تساؤلات مشروعة
ما الذي يجرى في مجتمعاتنا اليوم؟ من الذي يقوم بتدمير مجتمعاتنا اليوم؟ من الذي يمعن بزرع الخلافات والأحقاد في مجتمعاتنا اليوم؟ من الذي ملك زمام الأمور فيها اليوم، وقد استسلمت له عن طيب خاطر؟ من يتولى مهمة العبث وبث روح الانقسام والتمرد في مجتمعاتنا اليوم؟ أين النخب المثقفة والعاقلة اليوم؟ أين الأقلام الناقدة؟ أين العيون الراصدة؟ من يمثل روح العصر في مجتمعاتنا اليوم؟ أين هي حكوماتنا من كل ما يحدث من ظواهر مخيفة ومثيرة للاشمئزاز اليوم؟
بماذا ينشغل الساسة ورجال الفكر والإعلام اليوم.. وهم يدركون خطورة ما يحدث من قبل أناس لا صلة لهم أبدا بحياة هذا العصر ولا بطبيعة مشكلاته، ولا بعلومه أو ثقافاته؟ ماذا أصاب الجيل الجديد، وقد انساق في غفلة من الزمن نحو الوراء، كي يغدو جزءا من ظاهرة عقيمة يمثلها أناس تعتبرهم كل من الدولة والمجتمع معا من أصحاب القداسة، بل ويتنطع آخرون منهم ليتسموا بالمطهرين أو المتطهرين؟ ما سر هذه الموجات الصاعقة، التي تتكلم باسم الدين، وتقودها حركات وأحزاب وسلطات ودول وجماعات، وهى تعتبر نفسها فوق الآخرين.. فوق الدولة وفوق المجتمع، وأنها قادرة على تحريك الأمور بالاتجاه الذي رسمته هي دون غيرها؟ ما أكثر الاتجاهات والتيارات والحركات والأحزاب والجماعات التي لبست لبوس الدين للمتاجرة باسمه، وهى تتناحر دينيا ومذهبيا ضمن سياقات سياسية وإعلامية، لتزيد من تفسخ المجتمع وانشطاراته العديدة؟ كم يضيع زمننا، وكم يضيع تفكيرنا، وكم تضيع حياتنا، وكم تضيع إبداعاتنا فى ميادين علومنا وآدابنا وفنوننا.. بسبب الاستماع إلى تفاهات هؤلاء الذين غزوا حياتنا كالجراد، وأحالوا عصرنا إلى مجرد شرنقة يابسة مقفلة، تسجن في دواخلها مجتمعات كاملة.. وتتبدد في دهاليزها طاقات شباب، وتموت في خنادقها كل الكفاءات؟؟
الإسلام ليس مادة دسمة للاستلاب !
إن من يراقب بضع فضائيات تليفزيونية، أو ما ينشر على اليوتيوب، أو ما ينقل عبر الإنترنت أو من البريد الإلكتروني وكل الوسائل الإعلامية الحديثة.. ويتأمل الذي يشاهده ويسمعه مما يصدر عن مشايخ ورجال دين وملالى ودعاة جدد.. أباحوا لأنفسهم إصدار الفتاوى والتشريعات، وإلقاء الخطب المنبرية والمواعظ على الناس، واستغلال الزمن لشرح تفاصيل خاصة وتداول قصص لا أساس لها من الصحة، وإلقاء تهم ضد مخالفيهم، وتكفير أناس لا يستمعون إليهم ويسفهونهم، ناهيكم عما نشهده من إثارتهم لصراعات بين المذاهب، وسخرية هذا من ذاك. والترويج لطائفة ضد أخرى.. والإتيان بأمور غير معقولة لا يمكن للمرء أن يصدقها أبدا.. بل ويزداد التنافس في إصدار الفتاوى، وتكاد تشكل هذه «الظاهرة» حربا إعلامية وسياسية بين أكثر من معسكر في مجتمعاتنا ودولنا، وكأن الإسلام مادة دسمة للاستلاب المذهبي والطائفي والسياسي في حياتنا، فهذا يسحبه يمينا، والآخر يطلقه شمالا، لقد بدت الاختلافات علنية بين فرقاء سنة وشيعة وطوائف أخرى، وتغذيها كلها، جهات رسمية متعددة من هذا الطرف أو ذاك، وتبدو الصورة مزدحمة بالتناقضات، إذ نجد كل طرف من الأطراف يستخدم التهكم والسخرية والحط من شأن الآخر بطريقة مفضوحة أمام الناس.. كي ينتقل الانقسام بالضرورة إلى المجتمع، فيتنازع هو الآخر، ويمتلئ بالألغام التي يمكن تفجيرها سياسيا أو اجتماعيا في أي وقت من الأوقات!
