تفحص الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تشكل الحاضن السوسيولوجي لولادة مؤسسات المجتمع المدني في العراق بعد العام 2003 مسألة بالغة الاهمية وذلك لمعرفة الآليات التي تعتمدها الدولة للهيمنة على الفضاءات المجتمعية، فضلاً عن ذلك ان النسق الثقافي في العراق، يتميز بعدم تراكم الميراث الفلسفي او التعددية الاجتماعية والفكرية او سيادة القانون، اضافة الى ضعف الدورة الاقتصادية ساعد على تفكك الطبقات الاجتماعية والروابط والتشكيلات والاتحادات المهنية والثقافية.
في هذا البحث حول مؤسسات المجتمع المدني ننطلق من فرضية ان شكل علاقات الانتاج الاجتماعي هي التي تحدد وتشكل شبكة الروابط المجتمعية وفاعليتها ومنظومة التصورات وآليات التفكير والقيم والبنى الثقافية والتواصل والتبادل المادي والفكري بين الافراد والجماعات، ولكون المجتمع العراقي يعاني من اخلالات ثقافية واجتماعية وقتصادية فهي تعود الى ضعف التنمية الاجتماعية المستدامة وتخلف شبكات علاقات الانتاج الاجتماعي وهيمنة العلاقات التقليدية بين الافراد (القبلية، الطائفية ،الاثنية، القومية) التي تتناقض مع النسق الوظيفي للمجتمع المدني، وهي انعكاس لتعثر التحديث في العراق.
الوضعية التاريخية لمؤسسات المجتمع المدني
قامت الدولة العراقية الحديثة العام 1921، اصلاً على ترميم الطبقات القديمة (شيوخ القبائل، الاغوات الاكراد كبار التجار، السادة، الضباط والاشراف) تمكن هذا التحالف من تشكيل نخبة سياسية رغم انها تفتقد لمشروع حداثي ليبرالي فاعل في احشائها ولكنها استطاعت نقل المجتمع العراقي من مجتمع متشرذم يقع تحت وطأة الصراعات الطائفية وللاهوتية الى مجتمع/ دولة. صاحب هذه العملية تطور علاقات الانتاج الاجتماعي وتشكل النقابات والاتحادات المهنية والروابط الثقافية فضلاً عن الاستقلال النسبي للسلطة القضائية عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وتم منح المجتمع الكثير من الصلاحيات لادارة ذاته عبر الاحزاب السياسية وتبلورت مرجعيات حديثة للفرد والجماعات. تتجاوز المرجعيات التقليدية.
ادت عمليات التحديث رغم ضعفها داخل بنية المجتمع العراقي الى نشوء الطبقات الاجتماعية الوسطى وطبقة تجار تعتمد الملكية الاجتماعية والثروة كمجال مفصول عن الدولة. وبروز طبقة عاملة وجمعيات واتحادات تعبر عن مصالح متعارضة وازدهار نسبي للصحافة. بعد العام 1958 ونتيجة المتغيرات الراديكالية في تكوينات الدولة فقد جرى اضعاف مؤسسة الملكية الاجتماعية نتيجة الاصلاحات الزراعية وتقويض الملكية العقارية وبروز الدولة كمالك للثروات وتحكمها بالمجتمع المدني داخل السياسات الوطنية والسعي الى استيعاب كل البنى الاجتماعية، بعد ظهور الدولة البعثية في منتصف ستينيات القرن الماضي التي قامت بتأميم الرأسمال الخاص، أدت هذه الاجراءات الى اضعاف انفصال المجال السياسي عن المجال الاقتصادي وهيمنة الدولة على الحقل المدني ونشوء اقتصاد مركزي، حيث شيدت هذه الدولة نظام متشابك من البنى القرابية والايديولوجية الريعية والحزب الجماهيري الواحد المسلح والهيمنة على وسائل الاعلام والجيش والاجهزة البوليسية فضلاً عن التلاعب بالمؤسسات الاجتماعية التقليدية وسيطرة نظام العصبية السياسية هذه الوضعية التاريخية منحت الدولة البعثية الفاشية البدوية درجة عالية من الضبط والقسوة الجامحة وصلت الى مرحلة الابادات الجماعية للمكونات المدينية والقومية والاثنية اما في المجال المجتمعي فقد ادى الى ازمة تكوين الطبقة البرجوازية الوطنية العراقية. وصعود الفئات الريفية بأيديولوجيتها القومية الرثة التي تتسم بالنزعات الشوفينية انتج دولة توتاليتارية تلغي الاختلاف والتنوع الاجتماعي والتعددية السياسية وتمارس التهميش للجماعات الاخرى تقوم بينها الداخلية على حاكمية الحزب وتراث الاستبداد والتفرد وايديولوجية الوسط القومي العلماني.
