اسس البنية التحليلية:السياسة نموذجا - الحلقة الخامسة
العلوم الانسانية والتحليل:
تبين لنا اهمية الاحصاء في التحليل بصورة عامة والتحليل السياسي بصورة خاصة...ولكن توجد ايضا للعلوم الانسانية الاخرى اهمية بالغة في التحليل وتساعد على طرحه احيانا بدون ادنى تفكير بطريقة استرجاع المعلومات من الذاكرة التي تكون بمثابة الخزان الاحتياطي للعقل الذي يجادل او يحلل،وكلما كان حجم الاحتياطي المعرفي ضخما كلما كان التحليل اكثر سهولة وبطرق متعددة يصعب على الانسان العادي المجرد من تلك الكنوز المعرفية ان يقوم بنفس العملية والتي قد تأخذ منه وقتا طويلا مع نسبة عالية من الخطأ بينما في الوضع الاول تأخذ وقتا اقل بالتأكيد مع نسبة دقة اعلى من غيرها!...
الاحتياطي المعرفي يساعد كثيرا على الابتكار في التحليل من عدة نواح،منها انه يستطيع المحلل ان يقوم بتحليل الموضوع او الحدث الذي يقع امامه بعدة اتجاهات قد تكون متعارضة احيانا!... بمعنى آخر انه يستطيع ان يبسط التحليل بعدة طرق وبعدة وجهات نظر قد يكون بعضها متعارضا! وهذا ناتج من الاستخدام المنطقي للمعلومات المتراكمة والتي مصدرها علوم مختلفة من وجهات نظر متعددة لها براهينها واسسها الاستدلالية المتعددة،وللتبسيط اكثر نقول انه يمكن رؤية اصحاب المدارس المذهبية والفكرية المختلفة وكل واحد يحمل في جعبته عدد كبير من الحجج المنطقية والعقلية وبعضها مستمد من مصادر التشريع كما في حالة المذاهب الاسلامية وعندما يطلع عليها الفرد الغير متخصص تظهر له قوتها البنيوية وعندما يذهب للاطلاع على المدارس الاخرى يحصل له نفس الشيء ولكن الكارثة الحقيقية عندما يتعصب لمدرسة بدون الاطلاع على المدارس الاخرى!...ولكن السؤال الجديد الذي يطرح نفسه من خلال السياق السابق هو اذا كان لكل مدرسة قوة البنية الفكرية التابعة لها اذا سوف يقف كل فرد امام موروثاته المختلفة ولا يتقدم او يتغير،بل سوف يكون التعصب اختيار وهوية له؟!...
للجواب على هذا الاشكال:يمكن القول ان البنية الفكرية لكل مدرسة هي تختلف عن الاخرى،والاختلاف يصل الى درجة عالية حتى في قوة البراهين والادلة والنتائج مما يعني ان الاختيار سوف يكون للاقوى في كل شيء(وطبعا لا نعني بذلك القوة المادية لانها ليست بذات قيمة في تلك الظروف!) وسوف يكون بعيدا عن الشبهة او الضعف ويكون اقرب للحق والعدل،لانه هنالك الكثير من الاستدلالات الفكرية التي توصل الى الخطأ وبالتالي يكون تجنب الخطأ هو البحث المتواصل والموضوعي للمقتدر الفكري فقط وليس اي فرد!...
هذا القول ينطبق ايضا على التحليل بمختلف انواعه،مما يعني ان صاحب المقدرة المعرفية الكبيرة وبالرغم من انه يستطيع ان يقوم بالتحليل من عدة جوانب واتجاهات الا انه سوف يعرف اذا كان عادلا مع نفسه ومع الاخرين، اي من التحاليل لديه اكثر دقة وموضوعية وقوة في الحجة والمنطق،ولذلك نرى هنالك عدد كبير من المثقفين وبخاصة الكتاب والصحفيين والادباء والشعراء بل وحتى بعض رجال الدين الذي يخالفون ضمائرهم في المبدأ من خلال اتباع شهواتهم والرغبة في الشهرة والمنصب والمال! لانهم يعرفون طرق متعددة للتحليل،والاختيار هنا يكون تابع للمبادئ الانتهازية السابقة مع علمهم اليقيني بأن ذلك خطأ وان الصدق والحقيقة في الاتجاهات المعاكسة ولكن للانتهازية والخوف سطوة كبيرة على النفوس لا يستطيع مجاهدتها الا صاحب ارادة قوية!.
