مواضيع اليوم

ازمة المصالحة الصومالية .... منقووول

تعكس الوقائع والتداعيات التي آل إليها الصومال وحالة انهيار الدولة وتحولها إلى ساحة للحرب الأهلية، وبروز الدويلات والكيانات الانفصالية تناقضا شديدا مع ما تتميز به الحالة الصومالية من خصوصية من منظور معايير الاندماج الوطني والتجانس الثقافي، وما يملكه الشعب الصومالي من مقومات الهوية القومية ووحدة الأصل العرقي، واعتناق الإسلام، ووحدة اللغة، وروابط التاريخ المشترك، وارتباط الشعب الصومالي بشعار الصومال الكبير وهدف استعادة الأقاليم الصومالية الضائعة إلى الوطن الأم. بيد أن هذا المجتمع يحمل بين طياته نواة الانقسام القبلي بسبب قوة الانتماء العشائري والقبلي.( )
وفرضت هذه الوضعية تأثيراتها على عملية بناء الدولة الصومالية الحديثة منذ توحيد الشمال والجنوب في يوليو 1960، وحتى تفجر بدايات الحرب الأهلية في عام 1988 وبروز الاحتماء بالنظام القبلي وخلع الشعور بالمصلحة العامة للدفاع عن مصالح فئوية وعشائرية ضيقة. ونتيجة جملة اعتبارات، تزايدت حدة الصراع بين النظام الحاكم والقوى المعارضة له إلى حد تحدى شرعية الدولة ذاتها وسلطاتها، والنكوص إلى الأطر الاجتماعية التقليدية، كالعشيرة والقبيلة، كأبنية للتنظيم الاجتماعي بمعناه الواسع. وتحت وطأة ضربات المعارضة المسلحة تم إقصاء سياد برى من السلطة في يناير 1991، ليدخل الصومال أمام تداعيات انفراط عقد دولته، بمؤسساتها وأبنيتها وتنظيماتها، وتدشين مرحلة من التدمير الذاتي، والفوضى الكاملة، والفراغ الدستوري، وتدمير ما تبقى من مؤسسات وبنى تحتية.
ورغم انهيار الدولة في الصومال، وتعثر محاولات التوصل إلى مصالحة وطنية وتسوية سياسية لأزمته، لا تزال لهذا البلد أهميته الاستراتيجية. فرغم أن التحولات المهمة التي شهدتها بنية النظام الدولي منذ أواخر الثمانينيات قد أدت إلى تراجع نسبي في الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي، إلا أنه سرعان ما تزايدت الأهمية النسبية للصومال مرة أخرى بفعل التواجد الأمريكي المكثف في الخليج العربي، وكجزء من تزايد الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي على خلفية التحول المهم في توازنات القوى الإقليمية بالمنطقة ومحاولات إعادة تشكيلها، بالإضافة إلى ما اكتسبه الصومال من أهمية خاصة في سياق الحرب الأمريكية ضد الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
وفي هذا السياق، وفي ضوء تفاعلات الموقف الأمريكي مع أزمة الصومال والجهود المبذولة لإعادة بناء الدولة الصومالية، يبرز تساؤل مهم حول ما إذا كانت المصلحة الأمريكية، وبالتبعية مصالح القوى الإقليمية الحليفة لها، تنصب في اتجاه استعادة الحكومة المركزية وإعادة بناء الدولة الصومالية، باعتبار أن إعادة بناء الدولة يمثل أحد شروط قيام الحكومة الصومالية بدورها في مكافحة الإرهاب، أم أن تلك المصلحة تنصب في اتجاه استمرار واقع التفتت والتجزئة وغياب الدولة، بما يتيح مزيداً من مبررات التدخل الأمريكي في شئون المنطقة، وتجاوز اعتبار السيادة الوطنية وتفضيل القيام بتلك المهمة عبر وكلاء محليين يوفرون الفرصة للاستفادة من ثروات هذا البلد، الحالية والمستقبلية المتوقعة، تحت مظلة محاربة التنظيمات الأصولية الصومالية، المتحالفة والمرتبطة والمنسقة مع تنظيم القاعدة، أو عبر الدول الحليفة واستعداء المحيط الإقليمي للصومال، خاصة إثيوبيا وكينيا وجيبوتي، وبما يصب في مصلحة هذه القوى الإقليمية.
ويقتضى التحليل الموضوعي للإجابة على هذا التساؤل إلقاء المزيد من الضوء حول الأسباب والعوامل التي أدت إلى انهيار الدولة الصومالية في السياق المجتمعي والإقليمي والدولي القائم، وموقع الصومال في الاستراتيجية الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وجهود التسوية لإعادة بناء الدولة، خاصة منذ مؤتمر المصالحة الوطنية الصومالية بمدينة نيروبي/ الدوريت، والتحديات الفعلية التي لازالت تواجه مشروع التسوية الذي أقره هذا المؤتمر.