هذا النموذج البعثي للدولة استطاع ان يحقق السيطرة الشاملة على المجالين الاقتصادي والسياسي وينفذ سلسلة من الاجراءات حسبت من قبل اليسار العراقي بوضعها المسار الحقيقي للاشتراكية. وبسبب ازمة التكوين للدولة الوطنية العراقية منذ عشرينيات القرن الماضي لم يستطع المجتمع العراقي ان يبلور تنظيمات مؤسساتية (منظمات، تجمعات، اتحادات، روابط ثقافية صلبة) قادرة على تحجيم بواكير الدولة الكليانية يضاف الى ذلك ضعف القطاع الخاص العراقي وهشاشة الطبقة الاجتماعية الوسطى وعدم وضوح مشروعها الفكري او الطبقي والتي كان من الممكن ان تحول دون تضخم الدولة البعثية (كـ رأسمالي).
فقد تم التلاعب بمنظمات ومؤسسات المجتمع المدني وشلها بالقوانين والهيمنة عليها من قبل الجهاز الحزبي او الحاقها بايديولوجية الدولة او صناعة منظمات من قبل الدولة كوسيلة للتحكم في المجتمع عبر المنظمات الطلابية والشبابية والاتحادات في المدارس والجامعات والتي مثلت حجر الزاوية في اجهزة الدولة وتم السيطرة على وسائل الاعلام والدعاية والمجلات والصحف،
ان الدولة الفاشية لم توفر الشروط الاساسية لقيام دولة بالمعنى السياسي وانما كارتل تنكري من ادوات قمع وهيمنة واجهزة بوليسية وايديولوجية قومية وثقافات شعبوية.
بعد العام 2003 وانهيار الدولة التوتاليتارية حدث انفراج نسبي وتنازل الدولة عن ميادين محددة، ورغم اعتراف الدولة بالمجتمع المدني وايجاد بنية تشريعية له ولكن لم يعطى دور كامل كشريك سياسي وتم اختراق منظمات ومؤسسات واتحادات المجتمع المدني وافراغها من قدراتها في الدفاع عن مصالح الجماعات المرتبطة بها. حيث ان هذه المؤسسات ملوثة بالايديولوجيات القومية والطائفية والاثنية وتبعيتها الفكرية للتركيبات الاجتماعية وهو انعكاس للخطابات السياسية الذي يشكل الفضاء العام للمجتمع العراقي، فقد حددت طبيعة المجال السياسي ان الديمقراطية كمفهوم وآليات تعني تماثل الدولة مع اصالة المجتمع العراقي (المخترع سياسياً) من قبل هذه الجماعات وتم اعادة هيكلة المجتمع عبر آليات الهوية والاصالة والتفرد في المخيلة الايديولوجية والتمركز حول الذات.
لذا فان الخطاب السياسي لمؤسسات المجتمع المدني التي هيمنة على النسق المجتمعي العراقي بعد العام 2003 تكون من مزيج فسيفسائي انتاج مجتمع يعاني ازمة تكوين والتشظي الشديد والتمركز حول هويات ومرجعيات فكرية تتراوح بين التعايش والنزاع نتيجة للعنف المنظم الذي مارسته الدولة التوتاليتارية.
فقد خرج المجتمع المدني كما يقول الباحث فالح عبدالجبار فاقد للمؤسسات والروابط الحديثة، فاقد للثقافة الحضرية - العلمية منغمساً في شبكة الروابط القبلية والاسرية والدينية الاصولية مشبعاً بقيم العنف، وان المؤسسات التقليدية الان تقوم مقام مجتمع مدني مقيد.
فضلاً عن ذلك ان المجتمع المدني العراقي لم يستطع لحد الان انتاج واعادة انتاج الحقل السياسي ولا يمتلك مشتركات اجتماعية نتيجة تفكك الاطر الاجتماعية والانقسام والتشرذم وبروز البنى العصبية والاحتكام الى التوازنات القبلية وعدم الفصل بين المجال المدني والمجال السياسي وبقاء هيمنة النسق الريعي في العلاقة بين المجتمع/ الدولة. وضعف شروط الانتاج الاجتماعي.
