الليبرالية مصطلح مثير للأختلاف , ومحفز شديد للوقوع في سوء الفهم . والسبب في ذلك على ما اعتقد يعود للتشابه الكبير ( واللذي قد يصل الى حد التداخل ) بين وصف الليبرالية ووصف العلمانية , وكذلك لان الكثير من الساسة والمفكرين والكتاب والفنانين والصحفيين في وقتنا الحالي يصرحون ليل نهار بليبراليتهم , بينما كل نتاجاتهم وافكارهم تدل على غير ما يدعون من انتماء للمعسكر الليبرالي وعلى انتمائهم الواضح للمعسكر العلماني , مما يخلق انطباعا خاطئا عن الليبرالية لدى المتلقي العادي للنتاجات الفكرية والثقافية لهؤلاء . وفي العالم الأسلامي ظلمت الليبرالية كثيرا حتى اصبحت مذمومة مدحورة في بلاد الأسلام وهي اللتي اخذت بجريرة العلمانية مع انها بريئة من هذه التهمة براءة الذئب من دم ابن يعقوب . ولذلك اكتب هذه المقالة عن علاقة الليبرالية بالعلمانية من جهة وبالأسلام من جهة اخرى كمحاولة بسيطة ومتواضعة اسطر فيها فهمي لهاتين العلاقتين .
وكما في موضوع العلمانية والاسلام اللذي تناولته في مقال سابق ولكي لاندخل في حيص بيص حول تعريف الليبرالية سأستخدم قاسم مشترك لتعريف الليبرالية لا اعتقد اننا سنختلف عليه الا وهو تعريفها في موسوعة الويكيبيديا .
الليبرالية ( liberalism ) كلمة مشتقة من كلمة لاتينية تعني ( الحر ) . والليبرالية الان هي مذهب او حركة وعي اجتماعي سياسي داخل المجتمع تهدف لتحرير الانسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاث – السياسية والاقتصادية والثقافية - وتتحرك الليبرالية وتتكيف وفق قيم المجتمع اللذي يتبناها اي انها تختلف بين مجتمع غربي متحرر ومجتمع شرقي محافظ مثلا . وفي السياسة تعني الليبرالية تلك الفلسفة اللتي تقوم على استقلال الفرد والتزام الحرية الشخصية وحماية الحرية السياسية والمدنية وتأييد النظم الديمقراطية البرلمانية والأصلاحات الأجتماعية . والمنطلق الرئيس للفلسفة الليبرالية هو ان الفرد هو الأساس بصفته الكائن الملموس للأنسان بعيدا عن التجريدات والتنظيرات , ومن هذا الفرد وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها . فالأنسان يخرج الى الحياة فردا حرا له الحق في الحياة اولا , ومن حق الحياة والحرية هذا تنبع بقية الحقوق المرتبطة . كحق الاختيار بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد لا كما يُشاء له وحق التعبير عن رأيه بكل الوسائل وحق البحث عن معنى الحياة والدين . وبأيجاز الليبرالية تعني حق الانسان في ان يعيش الحياة بكامل الاختيار في عالم الشهادة اما عالم الغيب فامره متروك الى عالم الغيب والشهادة .
اما موقف الليبرالية من الاخلاق والدين فانها لا تأبه لسلوك الفرد مادامه ملتزما بدائرته الخاصة من الحقوق والحريات . اي ان للفرد حق اختيار الدين وان يفعل ما يشاء على ان لايؤثر في افعاله على الاخرين . وتحتم الليبرالية على الدولة ان تفصل سلطاتها الثلاث وان لا تتدخل في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية للمواطن . وفي موضوع الاقتصاد فالليبرالية كما في باقي نواحي الحياة تنادي بتحرير رؤوس الاموال وبالاقتصاد الحر على ان تكون هنالك ضوابط تمنع الفرد من الاخلال باقتصاد المجتمع .