وفي هذا الإطار، تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسية. يعالج القسم الأول عوامل انهيار الدولة الصومالية، بينما يعالج القسم الثاني ملامح البيئة السياسية السائدة في الصومال قبل بدء مفاوضات المصالحة الوطنية الصومالية في إطار مؤتمر نيروبي، وهي العوامل التي لعبت دورا مهما سواء في تسهيل أو تعقيد عملية المصالحة تلك. ويعالج القسم الثالث عملية المصالحة الوطنية الصومالية بمراحلها المختلفة في إطار مؤتمر نيروبي الذي بدأت فعالياته في 15 أكتوبر 2002، وتحليل إشكاليات عملية المصالحة، ونتائجها، والتحديات التي مازالت تواجه مشروع التسوية الذي أقره هذا المؤتمر.

أولاً: انهيار الدولة في الصومال
من الأهمية بمكان إعادة التذكير، ودون التطرق إلى التفاصيل، بظروف وعوامل انهيار الدولة الصومالية. فقد أدت تجربة الحكم المدني والتجربة البرلمانية والنيابية منذ الاستقلال وتوحيد الشمال والجنوب في يوليو 1960 وحتى انقلاب محمد سياد برى في أكتوبر 1969، إلى عدة تحولات مهمة لم يكن بمقدورها الحيلولة دون بروز الاحتماء بالنظام القبلي، وخلع الشعور بالمصلحة العامة للدفاع عن المصالح الفئوية والعشائرية الضيقة. وتميزت فترة حكم سياد برى بإحياء العامل القبلي والعشائري، إضافة لما ساد هذه الفترة من زيف أيديولوجي من خلال ادعاء تبني الاشتراكية العلمية وما تعنيه من سياسات تتعلق برأسمالية الدولة، في إطار نظام أوتوقراطى شمولي، تضاءلت فيه فرص المشاركة الشعبية في العملية السياسية. وقد دعم دستور عام 1979 من اتجاه شخصنة السلطة من خلال جمع سياد برى بين منصب رئيس الدولة، والقائد الأعلى للجيش، ورئيس المجلس القضائي، ورئيس مجلس الوزراء، وسكرتير عام الحزب الواحد (الحزب الاشتراكي). كما منحه التعديل الدستوري الذي أجري في عام 1980 سلطات إضافية دون الرجوع إلى، أو قبول، البرلمان أو الجهاز التنفيذي أو مجلس القضاء( ). إضافة إلى هدر وتبديد القدرات والإمكانيات الصومالية، في حرب الأوجادين (1977/ 1978)، مما أدى إلى التعجيل ببدايات تآكل الدولة الصومالية.
وعلى الرغم من إجراء انتخابات عامة في عامي 1979، 1984، إلا أن تلك الانتخابات لم تضمن تحقيق حياة ديمقراطية حقيقية. وارتبط تشخيص السلطة بالاتجاه نحو تدعيم سيطرة المؤسسة العسكرية. وأدى سوء تركيز الثروة والسلطة إلى إحياء الانقسام الإقليمي، واستياء الشمال من غياب التنمية المتوازنة، واستئثار الجنوب بمقاليد السلطة. في ظل هذه الأجواء، برزت الصراعات القبلية التي أنهكت الجسد الصومالي، وتفجرت العوامل القبلية الكامنة، حيث إذكاء الروح القبلية وعودة اللغات القبلية والانتماءات الثانوية، مما عرض الأمة الصومالية إلى نكسة قومية خطيرة حولتها إلى فصائل قبلية متحاربة، حتى وإن توحدت ضد سلطة سياد برى وضد شرعية الدولة تحت غطاء تنظيمات سياسية وفصائل عسكرية. وبعد ثلاثة أيام فقط من سقوط سياد برى وتقويض أعمدة الدولة الصومالية في يناير 1991، ونتيجة غياب بديل سياسي في البلاد، بعد سقوط الحزب الاشتراكي الثوري الصومالي الحاكم، وعدم وجود أي تنسيق بين فصائل المعارضة المسلحة الصومالية، بدأت مرحلة جديدة من الصراع على السلطة في مقديشو، تمثلت في الخلاف بين فصائل المعارضة المسلحة الصومالية الثلاث: المؤتمر الصومالي الموحد، الحركة الوطنية الصومالية، والجبهة الوطنية الصومالية، والتي عملت متحدة مسبقا على إسقاط برى واختيار رئيس جديد للبلاد.