الانقسامات خلقت كل التناقضات
لم تكن حياة مجتمعاتنا طوال تاريخ مضى تعج بمثل هذه التناقضات، ولم تعش حالات الصراع بين الدين والدنيا! ولم يشغل الناس تفكيرهم بجداليات وهموم بفتاوى هذا أو ذاك! إن كان هناك مفتى ديار، أو مرجع أعلى، أو شيخ طريقة.. فهم يجلسون في أماكنهم ويقصدهم من يريد كي يسألوهم عن أمورهم الخاصة، وإن إصدار أي فتوى ما كان بهذا الابتذال وعلى يد هذا وذاك.. إننا اليوم في عصر غزا المشايخ والدعاة الجدد كل مرافق الحياة، وهم بعيدون جدا عن معالجة المشكلات المعاصرة، ولم يكتفوا بأن يقصدهم الناس، بل راحوا يتدخلون في كل شأن من شئون المجتمع، ويفرضون سطوتهم ويوزعون أحكامهم الشخصية ويتشدقون حسب أمزجتهم، وكل يفسر النصوص على هواه.. إنهم يتحدثون باسم الحدود الشرعية وباسم الذي يجوز وما لا يجوز، وباسم الحلال والحرام.. ولكنهم لم يستطيعوا ضبط هذه الحياة التي جعلوها جحيما للناس الذين أضاعوا الطريقين، فلا هم بمنتمين إلى عصرهم، ولا هم بمنتمين إلى الماضي السحيق!
السياسة والإعلام وراء كل الصراعات
إن الفتوى أو الفتيا تعرف بأنها: إخبار بحكم شرعي في أمور الدين والدنيا، وهى غالبا ما تكون إجابة لسؤال معين، والفتاوى نوعان، نوع ما يتعلق بالعبادات والأمور العقدية والفروض والطاعات.. وهى تثير مشكلات شخصية واجتماعية، ليس بسبب خلافات المذاهب واختلافاتها حول ذلك فقط، بل بسبب غرابة الاجتهادات من رجل دين إلى آخر في صلب ما يمكن تفسيره! نوع آخر من اجتهادات في أمور العصر الخلافية، سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية.. وكلها تثير جملة هائلة من المشكلات المعاصرة، وإثارة الصخب، وعصف المواقف، والتدخل حتى غرف نوم الإنسان، إن أحدهم بقى يهذى تليفزيونيا لأكثر من ساعة عن اللحية فقط إن ما يثيره المشايخ والدعاة على شاشات التليفزيون فيها من المضحكات المبكيات، إذ أصبحوا نجوم فضائيات، ومواقع إلكترونية وما ينقل مصورا من داخل الجوامع والحسينيات إلى المجتمع علنا.. إن ذلك يثير مشكلات وتساؤلات لا حصر لها عن دور هؤلاء في تشويه الإسلام وجعله مادة خصبة للأحقاد والكراهية، بل وأصبح هؤلاء سببا أساسيا وراء انقسامات مجتمعاتنا، والفتك بها علنا، فالفتاوى الشرعية لم تبق إسلامية، بل تعدتها لتكون سنية وشيعية وردودا لا أول لها ولا آخر، وأن هذا يسخر من ذاك وأن ذاك يستهزئ بهذا علنا..