ولكن حيازة العلوم الانسانية بكافة تفاصيلها صعب جدا الا لاصحاب القدرات الخارقة والنادرة وبذلك سوف يكون الخيار مطروحا من ناحيتين:الاول هو الاطلاع العمومي الشامل،والاخر التركيز على العلوم ذات العلاقة،بمعنى انه في حالة التحليل السياسي،فأن للتاريخ والاقتصاد اهمية تتجاوز كثيرا اهمية علم النفس مثلا رغم اهمية الاخير وبذلك يكون امامنا تسلسل في الاهمية لبعض العلوم الانسانية بالنسبة للتحليل السياسي...
من هذا المنطلق يمكن القول بأن للتاريخ والجغرافية والاقتصاد والاجتماع اهمية عالية في فهم عدد كبير من الظواهر السياسية وتبسيطها بغية تحليلها الى اصولها المتعارف عليها،وبالتالي فأن اي ظاهرة سياسية مثل الحروب والنزاعات يجب ان تدرس بعناية من كافة جوانبها ولا ينبغي تناولها من زاوية واحدة لانه التحليل وبنيته الاستدلالية سوف تكون هزيلة امام الخصوم او الرأي الاخر وهذا شائع في العالم العربي والذي يتناول عدد كبير من المسائل دون فهم لواقع المشكلة او حتى دراسة جوانبها من خلال التاريخ والجغرافية او الاجتماع على سبيل المثال مما يعني حصول حالة من الضياع بين قوة احد الاراء وضعف عدد آخر...وللتبسيط اكثر وكمثال على حالة التغيير التي حدثت في العراق بعد عام 2003 فأن عدد كبير من المحللين سواء من طبقة المثقفين او الناس العاديين،يحللون ذلك التغيير وفق ظروف بلدانهم وطبيعة تفكيرهم وقيمهم الاجتماعية المتوارثة مع الخضوع للدعاية الحكومية لكل بلد على حدة والتي تتعارض بطبيعة الحال مع الواقع!! دون ان تراعى الظروف الموضوعية التي يتصف بها العراق من كافة النواحي التاريخية والجغرافية والاجتماعية والدينية والمذهبية الخ من الاختلافات عن البلدان المجاورة...وهذا يسبب للطرفين حالة من القطيعة والخصومة! لان مجالات فهم الاخر مختلفة،ولكن لحل تلك الاشكالية في هذا المثال على الاقل يكون في فهم وضع الطرف المعني لا فهم الطرف الاخر المشاهد لان الطرف الاول هو الطرف الذي يتفاعل ويعاني نتيجة للوضع الاستثنائي الذي يعيشه وبالتالي فأن مراعاته ينبغي ان تكون من قبل الاخر...وهذا المثال ينطبق ايضا في حالة البلدان الاخرى من قبيل فلسطين ومشكلتها(المثير للدهشة ان نجد احيانا عدد من المحللين والكتاب وخاصة من الخليج وهم ينظرون فكريا ومنهجيا للفلسطينيون وكأنهم بلا تفكير! من خلال وضعهم المحلي او يسخرون منهم من خلال نظرة استعلائية لا مبرر لها وكأنهم يتجاهلون انه لولا البترول المخزون في الارض والذي تفتقده فلسطين لما تنعموا بالحماية الغربية التي تفتقدها فلسطين!) او حتى لبنان والمشاكل العديدة التي يواجهها...
المعرفة التاريخية هي مهمة جدا وخاصة من مصادرها المعتبرة والتي تكون من مصادر متعددة،لان المعرفة من خلال رؤية واحدة يؤثر في دراسة الحدث ويجعل النتيجة بائسة!...ويمكن مراجعة الموسوعات التاريخية والتي تمتاز بحياديتها وتناولها للتفاصيل بطريقة سهلة،لانها الاكثر شمولية بالنسبة للقراءة السياسية مع الكتب المحققة بدقة...
