استحقاق أيلول .. خيار أم ملجأ؟
بلال الشوبكي
إن الناطق بكلمة أيلول في هذه الأيام أمام جمع فلسطيني وربما عربي سيلاحظ ابتسامة واضحة على وجوه الجميع، والابتسامة هنا صنفان، أولاها: ابتسامة سخرية تفيد بقناعة كاملة أن كل ما يقدم عليه التيار السياسي المتبني لاستحقاق أيلول إنما هو وهن وتنازل، أما ثانيها، فابتسامة فخر وتفاؤل تفيد بقناعة كاملة أن ما أقدم عليه هذا التيار إنما هو دليل قوة وامتلاك لزمام المبادرة. ورغم أن معظم الفصائل الفلسطينية حتى المعارضة منها لم تتخذ موقف المعارض لاستحقاق أيلول إلا أن بعضها لم يشجع ذلك.
ابتداءً لا بد من التأكيد على أن الذهاب إلى أي مكان في العالم من أجل حشد المؤيدين لإحياء "دولتنا" أمرٌ يستحق الاحترام، ويستوجب الدعم والمساندة، وإن كانت هناك قناعة بأن فلسطين لا يمكن أن تتحرر بسلوك هذا السبيل، فعلى الأقل إن في الأمر نفعاً، خاصة أن العالم المعاصر لا يتيح فكرة الانعزال عن العالم بل إن طبيعة العلاقات الدولية في الوقت الحالي لم تعد تدلل على أن هناك حدّاً واضحاً بين المشاكل الداخلية والخارجية.
كما أن من يتبع سياسة الانتقاد والاستهزاء بأي خطوة سياسية لمجرد أنها صدرت عن خصم سياسي ليس إلا كمن أخذته العزة بالإثم. لست من الموقنين بأن استحقاق أيلول سيفرز حلّاً سحريّا للقضية الفلسطينية، لكنّي حين تتبعت آراء من يشاطروني هذا الرأي وجدت مبرراتهم أوهى من أن تكون دافعاً لبناء رأيّ سياسي رصين. تارة يتساءلون باستهزاء: إننا أعلنا دولتنا مسبقاً فماذا حصل؟ وتارةً يقولون أنّه لا يُجنى من الشوك العنب، في إشارة إلى أن المجتمع الدولي هو سبب آلامنا، فكيف يكون العلاج؟ وهنا لا بد من الرد على تلك التساؤلات بمثلها، إننا انتفضنا منذ عشرينات القرن الماضي عشرات المرات ولم نكن إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، فهل هذا يعني أن أي طرح لانتفاضة في وجه الاحتلال ستحسب على أنها مغامرة مشبوهة؟ ألا يتهافت مقاومونا قبل مفاوضونا على المجتمع الدولي، أليس على من نفض يديه من المجتمع الدولي ألّا يخطب ودّه؟
القناعة المسبقة بأن استحقاق أيلول لن يتجاوز سقف النجاح الإعلامي للسلطة، لا تبرر نقدها، فالنجاح الإعلامي مطلوب والضغط الدبلوماسي مقاومة لم نخبرها من قبل. لكن ذلك لا يعني ارتياحاً كاملاً لما يحدث، ولا يعني أيضاً اتفاقاً مع متبني استحقاق أيلول، كما لا يلغي الحق في النقد العلمي والموضوعي، وهنا أود الإشارة إلى أن فكرة التوجه إلى الأمم المتحدة رغم تواضع النتائج المتوقعة منها لا غبار عليها، لكن سبب اللجوء إليها، ومضمونها والظروف السياسية القائمة، كلها أمورٌ تستوجب النقد الآتي:
أولاً: لقد تلقت السلطة الفلسطينية في رام الله ضربة قاسية من الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو فيما يخص التعامل الحاد وتطبيق سياسة تخفيض سقف المفاوضات ورفع مستوى المطالب الإسرائيلية إلى الحد الذي أفقد السلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن أي قدرة على الاستمرار في مشروع المفاوضات، فقد وصل الأمر إلى أن طرح فكرة استئناف المفاوضات في ظل المواقف والسياسات الإسرائيلية يعدّ انتحاراً سياسياً لحركة فتح.
فتح ملف المفاوضات الفلسطينية والتشكيك في نزاهة القائمين عليها ووطنيتهم في الإعلام وخصوصاً ما أثارته الجزيرة في سلسلة الوثائق الفلسطينية التي نشرتها، بالإضافة إلى ملف شبانة والحسيني ودحلان، كلها أمور ساهمت في أن تراجع السلطة نفسها مراراً قبل الإقدام على أي خطوة تقصم ظهر حركة فتح التي أثقلتها الملفات الأخيرة، خصوصاً أن أي إنجاز على صعيد الحياة اليومية للمواطن في الضفة لم يعد مرتبطاً باسم حركة فتح وإنما بشخص سلام فياض.