وكان المؤتمر الصومالي الموحد قد وعد في يناير 1991 بتشكيل حكومة ديمقراطية ذات قاعدة عريضة تضمن تمثيل كل جماعات المعارضة، والإمساك بزمام الأمور في البلاد من خلال فترة انتقالية. وفي 29 يناير من العام نفسه، اختار المؤتمر الصومالي على مهدى محمد ـالعضو السابق في البرلمان الذي حلَّه برى في عام 1969 والذي ينتمي إلى قبيلة الهاويه مصدر التأييد لحركة المؤتمرـ رئيسًا مؤقتًا للصومال، وعمر غالب عرته رئيسًا للوزراء، والذي ينتمي إلى قبيلة الإسحاق في شمال الصومال. إلا أن الجبهة الوطنية الصومالية الأوجادينية قد طعنت في شرعية رئاسة على مهدى محمد، وبرز مجددًا الخلاف داخل حركة المؤتمر بين جناحي مهدى ومحمد فارح عيديد ـ سفير الصومال السابق لدى الهند ـ والذي انتخبه المؤتمر الصومالي الموحد في يوليو التالي رئيسًا له. وكان المؤتمر قد حدد الحكومة بـ 21 وزيرا على أساس قبلي، فازت فيه قبيلة الهاويه بثماني حقائب، مقابل خمس حقائب للإسحاق وثمان لباقي القبائل الأخرى، بمعدل وزير لكل قبيلة، مما أثار حنق هذه القبائل التي تمثل أكثر من نصف سكان البلاد فضلا عن امتلاكها قوات عسكرية مؤثرة. ونتيجة رفض جناح عيديد لشرعية مهدى، بدأت تداعيات حرب الأخوة الأعداء ونشوب الحرب الأهلية بين رفاق السلاح وحتى بين أبناء القبيلة الواحدة.
وفي هذا الإطار، برزت مبادرة جمهورية جيبوتي في يوليو 1991 لعقد مؤتمر للمصالحة الوطنية، حيث الإقرار بعلي مهدى محمد رئيسًا مؤقتًا للصومال، وتكليفه بتأليف حكومة موسعة ذات قاعدة عريضة. وأدى فشل الفصائل القبلية المسلحة في الاتفاق على صيغة لتقاسم السلطة وانجرار البلاد إلى حرب أهلية طاحنة إلى إعلان الجزء الشمالي الغربي من الصومال، والمعروف سابقًا بـ الصومال البريطاني، استقلاله في 18 مايو 1991 عن استقلاله تحت اسم جمهورية أرض الصومال. بيد أن هذا الكيان الجديد لم يكن بمقدوره اكتساب الاعتراف الدولي والإقليمي، وظل إعلانًا من جانب واحد. وهكذا، خرجت الحركة القومية الصومالية في الشمال. إلا أن هذا الاستقلال لم يضمن تحقيق الاستقرار داخل هذا الكيان، إذ سرعان ما نشبت الخلافات والصراعات بين قادته ورموزه السياسية والعسكرية وأجنحته القبلية.
وعلى صعيد الصراع على السلطة وتوازنات القوى، تمكن الجنرال محمد فارح عيديد رئيس المؤتمر الصومالي الموحد من تشكيل تحالف وطني صومالي في 27 أغسطس عام 1992، برئاسته ضم أربعة تنظيمات، إضافة لجناح عيديد، وهى: الجبهة القومية الصومالية بزعامة الجنرال عمر جيس، والحركة الديمقراطية الصومالية برئاسة محمد نور عليو، والحركة الوطنية لجنوب الصومال برئاسة عبدي ورسمي، وقد ناصبت تلك التنظيمات العداء لمهدى، وتفاقمت المعضلة الصومالية. واستند كل طرف صومالي على طرف خارجي أو أكثر. وفى هذا السياق، برزت الخطوط الحمراء لمصالح وأمن أطراف الجوار الجغرافي والإقليمي ومن يرعاها من الأطراف الخارجية، في ظل تعدد العرقيات في الصومال، واستفراد كل منها بقطعة من أرض الوطن الصومالي. وتبدى جليًا مدى التورط في المستنقع الصومالي، وطبيعة تداخل المصالح المتناقضة لدول الجوار في تلك الأزمة.
وقد فاقم من هذا الوضع مسألة الأقاليم الصومالية الضائعة والتي تتوافر فيها قومية صومالية. فبالإضافة إلى أرض العفر والعيسى ( الصومال الفرنسي) والمعروف حاليًا بدولة جيبوتي، هناك الصومال الغربي أو إقليم أوجادين الذي ضمته بريطانيا نهائيًا إلى إثيوبيا في عام 1954، ويعرف في إثيوبيا باسم الإقليم الخامس، وتتوافر فيه أغلبية عربية مسلمة وقومية صومالية، وقد شنت الصومال بسببه حربًا في أواخر السبعينيات انتهت بهزيمتها، بالإضافة إلى الانعكاسات السلبية التي تركتها على حكم سياد برى. ومن ثم توفر الصومال دعمًا لجبهة تحرير الأورومو الإثيوبية المعارضة المسلحة. كما تحتل كينيا إقليم النفد المعروف بإقليم الحدود الشمالية الكينية جنوب غربي الصومال، وعاصمته غاريسا، الذي ضمته كينيا رسميًا إلى أراضيها في عام 1963 بعد اتفاق أروشا، ويضم حوالي 380 ألف لاجئ صومالي. كما تمتد مسألة اللاجئين إلى عديد من دول الجوار، بفعل ما أفرزته الحرب الأهلية الصومالية من انعكاسات أمنية، أدت إلى تشريد مئات الألوف من الصوماليين. وبالتداعي المنطقي، يتزايد تخوف دول الجوار من عدوى انتقال عوامل الأزمة الصومالية إلى بعض أقاليمها التي تعيش نسبيًا ظروف الصومال نفسها نتيجة التعدد العرقي والقوميات عابرة الحدود.