الجغرافية وبخاصة السياسية والاقتصادية لها اهميتها القصوى في التحليل السياسي لانه من خلالها يمكن القراءة والتحليل بسهولة لان الغالبية العظمى من الاحداث السياسية تكاد تكون العوامل التاريخية والجغرافية والاقتصادية سببا رئيسيا في حدوثها،ومن الخطأ الشائع جعل المشكلة ضمن نطاق واحد ولكن الافضل هو اشراك مختلف العلوم في التحليل بغية منحه قوة استدلالية عالية تتناول الحدث واهميته البالغة...
لعلمي الاجتماع والنفس اهمية بالغة في التحليل لكون الظواهر الاجتماعية ومعرفة السلوك الانساني ذات علاقة مباشرة مع الاحداث الجارية لان التداخل المشترك يصل الى مستويات عالية لا يجدر بالمحلل الموضوعي تجاهلها ولذلك فأن معرفة اساسيات هذين العلمين هي بالغة الخطورة والاهمية وتساعد الى ابعد حد خاصة في معرفة طبيعة اسباب السلوك الشخصي لصناع الحدث والمؤثرات الناشئة منه وهنا تكمن اهمية معرفة علم النفس واساسياته المثيرة!...
معرفة علم الاقتصاد واساسياته له اهمية خاصة في ظل وجود بعض المدارس الفكرية التي تفسر الاحداث التاريخية وفق النظرة المادية البحتة مثل المدرسة الماركسية مما يعني ان اهمية الاقتصاد كعامل محرك للاحداث هو مهم جدا ولكن ليس المحرك الوحيد او الاول دائما بل هنالك ظواهر متعددة ليست للعامل الاقتصادي الا نسبة مشاركة بسيطة فيه مما يعني ان جعله العامل الوحيد والتعصب له هو خطأ كبيرا وقع فيه عدد كبير من البشر دون ان يدركوا اهمية العوامل الاخرى وتأثيراتها المباشرة...
العلوم الانسانية الاخرى مثل الادب وفروعه وعلوم الاديان والمذاهب والفرق وغيرها لها اهميتها البالغة والتي تؤثر كثيرا في معرفة علل الاحداث والنتائج الصادرة عنها مع التوقعات والتوصيات التي تجنب الوقوع في نفس الخطأ!...وللادباء والشعراء على سبيل المثال نظرتهم للاحداث والتي تختلف عن البقية!...
اما من ناحية قراءة الاحداث وفق تصورات وتحليلات الاخرين،فأنه من الضروري الاستفادة منها ولكن ليس جعلها مقياسا عاما! فقد يقع الشخص في خطأ ما لانه استحالة ان يكون الصواب في جانبه،مما يعني انه يمكن رفض التحليل اذا خالف المنطق المعقول والذي يكون الحكم هنا.
الافضل هو قراءة الخبر بدون هوامش توضيحية بالنسبة للمحترفين لكونهم قادرين على التحليل والتمييز ولكن بالنسبة للمبتدأين فالوضع يختلف وهو ضرورة التدرج ولكن ليس الاخذ بالاضافات التي تضاف للخبر،لانه غالبا ما تكون غير مطابقة لمتن الخبر وانما تطابق الفكر المؤدلج!...
التعرف على وجهات نظر الاجانب مهمة وهي تشكل مصدرا مهما للتعرف على آراء الاخرين التي تكون خالية من التاثيرات المحلية ولكنها ايضا تكون خاضعة للتأثيرات الخارجية والتي قد تكون في غاية الاهمية كما لاحظنا في التحليل للاحداث السياسية والتاريخية من قبل الغربيين وخاصة المستقلين منهم..
اذا التحليل سوف يكون علما وفنا له اصوله ومناهجه واستدلالاته المتعددة بل وحتى ذوق،له طعمه الخاص ولكن ذلك لا يكون عبثيا او في متناول الجميع بل هو مع الساعي المجد الباذل في سبيله كل قدراته لكي يحصل على حاجاته!...
التعليقات (0)