ومن خلال هذا التعريف تتضح لنا اوجه التشابه الكثيرة والكبيرة في تعريف الليبرالية وتعريف العلمانية واللتي تؤدي بالكثرة الكثيرة من الناس الى الخلط بينهما . الا ان الفحص والتمحيص الجيدين لكلا التعريفين سيجعلنا نكتشف الفرق المهم والجوهري بينهما . وهذا الفرق هو مايهمني في هذا المقال لانه الفرق اللذي يحدد الفرق بين المسلم العلماني والمسلم الليبرالي اي بصيغة اخرى الفرق بين الكفر والأيمان .
يكمن هذا الاختلاف في احترام الليبرالية للدين والتقاليد في كل مجتمع وعدم ممانعتها لتدخلهما في بناء الدولة ومؤسساتها ودستورها وقوانينها مادام هذا التدخل لايؤثر على حرية الفرد الشخصية وحريته في اختيار دينه ومعتقداته الفكرية . على ان تضمن لوائح وقوانين الدولة حرية اختيار الفرد لمن يمثله في البرلمان وتضمن له المشاركة بحرية وفعالية في كل الفعاليات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية في المجتمع . الا انها اي الليبرالية لاتمانع من قيام دولة دينية قائمة على القواعد الليبرالية . وبعبارة بسيطة الليبرالية لا تعارض الدولة الدينية ما دامت هذه الدولة تتبنى الديمقراطية الحقيقية .
لقد تسائلنا في المقال السابق ( هل يتعارض الاسلام مع العلمانية ) واجبنا بأن الاسلام يتفق في كثير من النواحي مع العلمانية الا انه يختلف معها اختلافا جوهريا كبيرا حول تداخل السياسة مع الدين حيث ترفض العلمانية ذلك بينما الاسلام دين يطرح نفسه كاسلوب حياة متكامل يجب على المجتمعات المسلمة تطبيقه في كافة نواحي حياتها . ولقد اثبتنا من خلال الايات والاحاديث والتفاسير ان الاسلام ينادي بالعدالة الاجتماعية وبالديمقراطية ودولة المؤسسات وبحرية ان يعتنق الانسان ما يريده من دين او فلسفة ولكنه يرفض ان تكون الحرية الشخصية فوق الدين . وهذه القيم ذاتها هي قاسم مشترك بين الأسلام والليبرالية ايضا , فاذا اخذنا كل مبدأ ليبرالي على حدة سنستنتج مايلي .
- تقول النظرية الليبرالية انها ما قامت الا من اجل الفرد حيث تبين العبارة التالية ذلك . ( والمنطلق الرئيس للفلسفة الليبرالية هو ان الفرد هو الأساس بصفته الكائن الملموس للأنسان بعيدا عن التجريدات والتنظيرات , ومن هذا الفرد وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها . فالأنسان يخرج الى الحياة فردا حرا له الحق في الحياة اولا , ومن حق الحياة والحرية هذا تنبع بقية الحقوق المرتبطة . كحق الاختيار بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد لا كما يُشاء له وحق التعبير عن رأيه بكل الوسائل وحق البحث عن معنى الحياة والدين ) . ولم يبعث الله الأنبياء بالكتب والأديان الا ليكرم الأنسان وينقله الى حياة افضل واكبر دليل على ذلك الأسلام اللذي حول مجتمع جزيرة العرب البدوي المتخلف الى مجتمع مدني في فترة وجيزة( تعتبر معجزة ), واستطاع عبر مزجه قيم الأسلام بحضارة الامم السابقة من انشاء حضارة عظيمة امتدت لقرون . ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) الأسراء 70 . وهنا قد يقول قائل ان الاسلام يختلف مع الليبرالية في هذا الموضع حيث ان الأسلام يجعل من الله محورا من الكون بدلا من الانسان اللذي تجعله الليبرالية محورا لفلسفة هذا الكون حين يقول القرآن (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات 56 . الا ان حق الأختيار في كل شيء واللذي وهبه الله للفرد الأنسان متمثل في ايات قرآنية كثيرة تجعل من الأنسان في هذه المرحلة الدنيوية محورا فعليا للكون .