في مثل هذه الحالة، فإن تبني السلطة في رام الله لفكرة أيلول لا يمكن فهمها خارج سياق أزمة الخيارات التي تعيشها، بل إنها تمثّل هروباً من الواقع، فإخفاق المفاوضات في ظل اعتبارها استراتيجية وحيدة للقيادة السياسية في رام الله وذلك كما أكد عليه أبو مازن مراراً، يُفقد هذا التيار السياسي ضرورته، إذ أن ربطه بالمفاوضات في ظل تعذّرها حكمٌ على هذا التيار بالإعدام. السلطة أدركت ذلك متأخرةً، فآمنت أن تعدد الخيارات في التعامل مع إسرائيل ضرورة لا غنى عنها. السؤال الآن: هل الذهاب إلى الامم المتحدة يشكّل بديلاً كافياً عن المفاوضات؟ وهل تم تبنيه بعد دراسة لخيارات أخرى، وما هي هذه الخيارات ولماذا نجهلها؟ أم أن تبنيه لم يكن إلا طوق النجاة الذي لم تجد غيره؟
ثانياً: إن الذهاب إلى الأمم المتحدة لنحقق حلمنا بالدولة، ليس منطقيّاً إلا إذا كان هناك ثقة بأن هذه المؤسسة الدولية بمقدورها أن تكون الحل، وإن كانت هذه الثقة موجودة بالفعل لدى القيادة التي تبنت خيار إعلان الدولة في الامم المتحدة، فالأولى أن لا يتم تحريك ملف الاعتراف بدولة في حدود عام 1967 في الوقت الذي اعترفت فيه الامم المتحدة بدولة عربية على مساحة أكبر من مساحة الضفة والقطاع، وذلك في قرار التقسيم 181. الأمم المتحدة عجزت عن تطبيق العديد من القرارات، فلماذا نسعى لاستصدار قرارات وبيانات جديدة في الوقت الذي يتوجب علينا تحفيزها لتطبيق ما أقرته مسبقاً؟
ثالثاً: إن نشوء الدول تاريخياً هو عامل تابع لإرادة شعبية تتمثل في الإجماع على قاسم مشترك. في فلسطين إرادة شعبية مؤيدة لقيام الدولة، لكن هذه الإرداة الشعبية لم تتفق على ماهية الدولة، وبلغة أكثر تحديداً، كيف لنا الحديث عن قيام دولة في ظل عجزنا عن إدارة سلطة ما قبل الدولة؟ من أين أتينا بجرأة نطالب العالم الإعتراف بنا كدولة في الوقت الذي لا نعترف فيه ببعضنا البعض؟ كيف لنا أن نطالب برفع اسم فلسطين وعلمها كدولة مستقلة في نيويورك، ونحن نغتال هويتنا صباح مساء؟
إن الحديث المسبق عن إعلان الدولة، دون بناء المواطن كمن يبيع مشاريع وهمية، فكيف لنا أن نعلن عن دولة لم نحررها ولم نبنها ولم نعد نحترم صورتها في أذهاننا؟ قد يقول البعض: إن التيار السياسي الذاهب إلى نيويورك عمل جاهداً في السنوات السابقة كي يبني مؤسسات الدولة، وهو الآن جاهز لتحويل تلك المؤسسات من إطار سلطة حكم ذاتي إلى سيادة الدولة، الرد على هذه الأقوال أن التغنّي بالقدرة على تجنيد الاموال والبناء لم يعد مبرراً بعد أزمة الرواتب مؤخراً، والتغني ببناء مؤسسات الدولة لا ينسجم مع فتح ملفات الفساد لوزراء في حكومة محاربة الفساد وتحقيق النزاهة والعدالة والتنمية.
ملخص القول: إن النهوض الدبلوماسي للمطالبة بحقوقنا الفلسطينية واجبٌ مستمر، يجب دعمه وانتقاد إيقافه في أي لحظة كانت، فهو ليس بردة فعل ولا بنشاط موسمي حتى يتم تبنيه حيناً فيما نتناساه أحياناً. إن كان الذهاب للأمم المتحدة خياراً مدروساً ومقارناً بخيارات عدة، فالأصل أن لا نذهب إلى العالم فرادى، والأولى أن نبني دولة فلسطين في قلب كل فلسطيني، لا أن نبني في كل قلب مملكة حزبية، ثم ندعوه كي يكون حامياً للدولة المنتظرة.
مجلة القدس المصرية
التعليقات (0)