كان ولا يزال لموسم الحج على مر العصور من الشرف والرفعة والقداسة ما يفوق سواه وللمكان والزمان والنسك مالا يصله قدر غيره من الأمكنة و ألازمنه وإمعاناً في فضله ومكانته فقد نشأت اللغة العربية العدنانية نسبة إلى عدنان بن إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام) في مكة وهى لم تنشأ مصادفة ، بل كان للحج دور في تكوينها وتطويرها متفاعلا في ذلك مع الأسواق العربية التجاريّة التي تقام في مواسم الحج ، في عكاظ وذي المجاز وغيرها ، التي كانت تُقام قريباً من مكّة المكرّمة وفي الطريق إلى الحج أو في الطريق منه
وكان لالتقاء القبائل العربية في أسواق الحج الموسمية ، أثّر كبير على اللغة و ترتب على قيام قريش على هذه الأسواق لأعوام طويلة قبل البعثة النبوية ، أن تتبوّأ في اللغة المكان الأعلى; لأنّ لغات القبائل عامّة من اليمن وعُمان والشام والعراق ونجد وتهامة ، تطرق مسامع قريش على الدوام ، فتختار منها ما يحسن ، وتنفي ما يقبح ، وقد كانت على هذا الاصطفاء اللغوي زمناً كافياً حتى خلصت لها هذه اللغة الممتازة ، وتهيأت لينزل بها القرآن الكريم على أفصح وجه وأبلغه وأتمّه كمالا وسلاسةً ولكون الحج قد ارتبط والغة والأدب والثقافة ارتباطا وثيقا فهو أيضا يعد تظاهرة إنسانيه واجتماعية و ثقافية يُفصل فيه بين المتخاصمين ويُحكّم بين الشعراء المتنافسين وهو بحق أيام ثقافيه خالدة تبرُز من خلاله حكمة الخطباء وفخر الشعراء وتُثبت فيه أسماء المواقع والوقعات في تاريخ العرب
ولان الشعر ديوان العرب الخالد فان للشعراء مذاهب مختلفة ومقاصد متباينة وغايات خاصة ومشارب منهولة ذهب كل منهم إلى ما يروى ظمأ نزواته وما يُشبع ميوله وما يبرر زهو كبرياءه وما يميز غروره مستغلين ما أتاح لهم موسم الحج من ميزة تنافسيه عاليه كونه الزمان والمكان الذي تجتمع فيه الحشود من كل فج عميق ملوك وخلفاء وأدباء ومشاهير ونساء و0للنساء كان الحضور الطاغى الذي أضفى للحج طعم آخر ومزاج خاص
اشبع نهم المشببين
وأغراء الشعراء المتغزلين باستعراض جمالهم وترفهم وإشعارهم التي تأسر قلوب النساء اللاتي كن يذهبن للحج سافرات لتسجلهن ملاحم الشعراء وتخلدهن دواوين الشعر ويتغنى بهن وبجمالهن المغنون وقد يكون ذلك كما يقول سعيد ابن المسّيب: انه ظرف عبّاد الحجاز: وقد يكون سواه
قال العمري : خرجت حاجا ، فسمعت امرأة تتكلم بكلام أفحشت فيه ، فقلت لها : يا أمة الله ، أ لست حاجّة ؟ أما تخافين الله ! فأسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا ، ثم قالت : تأمل ، يا عمّ ! إنني ممن عناهن العرجي بقوله:
أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها وأدنت على الخدين بردا مهلهــــلا
من اللاء لم يحججن يبغين حسبـة ولكن ليقتلن البريء المغفـــــــــلا
كان العرجي يتغزل بأم محمد بن هشام خال هشام بن عبد الملك وأمير مكة ، ويقال لها ، جيدا
عوجي علينا ربة الهــــــودج إنك إن لم تفعلي تحرجـــــــي
نلبث حولا كاملا كلـــــــــــــه ما نلتقي إلا على منهــــــــــج
في الحج إن حجت وماذا منىً وأهله إن هي لم تحجـــــــــج ِ
و العرجى عبد الله بن عمر بن عثمان الاموى
وكان عمر بن أبى ربيعه
يجد في موسم الحج معرض للجمال والفتون، فراح يستغله " إذ يعتمر ويلبس الحلل والوشي ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج". ويلقى الحاجّات من الشام والمدينة والعراق فيتعرف إليهن، ويرافقهن، ويتشبب بهن ويروي طرفا من مواقفه معهن. وشاقته هذه المجالس والمعارض فتمنى لو أن الحج كان مستمرا طوال أيام السنة:
ليت ذا الدهر كان حتما علينا كل يومين حجة واعتمارا
ولما قدمت فاطمة بنت عبدا لملك بن مروان مكة جعل عمر بن أبي ربيعة يدور حولها ويقول فيها الشعر ولا يذكرها باسمها خشية أبيها لأنه كان كتب إليه يتوعدّه إن ذكرها أو عرض باسمها. فلما قضت حجها وارتحلت أنشأ يقول
وناهده الثديين قلت لها انكي على الرمل من جبّانة لم توسـد
فقالت على اسم الله أمرك طاعة وإن كنت قد كلّفت ما لم أُعـــــوّد
فلماّ دنا الإصباح قالت فضحتني فُقم غير مطرود وإن شئت فازدَد
وكان عمر وسيماً مغروراً ذو ثراء خرج على المجتمع وشبب بكل الفتيات اللاتي دخلن قلبه حتى لو قابلهن في الكعبة المشرفة