يقول تعالى .. ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) هود 15 . ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) الشورى 20 . وهاتين ايتين واضحتين وضوح الشمس تشرحان كيف ان الله جل جلاله قد اعطى الانسان كامل الحرية في اختيار معتقده ودينه وطريقة حياته , بل انه سبحانه قد وعد الانسان العاصي له والكافر به بأن يمتعه بثمرة اعماله الدنيوية وان لايبخسه قيمة هذه الاعمال في الدنيا الا انه يتوعد هذا الكافر بالعذاب في الاخرة . وهذه حكمة الهية بنى الله الخالق هذا الكون على اساسها حيث يقول العزيز الكريم . (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) النحل 61 . اذا فحكمة الخلق لا تتعارض مطلقا مع حرية الفرد وان مبدأ حرية الأختيار والمعتقد تجعل الأنسان في حقيقة الأمر هو محور التعاليم الالهية , وبذلك يتطابق الأسلام مع الليبرالية في هذا المبدأ .
كما ان الله خلق الدنيا وخلقنا لنعيش فيها لفترة من الزمن قدرها سبحانه ومنعنا من معرفة طولها وقال لنا اذهبوا واعملوا عقلكم وفكروا في هذا الكون وفي انفسكم واختاروا ان تكونوا وثنيين او سيخيين , يهود او مسيحيين , ولكني قد بعثت لكم الرسل والآيات والمعجزات والكتب لتعرفوني ولأشرح لكم الطريقة المثلى في العيش وادارة الدولة ( اصل الولاية ) , فمن اخذ بهذه الطريقة كان بها والا فاني قد اقمت عليكم الحجة ولكم موعد معلوم . وهذه الطريقة المثلى هي ان تحترموا حقوق الأنسان مهما كان دينه او لونه او جنسه فلا تقتلوه الا بالحق , وهذا الحق هو في حالة كذا وكذا . كما ان للمساكين حق معلوم في اموال الاغنياء عليهم دفعها ومنها تصرف الدولة في تامين الحياة الحرة الكريمة لكل ابناء الدولة , أي بمعنى حديث جباية الضرائب وتوفير ضمانا اجتماعيا وصحيا وتعليميا وغيره . ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) النمل 3 . ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة 60 .
لقد اعطى الأسلام الحق للأنسان لممارسة حياته كيفما يشاء على ان لايخرق القوانين اللتي نزلت في القرآن او ما يسمى بالحدود في علم الفقه . هذه القوانين المتمثلة بافعل ولا تفعل وحدد الخطوط العريضة للجرائم الجنائية والاقتصادية والمدنية والأحكام الواجب اتخاذها ازاء هذه الجرائم وكما في ايات قتل النفس عمدا اوخطأ والسرقة او احكام تحريم الربا وتطفيف الميزان والأمتناع عن دفع الأخماس والزكاة والللتي تسمى الآن بالجرائم الأقتصادية وكذلك ايات الزواج والطلاق والمحارم واللتي هي عبارة عن قوانين مدنية تقنن شكل العلاقات الأجتماعية الصحيحة لبناء الأسرة المتماسكة واللتي هي اساس المجتمع المتماسك .
وبذلك انتشل الأسلام الأنسان من ظلمات الجاهلية وشرع له شريعة من افضل الشرائع واكثرها تطورا في جميع مراحل التاريخ الأنساني السابق واللاحق .
قال عمر رضي الله عنه (( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا )) . وهذه لعمري كلمات تبين التزام المسلمين الأوائل بحرية وحقوق الأنسان اللتي داس عليها الأمويون والعباسيون والعثمانيون بعد ذلك فأخذ الأسلام بجريرة ملوك هذه الدول الجائرة دون وجه حق.
الا يدل كل ذللك على ان الأسلام ما جاء الا ليرقى بالأنسان , الم يجعل الأسلام من الأنسان محورا في هذه الدنيا .