ثانيا: ملامح البيئة السياسية في الصومال قبل مؤتمر نيروبي/ الدوريت
شهدت البيئة السياسية في الصومال خلال الفترة السابقة على عقد مؤتمر نيروبي عددا من التطورات المحلية والإقليمية والدولية، كان لها انعكاساتها المهمة على مشروع المصالحة الصومالية من خلال هذا المؤتمر. ونشير هنا إلى أهم تلك التحولات.
1- ظهور الحكومة الصومالية الانتقالية
في تطور غير مسبوق منذ بدء الحرب الأهلية، ظهرت للوجود حكومة انتقالية في الصومال، ورئيس مؤقت للبلاد، منذ إقصاء سياد برى. وقد جاءت تلك الحكومة كإفراز لعملية المصالحة الوطنية التي أطلقها مؤتمر الوفاق الوطني الصومالي الذي عقدت أعماله خلال الفترة من 2 مايو إلى 30 أغسطس 2000، بمنتجع عرتا بجنوب جيبوتي، بمبادرة من حكومة جيبوتي في 20 أبريل 2000. وقد اكتسبت تلك المبادرة أهمية خاصة، حيث اعتمدت على تعزيز دور المجتمع المدني الصومالي، وإقصاء بارونات الحرب الذين أعلنوا بدورهم مقاطعة المؤتمر، باستثناء زعيم التحالف والإنقاذ الصومالي على مهدى محمد، والذي يسيطر على شمال مقديشو. واستهدفت المبادرة للمرة الأولى في سياق ما يمكن تسميته فوضى المبادرات، استنهاض همم أجزاء متنوعة من الأغلبية الصامتة والفئات المدنية المقهورة بقوة السلاح والخوف( )، خاصة المؤسسات غير الحكومية، ومؤسسات المرأة، والصوماليين بالمهجر، ورجال الأعمال الأكثر تضررًا من فقدان دولة القانون والمؤسسات. إضافة لتوافر قوة دفع دولية تجسدت في دعم المجتمع الدولي، مثل الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية والدول الغربية الرئيسية.
وقد شارك في المؤتمر حوالي 450 مندوبًا صوماليا يمثلون القوى الرئيسية في الساحة الصومالية، تم خلاله مناقشة كيفية وضع اللبنات الأولى لوضع البلاد مجددًا على طريق عملية استعادة الدولة مرة أخرى كأساس للتنظيم والإدارة في المجتمع الصومالي( ). وتمخض المؤتمر عن انتخاب برلمان مؤقت يمثل كافة الشرائح الاجتماعية والتقسيمات العشائرية في البلاد على أساس المنطقة وليس العشيرة، على أن تكون مدته ثلاث سنوات لإعداد دستور انتقالي، وتشكيل مجلس تنفيذي يتم اختياره ويعمل كحكومة مؤقتة لمدة ثلاث سنوات، تمهيدًا لقيام سلطة شرعية منتخبة لإعادة إنشاء المؤسسات الصومالية. وقام البرلمان المؤقت والمكون من 245 عضوًا في 25 أغسطس 2000 بانتخاب الدكتور عبدي قاسم صلاد حسن رئيسًا مؤقتًا للصومال، والذي حاز مساندة دولية ودعما شعبيا صوماليا. كما وافقت الجمعية الوطنية الانتقالية (البرلمان) على المجلس الوزاري الانتقالي، وتعيين على خليف غلير رئيسًا للحكومة الانتقالية. وأبدت تلك الحكومة اعتزامها تشكيل لجنة قومية للمصالحة الوطنية تتكون من 25 شخصية وطنية من جميع أقاليم الصومال الـ 18، برئاسة عبد الرزاق حاج حسن - أول رئيس وزراء بالصومال بعد الاستقلال- بالإضافة إلى عدد من الشخصيات المختارة من الشيوخ والحكماء السياسيين الذين يحظون بالاحترام والتقدير من مختلف الفصائل الصومالية. واقترنت المبادرة الجيبوتية بدعوة الرئيس الجيبوتى إسماعيل عمر جيلى إلى إنشاء صندوق للتضامن لإعادة إعمار الصومال، تساهم في تمويله مجموعة من الدول على رأسها الدول الخليجية العربية واليابان والاتحاد الأوروبي. كما اقترن التأييد الإقليمي والدولي لنتائج المؤتمر باشتراط التوصل إلى إجماع صومالي، والتعاون مع الفصائل المعارضة المسلحة للتوصل لمصالحة وطنية شاملة، وقدرة الحكومة على الحكم الفاعل.
وعلى الرغم من منافسة إثيوبيا ومصر وكينيا وليبيا على الزعامة الإقليمية في الأزمة الصومالية، حيث تدعم كل واحدة منها فصائل معينة، إلا أنها وضعت جانبا بعضًا من خلافاتها لدعم نتائج المؤتمر، ولكنها سرعان ما برزت مرة أخرى إلى الوجود بسبب الخلاف بين تلك الأطراف حول تركيبة الحكومة التي ستقود الصومال بعد المصالحة. ففي الوقت الذي أيدت فيه مصر والدول العربية الأخرى نتائج مؤتمر عرتا، فإن إثيوبيا وكينيا، على وجه الخصوص، انتقلتا من التحفظ إلى تبني مواقف عدائية ضد الحكومة الصومالية المؤقتة. ووجد زعماء الحرب والفصائل المسلحة في عاصمتي الدولتين الملجأ والعون. ولم تفلح الحكومة الانتقالية في التوصل إلى قواسم مشتركة مع تحالف المعارضة على الرغم من لقاء الرئيس الصومالي صلاد مع الجنرال حسين عيديد في شهر سبتمبر 2000 بمدينة سرت الليبية برعاية الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي والذي أبدى استعداد بلاده للمساهمة في إعادة إعمار الصومال، حيث اشترط عيديد الموافقة على إحلال السلام مع صلاد على أساس أنه زعيم فصيل من دون الاعتراف به رئيسا شرعيا للصومال( ). واستغلت المعارضة الصومالية خصوصية الموقف الإثيوبي للتأكيد على عدم شرعية الحكومة الانتقالية وتنسيق جهودها ضد تلك الحكومة.
وفعليًا، احتضنت مدينة أواسا الإثيوبية مؤتمرًا في مارس 2001، حضره جميع أمراء الحرب وزعماء العشائر المعارضة، فيما عدا رئيس جمهورية أرض الصومال ورئيس بونت لاند الذي انسحب لاحقًا من المؤتمر، قرروا خلاله تشكيل مجلس المصالحة وإعادة البناء الصومالي من زعماء الفصائل الصومالية الـ 17، ويضم 70 عضوًا، على أن يقوده مجلس خماسي يتداول رئاسته زعماء الفصائل المسلحة الكبرى. كما أصدر المجلس ميثاقًا وطنيا من 13 بندًا شكلت أسسا لمصالحة وطنية، وتعيين 23 سكرتيرًا لإدارة البلاد بشكل مؤقت يعملون بمثابة وزراء يتولون الشئون الخارجية والداخلية والتعليم والزراعة والدفاع، حيث تم التوافق على تشكيل نواة جيش قوامه أربعة آلاف جندي، إلى جانب الاتفاق على عقد مؤتمر للمصالحة الوطنية داخل الصومال في غضون ستة أشهر، تشارك فيه كل الفصائل على قدم المساواة، بما في ذلك كل منَْ شاركوا في مؤتمر عرتا، على أن تكون مشاركتهم كإحدى الفصائل وليس بوصفهم حكومة للصومال، معتبرين أن مؤتمر عرتا لم يؤد إلى حكومة وطنية تمثل كل رغبات وطموحات القوى السياسة الوطنية الصومالية، ولكنها أوجدت ظروفًا تؤدى إلى دمار كامل للمجتمع وتجعل المصالحة الوطنية حلمًا مستحيلاً( ). وقد أدت تلك التطورات إلى عجز الحكومة الانتقالية الصومالية بقيادة صلاد عن فرض سيطرتها على الأقاليم الصومالية خارج العاصمة مقديشو.
2- أزمة الدويلات والكيانات الانفصالية
بالإضافة إلى التحدي الذي فرضته المعارضة الصومالية للحكومة الانتقالية، فقد شهد الواقع السياسي تجزئة الصومال إلى عدد من الدويلات والكيانات السياسية التي تمتعت بقدر كبير من الاستقلال سواء في مواجهة بعضها البعض أو في مواجهة الحكومة المركزية الانتقالية. ونشير فيما يلي إلى أبرز تلك الكيانات.
- جمهورية أرض الصومال، التي أُعلنت في 18 مايو 1991 في الجزء الشمالي الغربي من الصومال، واتخذت من هرغسيا عاصمة لها، بالإضافة إلى استحداث حكومة وبرلمان وجيش مستقلين، وإصدار جواز سفر خاص بسكانها في سبتمبر 2000. كما تميزت تلك الجمهورية بقدر كبير من الاستقرار النسبي بالمقارنة بباقي الأقاليم الصومالية، خاصة بعد نجاحها في نزع أسلحة الميليشيات العسكرية.
- بلاد بونت (بونت لاند) شمال شرقي الصومال، وتاريخيا كانت تلك المنطقة جزءًا من الصومال الإيطالي حيث استقل هذا الجزء عن إيطاليا في يوليو 1960. وتبلغ مساحتها حوالي 200 ألف كم2، تشكل 33% من الأراضي الصومالية ويقطنها حوالي 2.5 مليون نسمة حسب تعداد تقديرى أجرى في عام 1998، كما يدين كل سكانها بالإسلام ويعتنقون المذهب الشافعي. وقد قرر مجلس الأعيان في بونت لاند إعلان الحكم الذاتي في أغسطس 1998، وانتخاب زعيم الجبهة الديمقراطية لإنقاذ وخلاص الصومال العقيد عبد الله يوسف أحمد رئيسًا لها، و66 نائبًا لبرلمانها، وتشكيل محكمة عليا برئاسة يوسف حاجى نور، كما أقر المجلس ميثاقًا مؤقتًا لمدة ثلاث سنوات انتقالية. ونص الميثاق على أن يقوم رئيس البلاد بتكليف لجنة خاصة لوضع الدستور الدائم، بالإضافة إلى إجراء إحصاء سكاني في أقاليم البلاد الخمسة (مدق، نوغال، بارى، سناج، صول). ويشار هنا إلى أن جمهورية أرض الصومال المجاورة تصر على أن إقليمي صول وسناج يشكلان جزءًا من أراضيها. كما نص الميثاق على إجراء انتخابات رئاسية قبل انتهاء المرحلة الانتقالية، إلا أن الرئيس عبد الله يوسف لم ينجح في إجراء تلك الانتخابات في الموعد المحدد، كما رفض التنازل عن سلطاته، مما أدى إلى دخوله في صراع شديد مع رئيس المحكمة العليا، وانقسام مجلس الأعيان بين جناح مؤيد للتمديد ليوسف لمدة ثلاث سنوات أخرى، وجناح آخر رفض التجديد. كما نشأت حالة من ازدواجية السلطة بسبب تجديد الجناح الأول لولاية يوسف بينما قام الجناح الثاني بانتخاب جامع علي جامع رئيسا جديدا للبلاد في 14/11/2001. وهو ما أدى بدوره إلى دخولهما في مواجهات مسلحة، حيث نجح يوسف في مايو 2002 في دخول مدينة بوصاصو التي سيطر عليها جامع، اضطر بعدها الأخير إلى الخروج من المدينة، ثم سيطرة يوسف على الأقاليم الخمسة لبونت لاند في أغسطس 20002 بعد سلسلة من المواجهات العسكرية الواسعة.
- إعلان جيش الرحانوين للمقاومة، الذراع العسكرية لجبهة المقاومة الرحانوينية التي يتزعمها العقيد حسن محمد نور ( المعروف بـ شاتي جدود)، المدعوم عسكريًا من إثيوبيا- إنشاء كيان جديد يتمتع بالحكم الذاتي في جنوب غربي الصومال في إبريل 2002 تحت اسم كيان جنوب غربي الصومال، وعاصمته بيداوة ـ وسط جنوب الصومال وعلى بعد 250كم جنوب غربي مقديشو- في قرار اتخذه 52 عضوًا في اللجنة المركزية لهذا الفصيل و70 من وجهاء منطقتي باى وباكول اللتين يسكنهما الرحانوينيون، حيث تولى حسن محمد نور رئاسة الكيان. وقد لعبت إثيوبيا دورًا كبيرًا في تأسيس هذا الكيان، الذي سرعان ما شهد خلافات حادة بين حسن محمد نور وبعض مساعديه الذين طالبوه بالتخلي عن منصبه السياسي كقائد للجيش بعدما صار رئيسًا للكيان الجديد.
- تواصلا مع شيوع الظاهرة الانفصالية، بادرت مجموعة من السياسيين والعلماء وشيوخ القبائل الصومالية في منتصف أكتوبر 2002، بتشكيل حكومة إقليمية جديدة في منطقة جالكعيو شمال شرقى الصومال، حملت تسمية إدارة جالكعيو ـ نسبة إلى مدينة جالكعيو عاصمة إقليم مدج الذي يضم عشائر من قبيلتي الهاويه والدارود. وقد تمتعت تلك الحكومة بقدر من الاستقلال النسبي في مواجهة الكيانات الصومالية الأخرى، وعلى سبيل المثال أقامت تلك الحكومة علاقات ديبلوماسية مع إدارة بونت لاند( ).
وعلى خلفية مجمل ما تقدم، تتبدى التحديات المحلية للحكومة الانتقالية الصومالية، وحقيقة التراشق بالنيران ومختلف الأسلحة بين سائر الفصائل الصومالية في محاولة كل منها للسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي والمقاطعات. الأمر الذي أضفى صعوبات جمة على قدرة الحكومة على بسط الأمن والاستقرار، وعجزها عن تشكيل قوات شرطة تكفل حماية الأمن الوطني، مما أدى إلى ظهور العصابات الخاصة وزيادة حالات الاختطاف للشخصيات العامة ورجال الأعمال مقابل دفع الفدية، وانتشار السلاح على نطاق واسع( ) وذلك رغم ما قامت به الحكومة الصومالية من حملات واسعة ضد الجريمة وعمليات الخروج على القانون. وكانت الحكومة الصومالية المؤقتة بدورها قد ضمت رسميا عشرات من مليشيات المحاكم الإسلامية في العاصمة مقديشو إلى صفوفها مجددًا، بموجب اتفاق تم بين هذه المحاكم والحكومة واستيعاب بعضها الآخر في نواة الجيش النظامي وقوات الشرطة، بهدف توحيد النظام القضائى في البلاد. وكانت هذه المليشيات قد تأسست وانتشرت في الصومال منذ منتصف التسعينيات بتمويل من رجال أعمال محليين لوضع حد للفوضى وموجة الجرائم التي اجتاحت البلاد نتيجة غياب السلطات الأمنية والقضائية، حيث قامت تلك المحاكم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، ولكنها اُتهمت بهيمنة الجماعات الإسلامية الأصولية عليها مما وضع الحكومة الانتقالية أمام ضغوط متزايدة من جانب الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية بهدف إلغائها أو تحجيم دورها، مما اضطر الحكومة إلى وقف أعمال هذه المحاكم، وتحويل قضائها إلى إدارات وزارة العدل.( )

2- تدهور العلاقات الصومالية الأمريكية بعد أحداث سبتمبر 2001
فرضت أحداث 11 سبتمبر 2001، وشروع الولايات المتحدة في شن حرب على الإرهاب تحديات صعبة على الحكومة الانتقالية الصومالية، خاصة بعد الحملة العسكرية الأمريكية ضد نظام طالبان وشبكة القاعدة. إذ أبدى المسئولون الأمريكيون تصميمًا للحيلولة دون فرار عناصر القاعدة إلى الصومال الذي يفتقر عمليا إلى هياكل سلطة مركزية. ومثلت التهديدات العسكرية الأمريكية وحالة الحصار البحري من قوات فرنسية وألمانية وبريطانية، عامل خوف إضافيا للشعب الصومالي والحكومة الانتقالية على حد سواء، انعكس سلبًا على جهودها لتحقيق المصالحة والاستقرار. وقد مارست الولايات المتحدة الضغوط على الحكومة الصومالية من أجل شن حرب بالوكالة ضد قواعد التنظيمات الإرهابية داخل الصومال، تقوم الولايات المتحدة من خلالها بتوفير بعض الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية والتدريب العسكري للقوات المحلية الصومالية( ). ودعم من هذا التوجه الأمريكي اعتقاد الإدارة الأمريكية أن الصومال شكلت قاعدة خلفية للاعتداءين على السفارتين الأمريكيتين، في نيروبي ودار السلام. فضلا عن اتهام الولايات المتحدة للصومال برعاية منظمات إرهابية مثل الاتحاد الإسلامي. وفى هذا السياق، أصدر الرئيس الأمريكي، بوش (الابن) قرارًا في نوفمبر 2001، بتجميد شركة البركات للتحويلات المالية ـ أكبر مؤسسة للتحويلات في الصومال ـ وشركة الاتصالات (الانترنت)، وإدراجهما في قائمة الشركات التي يشتبه في قيامها بتدبير الأموال لتنظيم القاعدة. وأدى إغلاق الشركتين إلى أضرار جسيمة بالصومال. غير أن الحكومة الصومالية قد استطاعت إثناء الإدارة الأمريكية عن القرار في أغسطس 2002 من خلال تأكيدها عدم وجود قواعد لشبكة القاعدة في الصومال، وتأكيدها تفكيك الاتحاد الإسلامي في عامي 1997/1998، بالإضافة إلى تأكيدها الالتزام بالتعاون مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب( ).