وتعاني الجماعات العراقية من غموض مفهوم مؤسسات المجتمع المدني او وظائفه وادواره فضلاً عن قوة المجتمع الاهلي وكذلك انتشار ظاهرة الفساد المالي والاجتماعي وعدم اعتمادها على التنظمات القانونية والادارية ونقص المبادرات الذاتية وضعف الكوادر العاملة في هذا القطاع على المستوى الفكري والعلمي وهشاشة النزعات الفردية وسيادة اللاعقلانية في البنية المجتمعية العراقية.
المجتمع المدني كاشكالية فكرية
مفهوم المجتمع المدني في التراث السوسيولوجي الكلاسيكي للمجتمعات الغربية اخذ حيز كبير في السياقات الفكرية، فقد مثل عند توماس هوبس حضور كلي للمجتمع السياسي وغياب المجتمع المدني حيث تملئ الدولة الفضاء العام ولا تقوم على لاهوت كوني او حق الهي ولكنها تأخذ صفة مقدسة رغم انها من صنع البشر، في حين يرى روسو ان المجتمع المدني يتشكل في صور وتأطيرات اجتماعية اما جان لوك فانه يحدد ان الدولة الحديثة تستمد شرعيتها من المجتمع المدني في حين شكل المفهوم الهيغلي عنصر جذب للمنظرين المعاصرين ويرجع ذلك الى محاولته في تحديد وسطية مفهوم المجتمع المدني بالذات. اي تأسيسه على سلسلة من الوسائط بين الفرد والدولة من ناحية والى عدم التخلي عن البنى العضوية التي تؤدي الى عدم اغتراب الافراد عن الجماعة. بوصف المجتمع المدني الحيز الاجتماعي والاخلاقي وهذا يعني ان المجتمع المدني يتشكل بعد بناء الدولة وهذا ما يميز المجتمع الحديث عن المجتمعات الطبيعية، اما ماركس وفي سياق نقده المستديم للمثالية الهيغيلية وفي مختلف المستويات فقد نظر الى المجتمع المدني باعتباره الاساس الواقعي للدولة وقد شخصه في مجموعة العلاقات المادية للافراد وفي مرحلة محددة من مراحل تطور قوى الانتاج او القاعدة التي تحدد طبيعة البنى الفوقية بما فيها (نظم، حضارة، معتقدات) ويرى ماركس ان المجتمع المدني هو مجال الصراع الطبقي وهو يشكل البنية الاجتماعية قبل نشوء الدولة ويحدد المستوى السياسي او الدولة ويتطابق في الخطوط العريضة مع البنية التحتية وبشرط مستوين البنية الفوقية والايديولوجيا والمؤسسات السياسية.
وقد تطور مفهوم المجتمع المدني مع غرامشي الذي نظر اليه بوصفه جزءاً من البنية الفوقية والتي تنقسم الى مجتمع مدني ومجتمع سياسي وظيفة الاول الهيمنة عن طريق الثقافة والايديولوجيا ووظيفة الثاني السيطرة والاكراه.
الفرضية الاغرامشية تجاوزة تصورات هيغل وماركس عن المجتمع المدني بوصفه مجالاً للمنافسة الاقتصادية وبين انه مجال للتنافس الايديولوجي، ويتفق غرامشي مع ماركس بان المجتمع المدني (مسرح التاريخ) ومجال سياسي تكون فيه الايديولوجيات حقل تنافس تشد الجسد الاجتماعي وتلك هي المساحة التي تشغلها الانشطة والمبادرات الفردية والجماعية والتي تقع بين المؤسسات والاجهزة ذات الطبيعة الاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية واجهزة الدولة الرسمية ومؤسساتها وهذه الروابط هي مجال الممارسات السياسية وتشكيل الوعي الاجتماعي فالمجتمع المدني ومؤسساته يعتبر احد اهم الآليات المجتمعية التي من شأنها ان تخلق التوازن والاستقرار داخل المجتمعات المنقسمة وهو يشير الى مجال العمل الجماعي التطوعي الذي يقوم حول مصالح وغايات مشتركة وغالباً ما تكون المجتمعات المدنية مؤلفة من منظمات الجمعيات الخيرية والمنظمات الثقافية ومراكز الابحاث والدراسات غير الحكومية والمنظمات النسوية والروابط المهنية والمنظمات القائمة على اساس العقيدة وروابط العون الذاتي والحركات الاجتماعية وجماعات الدفاع عن الحقوق الفنية والفكرية.
ويحدد د. سعد الدين ابراهيم المجتمع المدني بوصفه مجموعة التنظيمات الحرة التي تملء المجال العام بين الاسرة والدولة لتحقق مصالح افرادها وتلتزم بقيم ومعايير التسامح والادارة السلمية والتنوع. وهي مجمل التنظمات والمؤسسات غير الارثية التي ترعى الفرد وتعظم من قدراته على المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية.
فالمجتمع المدني هو المجتمع المتحرر من السلطة الدينية والذي يتم فيه تنظيم الحياة الاجتماعية على اسس موضوعية، دنيوية عقلانية تتجسد في التشريعات والقوانين الوضعية والتي على اساسها يتم تنظيم علاقات الافراد وعلاقات الانتاج والتوزيع والتبادل والاتصال وهي نقيض طغيان العلاقات الرآسية السائدة في المجتمع الاهلي.
نصل الى نقطة مفصلية ان المجتمع المدني (روابط، مؤسسات
اتحادات ، جمعيات )
نظام معرفي سيوسولوجي يقوم اطاره النظري على مجموعة من التمايزات.
التشديد على الفصل بين الدولة والمجتمع اي بين مؤسسات الدولة والمؤسسات المجتمعية كشرط معطى تاريخياً او كوعي اجتماعي معطى او منظور تاريخياً.
وعي الفرق بين آليات عمل الدولة وآليات عمل الاقتصاد.
تميز الفرد/ المواطن/ ككيان حقوقي قائم بذاته في الدولة بغض النظر عن انتماءاته المختلفة (الدينية، القومية، الاثنية).
التشديد على الفرق بين آليات عمل المؤسسات الاجتماعية واهدافها ووظائفها من جهة وآليات عمل الاقتصاد ووظائفه.
رؤية الفرق بين التنظيمات المجتمعية المؤلفة نظرياً على الاقل من مواطنين احرار تجمعوا بشكل طوعي وبين البنى الجمعية العضوية التي يولد الانسان فيها.
في حين يطرح المفكر فالح عبدالجبار منظومة شمولية لتأطيرات المجتمع المدني تعتمد على أربعة اركان.
الاول: هو المجتمع التجاري الذي يستقل فيه الاقتصاد (انتاج الثروات عن الدولة بوصفها جهاز للحكم اي انفصال الاقتصاد عن السياسة. ادم سميث (ثروة الامم) هذا المجال الاجتماعي المستقل مجال للمصالح المتعارضة.
الثاني: المجتمع المدني يتمثل في المؤسسات الوسيطة التي تقف بين الفرد/ الدولة وتتولى سلطات محددة تؤدي الى نشر السلطة (لا مركزتها) والى حماية الفرد من جبروت الدولة المركزية مونتسكيو (روح الشرائع).
الثالث: المجتمع المدني يتمثل في الاتحادات الاجتماعية الطوعية غير القرابية وان نشوءها مرهون بوجود البنى المؤسساتية. هذه المؤسسات لا يمكن لها ان تقوم في فراغ ليكس دي توكفيل (الديمقراطية في اميركا).
الرابع: نشوء مجال عام لتداول المعلومات غير المحتكرة سلعياً لتسمع بنشر اراء متعددة وتدفقها ونشر الثقافة أدورنو هابرماس (المدرسة الالمانية).
تشكيل نظري
لاعادة بناء المجتمع المدني في العراق
( 1 )
المجتمع المدني اذن كيان اجتماعي تندرج داخلة التشكيلات الاقتصادية والسياسية من قبل الهيئات الثقافية والمهنية والروابط والمؤسسات فضلاً عن الهيئات السياسية الميتا-عصبوية على هذا الاساس فهو يضم اوسع شرائح المجتمع الفاعلة ويعطى اسبقية في النشأة وعلى حد تعبير ماركس هو مولد الدولة او المجتمع السياسي ومجال للممارسات السياسية وتشكيل الوعي والتنافس الايديولوجي.
بمعنى ان احد وظائفه تقوم على (ايجاد تسويات اجتماعية وسياسية تقود هذه الهوية الوظيفية الى اكتشاف نمط العلاقة القائمة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي) حيث انه يمثل ارادة المجتمع والتي هي محصلة قوانين سوسيولوجية تعتمل في رحم الروابط الاجتماعية.
