاجأ ان يتبنى الاسلام رواية الذبيح اسماعيل ويرجحها على رواية الذبيح اسحاق فالقارئ للتوراة قد يبدي تعاطفا مع اسماعيل او مع اسحاق وقد ينحاز الى كون اسماعيل هو "الذبيح" والاكثر عرضة للاضطهاد او العكس... واما الرواية التوراتية من منظور يهودي فتتبنى قصة الذبيح اسحاق.. ولا غرابة ان تحتل هاجر التوراتية هذه المكانة السامقة في العقيدة الاسلامية... ولا نعجب عندما نقرأ ان البئر التوراتية (بئر الحي الذي يرى) قد أضحت تسمى اسلاميا بئر زمزم! مع بعد المسافة الجغرافية التي تفصل بين البئر التوراتية الاصلية في بئر السبع وبئر زمزم في مكة.. ولا عجب ان يقدم المسلمون الاضاحي تيمنا بفداء اسماعيل فقد كانت الاضاحي في مقدمة الفرائض والطقوس اليهودية في بيت المقدس لقرون طويلة.. وما أشبه أحكام الاضحية الاسلامية في عيد الاضحى بأحكام ومقاصد أضحية عيد الفصح اليهودي الذي نقف اليوم على أعتابه...

دمتم بخير

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات