الاحصاء والتحليل:
يعتبر علم الاحصاء احد فروع الرياضيات واقدمها تقريبا،وهو علم جمع البيانات وتبويبها وتحليلها بغية الاستفادة منها في شتى المجالات وفق طرق ومقاييس متعددة،ونظرا لاهميته البالغة لذلك لا يوجد علم لم يدخل الاحصاء فيه! بل اصبح من الدعائم الاساسية لكثير من العلوم وخاصة علم الاقتصاد،ولا يشذ علم السياسة عن البقية! بل ايضا استفاد من التطور الكبير الذي وصل اليه علم الاحصاء ومن النتائج الباهرة التي تحققت حتى اصبحت محور الدراسات والركن الاساسي فيها على الاطلاق!.
بدأت الاستفادة من الاحصاء منذ قيام اولى الحضارات في التاريخ من خلال عد كل الامكانيات المتاحة،ثم توسع الى قيام العديد من الدول في احصاء الامكانات البشرية والمادية لديها ولاغراض متعددة،اهمها احصاء عدد الرجال للحروب او لفرض الضرائب الى اخره من الاغراض المتعددة.
منذ عصر النهضة الاوروبية،وعلم الاحصاء تطور كثيرا حتى اصبحنا نرى الان في كل بلد جهاز مركزي للاحصاء نظرا للفوائد العظيمة التي نحصل عليها من خلال معرفة كافة البيانات بغية وضع الدراسات او اتخاذ القرارات التي تحدد مصير الامم والشعوب!.
والثورة المعلوماتية الحديثة استندت بالدرجة الاولى على الاحصائيات والتي توفر المعلومات التفصيلية عن كل مجالات المعرفة المتاحة حاليا،ولخطورة الاحصاء ونتائجه العملية وبخاصة تنمية الوعي الثقافي لدى الشعوب،فقد قامت العديد من الدول وبخاصة ذات الانظمة الشمولية بحجب غالبية المعلومات او على الاقل اخضاعها قبل النشر لاجهزتها الامنية والتي تقوم بعملية التحريف والتدليس بغية اعطاء صورة تتناسب مع التصور الحكومي للاوضاع المحلية والدولية! وبالرغم من ان الدول الغربية تسمح لغالبية الاحصاءات بالنشر الا ان الوصول الى مرحلة النشر المطلق اي دون ادنى تدخل لم تصل اليه الا في حالات نادرة لانه هنالك نسبة من الاحصائيات تتعلق بالامن القومي او بالسلم الاهلي وبالتالي سوف تحجب المعلومات عن النشر!... وكلما كانت نسبة الحجب منخفضة كلما كان مستوى الحريات والتحضر مرتفعا! اي هي علاقة عكسية مثيرة،ويمكن مشاهدة العديد من الدول المرعوبة من اطلاع شعوبها على الحقائق وكيف تمنع مواطنيها من القيام بشتى العمليات الاحصائية فضلا عن الحصول على المعلومات الناتجة منها والتي تؤثر في استقرارها واذكر كمثال على منع ابسط انواع الاحصائيات وهو الاحصاء السكاني في لبنان منذ عام 1932اي قبل استقلاله حتى لا يمكن معرفة الحجم الحقيقي للطوائف فيه مما يعني سحب كافة الامتيازات الممنوحة للبعض منها!...
وفي السياسة والاقتصاد،اصبح الاحصاء يشكل ركنا اساسيا في البحث والتحليل وبالتالي لا يكون البحث او التحليل او حتى اعطاء التوصيات،سليما بدون الاستناد على البيانات التي تساعد على التوضيح! واصبحت الاحصائيات الدالة على ارتفاع في الانتاج او الادخار هي معيار رئيسي للازدهار والتقدم الذي تسعى الامم لتحقيقه.
وفي التحليل السياسي،تظهر الاهمية القصوى للاحصاء حتى ان الجهل بالارقام الحقيقية او الاستهانة بها تشكل نقطة ضعف كبيرة لدى المحللين لان التقييم سوف يكون ضعيفا بدون وجود سند عليه،والسند هنا هي البيانات المبوبة والتي تعطي صورة واضحة للجميع عما يجري من احداث على سبيل المثال.
لكن يشترط بالاحصائيات والبيانات التي جرى تبويبها وتحليلها،ان تكون صادقة وبدون ادنى درجة من الشك فيها،لان اية نسبة خطأ معناه هو الوقوع في خطأ الدراسة والتحليل،وهذه الاخطاء مع الاسف منتشرة وتؤخذ عليها قرارات مصيرية تمس حياة امم وشعوب مختلفة،وهذا يعني ان نسبة عالية من الكوارث التي تحدث من اتخاذ القرارات الخاطئة هي نتيجة وجود البيانات الخاطئة بصورة جزئية او كلية!...أذن اهمية الاحصاء وصدقية النتائج الصادرة عنه هي من الاهمية القصوى في تطوير العلوم المختلفة والتي تؤثر بدرجة عالية في نمو الحضارات وتطورها...
لا نتناول هنا اثر الاحصاء في العلوم الاخرى،ولكن بينا اهميته في العرض السابق بصورة عامة وفي السياسة والتحليلات الخاصة بها فأننا سوف نعرضها لاحقا كسياق الحديث عن البنية التحليلية في السياسة!...
توفر الاحصائيات الصحيحة هو الشرط الرئيسي في قبولها،ولكن ماالعمل اذا لا تتوفر درجة عالية من الصدقية حولها؟!...
الجواب:هو يكون في الاستفادة من المتاح! اما كيف؟!...
في الحقيقة يوجد في العالم عدد كبير من الاجهزة الاحصائية وبعضها يتبع المؤسسات الدولية ووسائل الاعلام المختلفة،وهذا الكم الهائل يختلف فيما بينه وتلك نعمة كبرى
! لانه في حالة الاتفاق فيما بينها فأن حجب المعلومات الهامة سوف يسود وبالتالي فأن الحرمان والتشويه والتضليل سوف ينتشر على نطاق واسع واكيد الضرر سوف يكون عالميا!! ولكن شيوع الاختلاف والتنازع بين البشر يؤدي الى وجود حروبا باردة تنشأ من خلال نشر الحقائق والبيانات التي تفضح الخصوم او تضعف موقفهم.
من هنا تنبع فائدة الحصول على المعلومات من مصادر مختلفة مع مراعاة ان تلك المصادر ايضا قد تبالغ فيما تطرح من بيانات وبالتالي يكون امامنا عدة طرق للتمحيص وغربلة النتائج بغية الحصول على انقى النتائج من خلال المقارنة بين كافة المعلومات الصادرة وابعاد الشاذ منها،وكذلك اخضاع البيانات الصادرة للعقل والمنطق من خلال رفض ما يكون مبالغا فيه بالحدس او التوقع او حتى من نتائج سابقة،وكذلك دراسة تاريخ صاحب البيانات واخضاعه لمنهج الجرح والتعديل الذي هو مقياس صارم للتمييز بين الكذابين والوضاعين وبين الصادقين...
من هنا يتبين لنا ان الاستفادة من الموجود هو السبيل الوحيد الذي يكسر حاجز الحجب الاعلامي،وكما هو معلوم ان مجال الاستفادة اصبح واسعا الى ابعد مدى من ظهور الثورة المعلوماتية الحديثة منذ انتهاء الحرب الباردة عام 1990 والتي يسرت للجميع الحصول على المعلومات بأيسر النفقات ان لم تكون مجانا!.
في حالة توفر المعلومات والبيانات الاحصائية فأنه من الخطأ الفادح تركها دون قرائتها لانه يستحيل التحليل السياسي كنموذج للتحليل بصورة عامة بدون الاطلاع على البيانات ويجب ان يكون فحص البيانات دقيقا لانه عن طريقها سوف يأخذ العقل في تجميع المعلومات من البيانات الواردة اليه وسوف تنشأ عملية من المزج بينها وبين الموجود من المعلومات بحيث تكون الاستنتاجات هي خلاصة الفائدة من البيانات الواردة،وعموما فأن قراءة البيانات ودراستها وفق القواعد والاسس المعرفية ذات العلاقة سوف يؤدي الى ظهور حقائق كاملة امام الاحداث المراد تحليلها وسوف تنشأ قوة هائلة من الحجج والبراهين لدى صاحب التحليل بالمقارنة مع من يقوم بنفس العملية وفق ما يلائم طبيعته او المنهج الذي يعتنقه!...
احيانا يرفض العديد الاخذ بالبيانات الاحصائية الصائبة لانها سوف تضعف موقفه او النتائج التحليلية الصادرة منه وفق المنهج المعرفي الوراثي! مما يعني انه علينا ابعاد هؤلاء من الساحة او على الاقل تحجيمهم الى حجمهم الطبيعي او اهمالهم! لان الخزعبلات الناتجة من تفكيرهم هي ضعيفة الى درجة مروعة بحيث لا يقبل بها عقل او منطق الا في حالة الجهلاء المتخلفون الذي يتبعون كل ناعق! بينما يفرض الواقع العلمي والحضاري ان يكون الاخذ بالمناهج العلمية وسيلة في التحليل السياسي بل واجبا علميا واخلاقيا وبالتالي من يتبع تلك القواعد السليمة ويلتزم بها.
للبيانات والتحليلات الخاصة بها سحر لا يقاوم ابدا ! لانه من خلال قراءة الارقام والبيانات بصورة دقيقة سوف تنشأ لدى القارئ افكار جديدة يقيس من خلالها الاوضاع الراهنة وعلى ضوئها يتبين له الطريق الصحيح في السلوك والمنهج...
فعلى كل فرد ان يستفاد من المنهج الجماعي الذي تتبعه المراكز البحثية والتي تدرس كافة الاوضاع من خلال البيانات المتاحة لها ثم تقوم بدراستها بصورة مفصلة حتى تقوم بأعطاء الافكار والتوصيات الى اصحاب القرار والذين يتبعونها ايضا مستندين على خبرة وصدقية تلك المراكز مما يعني ان على الفرد ان يكون نموذجا مصغرا لتلك المراكز من خلال قراءة البيانات والتي هي بمثابة سراج ينير طريق الباحثين وطلاب الحقيقة!.
من الامثلة الكثيرة على الاستفادة من البيانات الاحصائية في التحليل السياسي،هو الاستفادة من حجم المسروقات الظاهرة والباطنة من المال العام من قبيل وضع الاحصائيات حول حجم المشاريع الحقيقية بالمقارنة مع الحجم الممنوح او معرفة حجم الواردات المالية بالمقارنة مع حجم الاحتياطي النقدي او حجم الديون الخ ...وهذا يعني تجريم السلطات الحاكمة واعطاء صورة جديدة وناصعة البياض حول الوضع القائم مما يعني كسر كل الحواجز التي تضعها السلطة وعملائها وتبيان الحقائق للجميع...
من الامثلة الاخرى،هو معرفة حجم الخسائر البشرية والمادية اثناء الحروب، مما يعني ان معرفة من هو المنتصر ومن هو المهزوم هي سهلة ويسيرة ولا يمكن التغافل عنها ولذلك نرى غالبية الانظمة الاستبدادية الفاسدة تمتنع عن نشر الارقام الحقيقية لضحاياها من قبيل نظامي ستالين في روسيا وصدام في العراق!...ويمكن ملاحظة الكثير من النزاعات في العصر الحديث ومنها في العالم العربي من خلال رؤية وقاحة الكثير من المسؤولين عندما تشن حربا على بلادهم من خلال الادعاء بأنهم المنتصرون! بينما الحقيقة التي لا تقبل النقاش حولها هي الهزيمة والتي تظهر لدينا من خلال احصائيات الحروب المختلفة والتي تبين حجم الخسائر المرعبة الناتجة منها...
من الاحصائيات الهامة هي بيانات انتاج النفط وبقية مصادر الطاقة،فعلى ضوئها يتم الاستعانة بالتحليل العلمي المجرد للوصول الى معرفة امكانيات كل دولة على حدة وبالتالي تقييم سياساتها المختلفة ومنها اموال الميزانية العامة والاحتياطي بالاضافة الى معرفة القدرة الحقيقية التي تستطيع مجابهة خصومها...
التحليلات السياسية التي تعارض حكوماتها يجب ان تكون في سلم الاولوية اذا اشارت للاحصائيات المتوفرة لديها والتي تساند آرائها بينما تكون آراء الحكومات في حالة الدفاع لانها هي التي تبرر اعمالها وليس العكس!،ويمكن على سبيل المثال وضع الكثير من التحليلات التي تؤشر على مدى فداحة الانفاق الامني والعسكري في العالم العربي والذي هو غير مبرر اطلاقا كونها لا تحارب به بل هي خاضعة للحماية الغربية! اذا ما الداعي له؟!...هذه النتائج المذهلة هي نتيجة لاستخدام البيانات المتوفرة والتي تعطي لنا صورة اكثر واقعية للاوضاع الراهنة وبالتالي سوف يكون التحليل في قمة الجودة والدقة بدلا من الادعاء الفارغ بدون براهين احصائية او منطقية تثبت العكس!...
التعليقات (0)