لذا فان قيام مجتمع مدني في العراق كما يرى فالح عبد الجبار مرهون بمدى ارساء هياكل سلطة وطنية واعادة تأهيل مؤسسات المجتمع بأوجهها الاربعة، مؤسسة الملكية الخاصة المفصولة عن الدولة والمؤسسات الوسيطية والاتحادات الطوعية ومجال المعلومات العام المفتوح والثقافي. ولا يمكن تحقيق مثل هذا البناء من دون قاعدة اولية. تحويل انتاج الثروات الى مجال اجتماعي مستقل عن الدولة وبخاصة الثروات الريعية النفطية من قوة قمع دولتيه الى ثروة اجتماعية.
وتغير نمط الحقل السياسي وتجاوز العناصر الطوطمية في تاريخية الدولة العراقية. وامتلاك افقاً مستقبلي عبر تحديث المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية وتفكيك بنية الدولة البيطرياركية واعادة تكوين الطبقة الوسطى وبناء دولة القانون وفتح حوار عقلاني تنويري بين الجماعات العراقية لاستيعاب الاخر التعددي والديني والقومي والاثني والطائفي والخروج التام من دين التوتاليتارية.
( 2 )
تقوم مؤسسات المجتمع المدني اساساً داخل حقل سياسي تعددي مؤسساتي ودستوري ويتسم بالفصل والتمايز التام بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية وقيم سياسية تعتمد التداول السلمي للسلطة السياسية حيث ان استخدام هذا المفهوم بدون مراعاة البعد المعرفي الذي يرتقي به يجعل منه اداة تحليل سوف يسقط لا محال في تحويل المفهوم الى عقيد سياسية مغلقة او شعار ايديولوجي، بدلا من الاستفادة مما ينتجه المجتمع المدني من امكانيات للتحرر من مجالات الهيمنة والاقصاء. وعليه فان الغنى الذي يزخر به هذا المفهوم انما يتجلى على الخصوص في التعاطي معه كمفهوم مفتاحي دون اهمال ان لكل مجتمع بشري حيثيات تاريخية وقواعد ومنظومات سلوك وانساق معرفية (فهل يجوز وصف المجتمع المدني وروابطه بالوسائطية او العلائقية من دون تحليل الوظائف العميقة التي تخترق عبرها مؤسسات المجتمع المدني منظومات القيم وشبكات العلاقات).
وعلى ضوء هذه الاطروحات النظرية المفتاحية فان تأسيس واعادة بناء مؤسسات المجتمع المدني في العراق يتم عبر ثلاث انساق سياسية، مجتمعية، اقتصادية.
تفكيك سلطة الدولة البيطرياكية الريعية
نتيجة للاخفاق في تشكيل دولة منذ العام 1921 تعبر عن الارادة العامة وتنظم الحقوق والمشتركات بين الجماعات والافراد ادى هذا المسار التاريخي الى نمو البنى التسلطية وقد شهد المجتمع والدولة عمليات تفكك وازمات اندماج نتيجة عوامل متعددة (غياب المؤسسات الديمقراطية، العودة الى الهويات الفرعية، تآكل فكرة المواطنة).
هذه العوامل ولدت صدامات دورية داخل المكونات المجتمعية العراقية بشكل دوري. وقد استطاعت الدولة من خلال احتكارها المجال الاقتصادي ان تعيد انتاج التمايزات الطبقية والجنوسية عبر سياسات التوزيع. وشاعت الثقافات الشعبوية وتنظيم شؤون الافراد. هذا التراث السوسيولوجي يثقل كيان الدولة العراقية الان. مما يتطلب تثوير المجال السياسي وازمات الشرعية عبر بناء المؤسسات الديمقراطية والدستورية وفصل الدين عن الدولة وعدم احتكار المؤسسة السياسية الثروات لغرض الهيمنة والقيام بوظيفتها السياسية القانونية، واعادة تكوين دورة اقتصادية فاعلة لنمط الانتاج الاجتماعي لتجاوز البنى الايديولوجية الشمولية والذهنيات التسلطية للاحزاب والمنظمات والمؤسسات المهيمنة في الفضاء المجتمعي العراقي ما بعد 2003.