اما في المجال السياسي فان مبدأ الديمقراطية في الأسلام واضح كما اسلفنا في موضوع العلمانية من خلال ايات الشورى الكثيرة اللتي وردت في القران وفي مجلس الشورى اللذي كان يتكون من الصحابة ايام الدولة الراشدة ومن الأجتماعات الأسبوعية اللتي كانت تتم بين قيادات الدولة والمواطن العادي لمناقشة الامور العامة والكبيرة مثل اعلان الحرب والسلم بعد كل صلاة جمعة واللتي استمرت حتى قيام معاوية بتحويل الجمهورية الديمقراطية الى مملكة دكتاتورية ما انزل الله بها من سلطان . كما وحدد الأسلام لكل سلطة من سلطات الدولة دورا بحيث تكون هذه السلطات مفصولة عن بعضها البعض .
خطب ابو بكر ( رض ) يوما فقال (( ان رأيتموني على باطل يوما فقوموني . اطيعوني ما اطعت الله )) . كما وخطب عمر ( رض ) يوما من على المنبر فلم يعجب كلامه احد المصلين فقام وقال له على مرأى ومسمع من الناس اجمعين ( اتقي الله ياعمر ) فقام اليه الناس يريدون اسكاته فما كان من عمر رضي الله عنه الا ان يقول ( دعوه يقولها . لا خير فيكم اذا لم تقولوها . ولا خير فينا اذا لم نسمعها . رحم الله امرأ اهدى الي عيوب نفسي )) . وكذلك فعل علي عليه السلام وهو من هو وقبل التحكيم في صفين نزولا عند رغبة اصحابه بالرغم من رفضه للتحكيم وتحذيره المتكررمن انه خدعة من خدع معاوية .
كل ذلك يدل على ان المسلمين عندما كانوا ملتزمين بأسلامهم في جمهوريتهم الأسلامية الأولى اللتي اسسها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فان رأي الشعب كان مسموعا بوضوح وكان هنالك نوع من البرلمانات لا برلمان واحد او لنقل مجلس للشيوخ يضم اجلاء الصحابة ومجلس للشعب يقول فيه المواطن العادي ما يشاء في المسجد كل يوم جمعة بالأضافة الى المجالس المحلية حيث يذهب كل مواطن الى االوالي اللذي كان غالبا ما يكون من الصحابة ليساله عن امور دينه ودنياه ويشتكي عنده اذا رأى شيئا لايستطيع ايصاله الى الخليفة
اما موضوع فصل السلطات وسيادة القانون فيتجليان بأبها صورهما في الحادثتين التاريخيتين التاليتين وهما من ضمن الآف الحوادث المماثلة اللتي تمتلأ بها كتب التاريخ .
جاء اسامة ابن زيد الى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وسلم وكان من احب الناس اليه , ليشفع في فاطمة بنت الأسود وقد وجب عليها حد السرقة . فأنكر رسول الله صلوات الله عليه وسلامه وعلى اله هذا الموقف وأنتهره قائلا .. اتشفع في حد من حدود الله ؟! . ثم خطب الناس قائلا .. انما اهلك من كان قبلكم انهم اذا سرق فيهم الشريف تركوه . وأذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد . وأيم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها .
فهل بعد هذا كلام عن عدل الأسلام اليس تركنا نحن المسلمون لهذا الحديث وغيره هو سبب مأساتنا الحاضرة .
سقطت درع امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) من رحله يوما دون ان يشعر بها فوجدها عند رجل نصراني فطالبه بها فلم يرضى النصراني ان يعطيها لعلي ( عليه السلام ) فأختصما للقاضي شريح . وعندما دخل امير المؤمنين والنصراني اراد القاضي ان يقوم ليقعد علي ( عليه السلام ) مكانه فأمره امير المؤمنين ان يلزم مكانه وجلس هو والنصراني بين يدي القاضي . ثم قال علي للقاضي .. الدرع درعي ولم ابع ولم اهب . فسأل القاضي الرجل النصراني فيما يقول امير المؤمنين فرد .. الدرع درعي وما امير المؤمنين عندي بكاذب . فالتفت القاضي شريح الى علي ليسأله .. يا امير المؤمنين هل لك من بينة ؟ . فضحك امير المؤمنين وقال اصاب شريح ما لي بينة . فقضى القاضي للنصراني بالدرع لأنه صاحب اليد عليها ولم تقم بينة بخلاف ذلك . فأخذها ذلك الرجل ومشي وماهي الا خطوات حتى عاد ليقول اما اني اشهد ان هذه احكام انبياء . امير المؤمنين يدنيني الى قاضيه فيقضي لي عليه ! اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله . الدرع درعك يا امير المؤمنين , اتبعت الجيش الى صفين فخرجت من بعيرك الأورق . فقال الأمام علي .. اما اذا اسلمت فهي لك .
فهل بعد هذين المثلين انكارا لفصل السلطات في الأسلام .
فيما يتعلق بموضوع التدين والأخلاق جاء في تعريف الليبرالية مايلي .
اما موقف الليبرالية من الاخلاق والدين فانها لا تأبه لسلوك الفرد مادامه ملتزما بدائرته الخاصة من الحقوق والحريات . اي ان للفرد حق اختيار الدين وان يفعل ما يشاء على ان لايؤثر في افعاله على الاخرين
اوضحنا سابقا ان الأسلام قد اعطى الفرد كامل الحرية في اعتناق الدين او الفكر اللذي يريد ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) 6 الكافرون . وما وجود المسيحيين واليهود والصابئة واصحاب مئات الديانات الأخرى في كنف الدول المسلمة منذ الآف السنين الا دليلا واضحا على حرية المعتقد اللتي وفرها الأسلام للفرد .
اما موقف الأسلام من الأخلاق فهو صارم وحازم في هذا الموضوع . فلا دين مثل الأسلام يحض على مكارم الأخلاق حتى ان الرسول الأعظم صلوات الله عليه وعلى اله يقول ( انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) . بل ان الدين هو الأخلاق وحسن المعاملة مع الناس يقول الحبيب المصطفى ( انما الدين المعاملة ) .
في موضوع الأخلاق هذا يكمن الأختلاف تقريبا بين الليبرالية والعلمانية . فبينما تقر العلمانية بحق الفرد ارتكاب امورا لا اخلاقية تحت بند الحرية الشخصية كما نرى اليوم في المجتمعات العلمانية ومنها الكثير من الدول ذات الغالبية المسلمة ولا اقول الأسلامية والعربية حيث تنتشر المقاصف والبارات والملاهي ودور الدعارة بعلم السلطات ومباركتها . بل واستحداث قوانين تحدد كيفية تمتع الفرد بالموبقات . وبعض المجتمعات وصلت الى حد اقرار وتقنين الشذوذ الجنسي وزواج المثليين . كل ذلك يحدث في هذه الدول بسبب العلمانية اللتي تعزل الدين ليس فقط عن الدولة بل عن الحياة ذاتها . فالعلمانية لاتسمح للدولة بالتدخل حتى لأيقاف الأنحطاط الأخلاقي اللذي اصبح ينشر علنا في وسائل اعلام المجتمعات العلمانية بل ان العلمانية اصبحت وكأنها محفز ومشجع للأنحطاط الأخلاقي تحت اسم الحرية الشخصية .
على العكس من العلمانية فالليبرالية تسمح للدولة بالتدخل لمنع كل ما يخالف عقيدة ودين وتقاليد المجتمع مهما كانت ديانته او تقاليده . فهي تسمح للمجتمع الهندوسي مثلا بتطبيق تعاليمه في انشاء دولة هندوسية ونفس الشيء ينطبق على باقي المجتمعات . وفي حالة المجتمع الأسلامي تسمح الليبرالية للدولة بالتدخل لمنع أي مظهر علني يحض على ارتكاب الموبقات اللتي حرمها الأسلام كشرب الخمر والدعارة وغيرها , مادام المجتمع اللذي تمثله الدولة رافضا باغلبيته لهذه الأفعال كما هو واضح من تعريف الليبرالية . بل ان الليبرالية تعطي الحق للدولة بالتبشير بالأخلاق الحميدة واعتبار ذلك جزء من واجبها وهذا مايسمى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . الا ان تقنين الحقوق والواجبات وتعريف الفرد بهما ومنع الأستخدام التعسفي للدين والأعراف , او استخدامهما في خلق دكتاتوريات سياسية وكيانات كهنوتية تحكم المجتمع بيد من حديد بأسمهما , كل ذلك مرفوض رفضا باتا في الليبرالية وفي الأسلام ايضا .
لقد اعطى الأسلام للفرد حرية التصرف كما يشاء حتى لو كان تصرفه مخالفا للشرع على ان يكون ذلك بينه وبين نفسه لا يجاهر به ولا يحض عليه الآخرين ولا يرتكب مخالفته اما انظار الشارع المسلم ولا يؤذي أي فرد اخر بأفعاله . والا فان من حق الدولة محاكمته على انتهاك الشرع اذا ماثبت عليه ذلك بمحاكمة شرعية وقانونية . فالأسلام لم يعطي الحق لأي فرد مهما كانت درجته وصفته بمعاقبة أي شخص دون اللجوء الى الطرق الشرعية والقانونية اللتي تضمن للفرد محاكمة عادلة . لتوضيح ذلك بصورة افضل سنعطي المثال التالي اللذي يدل على ان المسلمين الأوائل كانوا من اشد الناس التزاما بهذه القيم الليبرالية .
قال عمر رضي الله عنه يوما في جمع من الصحابة والمسلمين : ما رأيكم في رجل يفعل الفاحشة ويراه امير المؤمنين ؟ . فرد عليه علي بن ابي طاب ( عليه السلام ) : ان ذكرت اسمه طالبناك بثلاث شهود انت رابعهم لنرى بعدها ان كان محصنا رجمناه , وأن كان غير ذلك جلدناه حد الزنا . وان لم تأت بالشهود وذكرت اسمه اقمنا عليك حد القذف . فسكت رضي الله عنه .
فأذا كان الخليفة رأس الدولة والمؤتمن على دينها ودنياها لايستطيع ان يشهد بشيء رآه بعينه الا اذا اتم شروط الشهادة اللتي اقرها الشرع , فهل يستطيع احد بعد ذلك ان ياتي ليقول لنا ان الأسلام يعطي علماء الدين الحق بأقامة محاكم تفتيش وان أي انسان درس درسين في الفقه والشرع يستطيع ان يفتي ويحاكم ويكفر كيفما يشاء .
الخلاصة
ان كل ماجاء في تعريف الليبرالية ينطبق انطباقا تاما على تعاليم الأسلام , بل ان الأسلام هو الكل المحتوي على تعاليم الليبرالية وعلى تعاليم اشمل واعظم ولذلك عنونا الموضوع باسلامية الليبرالية لا ليبرالية الأسلام . فالليبرالية تقر الدولة اللتي يكون للدين والتقاليد رأي فيها على ان لايتعارض رأي الدولة مع الديمقراطية ولا مع فصل السلطات . كما يلتقي الأسلام مع الليبرالية في الأقرار بحق الفرد بأعتناق الأفكار والأديان وأن يتصرف بحرية على ان لايخرق شرع وقوانين الدولة الأسلامية .
لو ان دولة قامت على اسس اسلامية صحيحة فلا يمكن تخيلها الا دولة مؤسسات تكون فيها السلطات الثلاث مفصولة , ذات تعددية حزبية مشروطة بتمسك هذه الأحزاب بأصول الأسلام وبثوابته ولا يمنع اختلافها في فروعه . فليس من المعقول ان تكون الدولة اسلامية وتسمح للشيوعيين والعلمانيين بتكوين احزاب تدخل البرلمان وتشرع بما لايرضي الله . فللشيوعي والعلماني والكافر الحق بأعتقاد ما يشاء لكن ليس له الحق في فرض افكاره على المسلم الملتزم في دولة الأسلام او ان يترشح لأي انتخاب ببرنامج انتخابي متعارض مع الشرع والدين . وهذا ما تقره الليبرالية وترفضه العلمانية وهنا تتطابق الليبراللية مع الأسلام وتفترق العلمانية عنهما معا .
التعليقات (0)