رجال تابو .. لا قدسية لهم !
لقد أمست الجوامع والحسينيات ودور العبادة أماكن تنجذب إليها الآلاف المؤلفة من الشباب، لتقضى الساعات الطوال وهى تستمع وتصغي إلى أمور أقل ما يقال عنها إنها بليدة ومضحكة تصدر عن مشائخ، تتزايد كل يوم سلطاتهم، ويتفاقم نفوذهم.. ولم يعد المجتمع ينساق لهم غصبا عنه فقط، بل أصبحت أغلب أنظمة الحكم، تستجيب لهم، وتمنحهم أكثر مما يستحقون، بل وتخشى من سطوتهم وقوتهم! كما أن الإعلام قد منحهم الأدوار التي لا يحلمون بها أبدا، إذ يعتبرهم مصدر قداسة أمام الملايين، وهم ليسوا إلا رجال تابو، لهم مصالحهم الخاصة، ولهم أجندتهم السياسية، وأساليبهم الماكرة وما هم إلا كأي أفراد آخرين في المجتمع، وإذا كانوا قد منحوا إجازات دينية في الأحكام الشرعية والفقهية، فإن المشكلة لا تكمن في الشباب منهم، بقدر ما تعود إلى أولئك الكبار ممن يسمون بالعلماء والمراجع الكبار الذين قدموا لهؤلاء صكوك غفران يسيطرون فيها على إرادة مجتمعاتنا، ويقفلون الأبواب على الحريات، ويقفون سدودا منيعة أمام عوامل التطور، بل أنهم قد غدوا مادة للانقسامات والضياع.
مصدر الفرقة وسلطة التخلف
لقد كان الفقه الإسلامي وأصوله على مر التاريخ الإسلامي، أكبر مصدرين للحيوية والنظام ومرجعين لحل المشكلات على أيدي الكبار.. ولكنهما اليوم من مصادر خراب حياتنا وتهديد مستقبل أولادنا وأحفادنا، ومن عوامل ضياع الأمن والاستقرار في بلداننا.. إنني أتوجه إلى حكوماتنا كافة، وفى مقدمتها الحكومات التي تدعى أنها «إسلامية» بأن تحد من أنشطة هؤلاء الذين غزوا معاصرتنا، وأصبحوا مصدرا للفرقة، وتأجيج الصراعات، والطائفية، وزرع الكراهية والأحقاد، وتشويه الدين وسماحته، كما يستلزم إيقاف العمل بما يصدره هؤلاء من فتاوى مدمرة، وخصوصا ما يتعلق بمشروعات القتل والانتحار وتدمير الذات.. ناهيكم عن الحدّ من ثقافتهم الساذجة والتحريضية والإرهابية ضد المثقفين المتمدنين، وإيقاف دورهم فيما يذيعونه من الأحكام القطعية على الملأ.. ومطلوب من أجهزة الإعلام ومؤسساته جميعاً أن تفتح الأبواب لكل من يخالف هؤلاء كي يجادلهم ويحاورهم علميا وفكريا وأخلاقيا، وبكل حرية كي يعرفوا حجمهم الطبيعي في الحياة! ولكي يدرك الجميع بألا قداسة لهؤلاء حتى يكونوا قدوة للمجتمع، وأنهم أبعد ما يكونون عن الدين والدنيا معا! إن هؤلاء ما كانوا ليكونوا بمثل هذا التسلط، لو لم تمنحهم السلطات الرسمية ما لا يستحقونه أصلا، وأيضاً وجدوا في الأحزاب الدينية والجماعات الدينية ملاذا يتحركون من خلال خلاياها ونسيجها سياسيا على أرض الواقع.. كي تجد مجتمعاتنا نفسها مكبلة من قبل هؤلاء، وقد أصبحت مقتنعة بسوق الفتاوى، فهو الأسهل الذي يرضى قناعات الناس الذين خيبت ظنونهم الحكومات والسياسات الفوضوية.. إن مجتمعاتنا اختارت الهروب إلى المشايخ الذين يلعبون بالعواطف أكثر من توظيف العقل، وأنهم يختزلون كل شيء بالكلام لا العمل، وبالأخيلة لا الواقع.. وأنهم لا يتحدثون من جيوبهم، بل يتكلمون باسم النص دوما، ولا يواجهون الآخرين بالفكرة بل بالقيل والقال.