قال في زينب بنت موسى الجمحى حين قابلها في مناسك الحج :
يا من لقلب ميتم كلف يهذى بخود مليحة النظر
ما زال طرفي يحار إن برزت حتى رأيت النقصان في بصري
أبصرتها ليلة ونسوتها يمشين بين المقام والحجر
قد فزن بالحسن والجمال معاً وفزن رسلا بالدلان والفخر
قالت لترب لها تحدثها لفسدن الطواف في عمر
قالت : تصدى له ليعرفنا ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها : قد غمزته فأبى ثم اسبطرت تسعى على أثرى
ثم يعلق عمر :
من يسق بعد الكرى بريقتها يسق بكأس ذي لذة خصر
وأنشد فريدة من فرائد الشعر العربي وأعذبه لم تُسبق وقد لا تلحق
لجمال وصفها ورقة غزلها ورفع بعدها إلى عمر بن عبد العزيز أنه يتعرض للنساء فنفاه إلى دهلك ثم غزا في البحر فاحترقت به السفينة ومات غرقاً يقول في رائعته (قف بالطواف)
قف بالطواف ترى الغزال المحرما حج الحجيج وعاد يقصد زمزما
بدراً إذا كشف اللثام رايته أبهى من القمر المنير وأعظما
عند الطواف رأيته متلثما للبيت والحجر المعظم يلثما
سألتها بالله العظيم لتخبري ما الاسم قالت .. من سلالة آدما
الاسم سلمى والمنازل مكة والدار ما بين الحجون وغيلما
قلت عديني منك موعداً أحظي به أ قضي به ما قد أتم المحرما
فتبسمت خجلاً و قالت يا فتى أفسدت حجّك يا مُحل المُحرما
أما ما كان في شأن الشاعر وضّاح اليمن
وضّاح الشعر ووضّاح الجمال والوضاءة والحسن فعجيب
كان إذا دخل أسواق العرب ونواديها تقنع خوفاً من العين لصباحته وجماله أعتبره طه حسين أسطورة من الخيال كحال كثير من المشككين في قيمة الشعر العربي القديم الذي يخلو حسب ما يرون من معاني الحس الإنساني الرفيع ومن لغة الحب الدافق
لما استأذنت أم البنين وهي بنت عبد العزيز بن مروان وزوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك
إن تؤدي فريضة الحج، كتب الوليد يتوعَّد الشعراءَ جميعاً؛ إن ذكرها أحد منهم، أو ذكر أحداً ممن معها، ولكنها عندما وقعت عيناها على وضاح اليمن؛ هوتْه، وطلبت منه، ومن كُثَيِّرٍ أن ينسبا إليها شعراً تنافس بذلك أخت الخليفة فاطمة بنت عبدا لملك كما سبق 0 ولكن كثيراً أدرك عاقبة ذلك فلم ينسب لها، ولم يكن وضاح على ذلك القدر من الحذر والحيطة، وانطلق لسانه برقيق الشعر نسيبا في أم البنين، متغافلا عن مكانتها ومكانة زوجها وهو خليفة المسلمين.
ومما قاله فيها:
أَصَحوتَ عن أم البنيـ ـنَ وذكرِهَا وعنائِها وَهَجَرْتَهَا هجرَ امرئٍ لم يسل صَفْوَ صفائِها
قرشيةٌ كالشمسِ أشـ ـرقَ نورُهَا ببهائها زادتْ على البِيضِ الحِسَانِ بحسْنِهَا ونَقَائِهَا
لولا هوى أمِّ البنينَ وحاجتي للقائِها قد قربت لي بغلةً محبوسةً لنجاتِها
ثم يقول في جرأة على زوجة الخليفة أكثر من ذلك:
صَدَعَ البينُ والتَّفَرُّقُ قلبي وتولت أم البنين بلبي
ثوتِ النفسُ في الحمول لَدَيها وَتَوَلَّى بِالجِسْمِ مِنِّي صَحبي
جَزَعاً للفراقِ يومَ تَوَلَّتْ حَسْبيَ اللهُ ذو المَعَارِجِ حَسْبي!
ولم يزل بعض الشعراء في كل جيل على ماكان عليه عمر ووضّاح من التيه في بحر اللهو والمجون والتشبب
فنجد الشاعر الشعبي: بصري الوضيحى : رغم تقدم سنة يروى من المشاعر المقدسة:
التايه اللي جاب بصـري يقنـه جـدد جـروح العـود والعود قاضـي
نهجت أبي من ربي اليوم جنـه ورديت في عمياي عقب افتراضي
يا من يوصف لي على وصف كنـه شقحاً شقاحه لاهق اللون ياضـي
يا ليت سني بالهوى وقـم سنـه أيام ما بينـي وبينـه بغاضـي
أيام جلد الذيـب عنـدي مَحنـه يقنب وزرق الريش لهن إنتفاضي
لا ريحته قشره ولاهـي مصنـه ريح النفل بمطمطمات الفياضـي
ونهوده للثـوب الحمـر يشَلعنـه حمرٍ ثمرهن غـارقٍ بالبياضـي
ومشجرٍ من سوق هجـرٍ مغنـه على خياطه ناب الارداف راضي
وشدوا لها من زمل ابوها مضنه اشقح يداري خطوته يوم ناضـي
شوفي بعينـي والخـدم يرَكبنـه ركبه عليه تمرجـح بعتراضـي
وعزي لمن شقر البنـي عذبنـه اركن على كبده مِكاوي عراضي
خاتمة -
تأملت في نهاية النماذج السابقة من الشعراء فكان العرجى ينشد من سجنه
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر وعمر من المنفى إلى الموت في عرض البحر
ووضّاح اليمن دفنه عبد الملك بن مروان حياً في أحد صناديق أم البنين
أما بصري الوضيحى فقد عمر حتى هرم وخرّف
التعليقات (0)