عرضت جريدة "إيلاف" على قرّائها استفتاء حول "الفيتو الصّيني الرّوسي على مشروع القرار بشأن سوريا" يُتيح تأييد أحد الخيارين التاليين:
غطاء للنّظام ليُمارس مزيدا من القمع والقتل
دعم لجهود إيجاد حلّ سياسي للأزمة
أحبّذ،شخصيّا،(وقد يكون كثيرون مثلي) أنْ يُضاف في مثل هذه الاستفتاءات "المُفخّخة" خيار ثالث كالآتي :" لا هذا ولا ذاك،أيْ أنّ الفيتو الصيني الرّوسي لا هو غطاء ليُمارس النّظام السّوري مزيدا من جرائمه ولا هو دعم للحلّ السّلمي...
أمّا لماذا إضافة هذا الخيار "الثالث" ؟ فقد يجد إجابةً عليه في: هل أنّ أميركا وحلفاءها يدعمون الشعب السّوري في ثورته ضدّ الدّكتاتورية لموقف قيَمي إنساني أم لغاية أخرى غير مُعلنة أم للاعتباريْن معا (عصفوران بحجر واحد) ؟...
لِنَتّفِقْ،أوّلا ،على أنّه ليس من عاقلٍ يُمكن أن يُساوره الشكّ في أنّ النظام السوري نظام قمعي استبداديّ وأنّه لا يختلف في ذلك كثيرا عن الأنظمة العربيّة الحاكمة التي لم تكنسها ثورات "الرّبيع العربي" أو تلك التي لم تعتبر من موجة هذه الثورات بإجراء الإصلاحات المقنعة استجابة لتطلّعات شعوبها...أمّا الانحياز للشعب السوري في عزمه على التغيير من أجل الكرامة والديمقراطية والعدالة،فإنّه لا يمكن أن يحتمل الأخذ والرَّدّ ولا يُمكن الاستفتاء عليه إلاّ بـ"نعم" ذلك أنّ القول بـ"لا" غير منصف إطلاقا...
بالعودة إلى استفتاء "إيلاف" حول "الفيتو" الرّوسي الصيني يجدر التذكير أنّ المُعْلَنَ في سياسات الدّول ،غالبا،ما تنطبق عليه مقولة :"ما خفيَ كان أعظمُ"...فلا أميركا بتجييشها للرّأي العام العالمي لمساندتها من أجل الإطاحة ببشار الأسد هي تُقنع بأنّها تقف موقفا مبدئيا ينتصر للشعوب المضطهَدَة وبالذات الشعب السّوري الذي تُعَدُّ المذبحة التي تستهدفه وصمة عار على جبين التاريخ الذي يتشكّل راهنا،ولا روسيا والصين يُزعجهما استمرار الحكم الاستبدادي السوري،إنْ استخلصتا أنّه بالإمكان استمراره ودعمه،والأرجح أنهما مقتنعان،كالكثيرين، أنّه ذاهبٌ لذلك المصير الذي سبقه إليه بن علي ومبارك والقذافي...
الخلاف بين الدولة الأعظم-أميركا وحلفائها-وبين روسيا والصين وحتى الهند القوى الجديدة الصاعدة وما لفّ لفّها مثل إيران،ليس خلافا حول تباينٍ في التّصوّر للمصلحة التي تخدم الشعب السوري بقدر ما هو صراع جدّي وشرس بين إصرار مستميت لإحكام القبضة على الشرق الأوسط والاستفراد به من جهة وبين رفض هذا المسعى الأمريكي من دول تتنامى قوّتها بشكل سريع لتُنافس على سيادة العالم والهيمنة عليه...هو صراعٌ من أجل حسم معركة الغد،الآن،بين قطب أحادي مُهيمن،فعلا،وبين قطب جديد يتشكّل من منطلق قناعة تسكنه بأنّه أجدر بالهيمنة على العالم وثرواته،هو صراع حسابات الرّبح والخسارة لدى الأقوياء يفرضها الزلزال الذي يدُكّ سوريا،ذلك أنّ زلزال هذه الأخيرة لا يهمّ السوريين والعرب،فحسب،بل إنّ أثره وتداعياته تشمل الشرق الأوسط برمّته النّائم على برك نفطه وغازه وحقول ألغامه القابلة للاشتعال في أيّ لحظة لتأذن باندلاع حرب عالمية لن تكون،في كلّ الحالات،شبيهة بما سبقها من حروب...