الدعاة الجدد .. من يكشف زيفهم ؟
ربما يقال أن الانفلات اليوم مصدره ثورة المعلومات الجديدة ووسائل الاتصالات الحديثة، بحيث إن ثمة منافسة محمومة بين الفضائيات لترويج فتاوى وإثارة دعاوى.. فضلا عن انتشار مواقع إلكترونية يروج من خلالها هؤلاء بضاعتهم «المقدسة»! ناهيكم عن ازدياد هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالدعاة والدعاة الجدد «بأزيائهم المدنية» وإقامة تجمعات من قبلهم للشباب ونقلها إعلامياً.. وكلها حفلات تدغدغ العواطف، وتسبح في الخيال، وتثير المخاوف، وتقتل الزمن، وتتلاعب بالأفكار، وتتصدى لمشروعات الحياة المدنية، وتحض على الغلو والكراهية، وتحتكر الدين باسمها جاعلة كل من يعارضها كافرا وزنديقا وتتشدق بأن مثواه جهنم وبئس المصير.
وأخيراً أقول..لابد من وضع حد لهؤلاء بتشريع قوانين وتعليمات تحد من نفوذهم وشططهم وغلوهم.. وتأسيس ضوابط حقيقية لإصدار الفتاوى وإبعادها عن السياسة والإعلام، كما يتطلب الأمر، الحد من هؤلاء الدعاة الجدد الذين يضحكون على الناس، والشباب خصوصا من أبناء الجيل الجديد لتدمير إبداعاته وملكاته وقتل زمنه.. ولابد من الوعي بالزمن والتمدن ومعاني الحريات وأن تنكشف حقائق هؤلاء الذين يتاجرون بالدين وهم يتكاثرون يوما بعد آخر، وإحالة من يتجاوز بخطاباته وفتاواه وتشدقاته على القيم الوطنية والإنسانية والأخلاقية إلى المحاكم المدنية ليعاقب، فلا كهنوت ولا قداسة لأحد في هذا العصر.
................................................
لقد قرأت الموضوع من خلال مفهوم ان الافتاء المعاصر من حيث تحوله الى منظومة اقتصادية ودعائية موجهة ومدعومة من قبل الحكم..ومن حيث دونية هدفه في تسويق مفاهيم السلطة المنفردة وتخليق الاساسات التي يرتكز عليها الحكم في ادامة تسلطه على العباد ..هو المقصود بالنقد والمواجهة..بسبب دوره الجنائي في تمزيق الوشائج التاريخية التي تكون مفهوم المواطنة وتشطير المجتمعات الى مسميات طائفية ومذهبية والانحياز المتواطؤ من جانب دون آخر ..
ان المفتي الرسمي والفضائي هو موظف اولا واخيرا..والواجب ان ينطق بسم الجهة التي تدفع له اجره ولا يدعي معرفة كلمة السماء ولا الطريق الاقرب الى الله..ويجب العمل على تحميله المسؤولية الكاملة عن الاضرار الذي يمكن ان تصيب النسيج الاجتماعي من خلال تدخله في طبيعة العلاقات المجتمعية التي تربط الانسان بوطنه..
وبهذا انا اتفق مع الاستاذ الجليل فيما يذهب اليه..
التعليقات (0)