اشتغال المجتمع كحقل سياسي
لكون المجتمع هو (منتج الثروات) فهو يشكل الارادة المجتمعية العامة. حيث ان التنمية البشرية والتمدن واتساع شبكة التبادل وتراكم الثروات وبروز الثقافة الجماهيرية المنفصلة عن مؤسسات الدولة سوف يحفز الاشكال الثقافية والفكرية على نشوء المجال العام بوصفه ميدان اجتماعي لبلورة الافكار وتبادلها وبالتالي صياغة رأي عام حيث تساهم هذه العلاقات في الانفتاح بين المجموعات الاجتماعية والدينية. من خلال سلسلة من التأكيدات والاجراءات التي تمكن المجتمع (افراد/ جماعات) من التحول الى كائنات سياسية ليس بالمعنى الضيق المتداول في الحقل الثقافي العراقي لكون هذه الاطروحة ترى ان المجتمع يتمثل في الطبقات الاجتماعية والانتاج والمنافسات حيث ان اعطاء الحق للجماعات بتنظيم وجودها الموضوعي في كيانات قانونية يعزز الحريات (حرية التعبير) والممارسات السياسية والنقابية واطلاق ارادة الفرد بوصفه المرجعية الوحيدة في تدوير الانتاجات الثقافية.
الطبقة الاجتماعية الوسطى.. اعادة تكوين
تعيين حجم طبقة اجتماعية او مجموعات اجتماعية ودورها في الاقتصاد ثم الحقل السياسي داخل الفضاء المجتمعي مسألة ضرورية في الفكر الاجتماعي العراقي وبالذات الطبقة الوسطى ويرى الباحث عامر حسن فياض ان هذه الطبقة الاجتماعية قد نمت بشكل سريع خلال العقود الثلاثة الاولى من عمر الدولة العراقية وغزت اجهزة الدولة ولكن ظلت تعاني من الاقصاء في الهرم السياسي حتى نهاية العهد الملكي بعد عام 1958 استطاعت هذه الطبقة اختراق قمة الدولة على يد الفئات الوسطى العسكرية ونقلت المجتمع العراقي من حالة ركود وعزلة تاريخية وبنى متخلقة الى مجتمع يتأهب لدخول التاريخ الحديث، حيث قدرت نسبة الفئات الوسطى المدنية من اجمالي السكان عام 1958 بـ28% ثم تصاعدت عام 1968 نسبة 39% الى 48% عام 1987 وتتداخل هذه الطبقة الاجتماعية وتنشطر مكوناتها على اسس اثنية ودينية وطائفية تتقاطع مع التمايزات الاجتماعية.
تتكون هذه الطبقة الاجتماعية في العراق من المثقفين والمهنيين اطباء، محامين، مهندسين، وموظفين واصحاب المشروعات الفردية ورجال الاعمال، ونتيجة للمتغيرات الاقتصادية والسياسية والتضخم المالي بعد عام 1996 انهارت الطبقة الوسطى وذلك لمجموعة من الاسباب يختزلها الباحث فالح عبدالجبار.
- اندماج السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية بيد الدولة.
- التغيرات المجتمعية التي أدت الى اضعاف الطبقات العليا وبتلاعب الطبقات الوسطى في الدولة.
- نمو الدولة كاكبر رب عمل ويرافقه النمو الفائق لها كجهاز ضبط وسيطرة.
- بتلاعب منظمات المجتمع المدني بالتدريج وصعود الثقافات الشعبوية.
- البيئة الدولية الموأتية او الداعمة للنموذج الكلاني حيث ان اعادة تأهيل وتكوين هذه الطبقة الاجتماعية يمثل صمام امان لظهور قطاع مدني في المجتمع العراقي للضغط وايجاد المشتركات بين المجموعات البشرية وتجاوز التمايزات الفرعية وايجاد علاقات قائمة على التنافس والشرعية مع المجتمع السياسي وقائمة على المساءلة والمحاسبة.
المصادر
- عزمي بشارة، المجتمع المدني، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية 1998.
- فالح عبدالجبار، الديمقراطية الممكنة والديمقراطية المستحيلة. دار المدى، بيروت 1998.
- احمد شكر، مستقبل المجتمع المدني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2000.
- جان مارك بيوتي، فكر غرامشي السياسي ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، 1975.
- جاد الكريم الجياعي، المجتمع المدني، هيغل يؤسس لماركس مجلة اوراق الاروتية العدد السادس 1995.
- د. محمد الغيلاني انشود المجتمع المدني.
التعليقات (0)