ما من شكّ أنّ الوضع المأساوي الذي تعيشه سوريا يدفع إلى الانحياز لتبنّي موقف أميركا وحلفائها باعتباره يضع رؤية تبدو منطقية ومغرية لردع النظام السوري وتمكين شعبه من حقه في تقرير مصيره واختيار من يحكمه،وهنا تبدو الإدارة الأمريكية قد استفادت من أخطائها السابقة التي أوقعها فيها شجعها وتهوّرها إلى حدّ الغزو العسكري للعراق وأفغانستان فغدت تستدرج للاحتواء عن طريق الإغراء...في حين أنّ منافسيها لم يجدوا من حيلة للتّصدّي للهيمنة الأمريكية الجديدة "الناعمة" المتعاطفة مع الشعوب غير فيتو قبحه عار من المساحيق لا يختلف كثيرا في بشاعة قبحه عن ذلك الفيتو الأمريكي الذي يعتدي على حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وينحاز بصلف واستخفاف لإسرائيل...
المعارضة السورية الصامدة يحكمها نضالُ رجالٍ مشهودٍ لهم بأنهم من رجال الفكر العرب البارزين مثل د.برهان غليون،والحقيقة أنّ الرّجاحة الفكريّة لن تختبرها التحليلات التي تنال درجة الامتياز أكاديميا بقدر ما تحكم على أصحابها،حين ينزلون من عليائهم إلى الميدان،النتائج على مسرح الواقع،أي القدرة على تحقيق أفضل النتائج الممكنة بأقلّ تكلفة تدفعها الشعوب التوّاقة لتلك الأهداف...أي بالتّعامل مع تعقيدات الملفّ السوري،وفقا لما تفرضه التعقيدات المحلية والإقليميّة والدوليّة،على أن تكون المراهنة،أساسا،على مصلحة الشعب السوري،التي لا تبدو متاحة إلاّ إذا تمّ استدراج القوى العظمى المتصارعة على نخب دماء السوريين إلى أن يخجلوا من لعبتهم القذرة فيركنوا إلى اقتسام "الكعكة" دون ضرورة إلى إطالة معاناة السوريين أو الزّجّ به في فتنة طائفية وحرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس...
وسواء انحاز العرب لأميركا أو لأعدائها فلن يقدروا،راهنا،على أن يَحُولوا دون إصرار طرفي النزاع المعنيين بالصراع على غنيمة الشرق الأوسط على المضيّ قدما لتحقيق أهدافهم الإستراتيجية،و"ضحيّة" اليوم،مع كلّ الألم،هي سوريا...وعليه قد يكون من الممكن تخفيف هول الكارثة بالتواصل السوري والعربي مع الأطراف المتنازعة المتعالية أو بعبارة أخرى إحياء "عدم الانحياز"الايجابي للتقليص من المخاطر على سوريا وكامل الإقليم...
إنّ نظام بشار الأسد في طريقة إلى السقوط لأنه فقد مشروعيته بسقوط الضحايا الأبرياء،سواء تلك التي سقطت بإذن منه أو أسقطها أعداؤه،فالدّم السوري واحد.والسؤال المحيِّر:ما الذي يُطبَخ بعد الإطاحة بالسلطة المتهالكة وخلط الأوراق من جديد ؟..
لولا إستفتاء "إيلاف" الذي "استفزّني" لِمَا اعتبرتُه قفزًا على خفايا الصراع الذي انجرّ على الوضع في سوريا بل شجّع على تردّيه،لأحجمتُ عن التذكير بمثل هذه الحقائق المتداولة،اقتناعا بأنّ الجرح السوري النازف لا يحتمل كذا تحليلا،ربما اعتبر ترفا فكريا في مكان آمِنٍ وبالتالي عُدّ مسعى في غير توقيته...معذرة للإخوة السوريين والله نسأل الاهتداء لحقن الدماء...
التعليقات (0)