وفاقم من الأمر تداعيات الحادث الذي وقع شمال مومباسا، أكبر مرفأ على الساحل الكيني، في 28 نوفمبر 2002، من خلال هجوم تم فيه إطلاق صاروخين أرض - جو من طراز ستريلا باتجاه طائرة إسرائيلية تابعة لشركة أركياع أثناء إقلاعها من المدينة ذاتها( ). وتزامن ذلك مع حادث تفجير سيارة مفخخة في قلب فندق باراديس الذي تملكه شركة إسرائيلية، ويرتاده سياح إسرائيليون( ). وعلى الفور بدأ الرئيس الأمريكي جورج بوش اتصالاته مع رئيسي كينيا وإثيوبيا لبحث الأوضاع في منطقة القرن الأفريقي، ولاتخاذ التدابير العاجلة للقضاء على الإرهاب في المنطقة.
تبع ذلك زيارة قائد الوحدة الأمريكية في القرن الأفريقي، الجنرال جون ساتلر، لإقليم بونت لاند لإجراء مباحثات حول نشاط الجماعات الإرهابية، في منطقة راسكا نبونى على الحدود الصومالية الكينية. وهو ما دفع العقيد عبد الله يوسف إلى مطالبة الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية بمساعدته في السيطرة على مدينة كيسمايو الاستراتيجية، ليتمكن من القضاء على شبكات الإرهاب التي تشكل خطراً على المناطق القريبة من الحدود الكينية، وكرر تأكيد وجود قواعد للإرهابيين في مناطق نائية من إقليم بونت لاند.
من ناحية أخرى، سعت فصائل المعارضة المسلحة المناوئة للحكومة الانتقالية في الصومال إلى توظيف واستثمار هذه الأجواء، بدعم إثيوبي مباشر، وطرحت نفسها على غرار تحالف الشمال في أفغانستان في مواجهة حكومة صلاد التي تعتقد إثيوبيا أن الاتحاد الإسلامي هو القوة الرئيسية وراء وجوده على رأس السلطة. بل إن وزير الخارجية الإثيوبي أشار إلى أن بلاده ترغب في أن يتمكن الصوماليون من تثبيت حكومة مركزية فاعلة لإحلال السلام والاستقرار، بما يساهم في تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي، وأن الحكومة الإثيوبية ستحارب كل النشاطات والجماعات الإرهابية التي تتحرك داخل الصومال، وأنها ستواصل هذه السياسة حتى إن لم تجد الدعم من أي جهة أخرى. وللتدليل على ذلك، ذهب وزير الخارجية الإثيوبي إلى أن حكومة صلاد توفر الملاذ لقوات مناوئة تابعة لكل من الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة الحاكمة في إرتيريا، وجبهة تحرير أورومو الإثيوبية المعارضة، وحركة الاتحاد الإسلامي الصومالية، مؤكدا أن تلك التنظيمات تتحرك بحرية داخل الصومال في ظل غياب حكومة مركزية قوية. وفى السياق نفسه، أشارت الدوائر الإثيوبية إلى أن الرئيس صلاد قد أوعز إلى جماعة اعتصام الصومالية (الاتحاد الإسلامي سابقًا) والتي تنشط إلى جانب الاتحاد الإسلامي الأوجادينى في المناطق الحدودية المتاخمة لإثيوبيا، باستئناف نشاطها المسلح بعد أن كان قد تعهد لرئيس الوزراء الإثيوبي، مليس زيناوى، بالحد من نشاط هذه الجماعة. كما أشارت تلك الدوائر إلى تغاضي حكومة مقديشو عن تحرك جبهة تحرير الأورومو التي تنشط في جنوب غربي الصومال قرب الحدود الإثيوبية ضد حكومة أديس أبابا، وكانت تتخذ من بلدة قريولى (90كم جنوب غربي مقديشو) مقرا لها ( ). وقد أدت هذه التصريحات إلى زيادة حدة التوتر والعداء في علاقات الحكومة الانتقالية الصومالية بجارتها الكبرى، إثيوبيا، واتهام الحكومة الانتقالية لإثيوبيا بإرسال الدعم المادى والأسلحة والتغطية السياسية لزعماء مجلس الإصلاح وإعادة البناء الصومالي المعارض بهدف زعزعة استقرار حكومتها( ). وامتدت الاتهامات العلنية لإثيوبيا بالغزو واحتلال أرض صومالية، حيث سبق لإثيوبيا إن دخلت الأراضي الصومالية بالفعل قبل تشكيل الحكومة الانتقالية في مناسبات عديدة، كان أبرزها الهجوم الشهير في عام 1996 ضد معسكرات تابعة للاتحاد الإسلامي. وانعكست هذه الوضعية على التفاعلات داخل الصومال ما بين الحكومة الانتقالية وزعماء الحرب( ).
ثالثًا: مؤتمر نيروبي/ الدوريت وعملية المصالحة الوطنية الصومالية
قررت الإيجاد في 11 يناير 2002 عقد مؤتمر للتسوية السياسية والمصالحة الوطنية. وتم تشكيل لجنة فنية بهذا الشأن ضمت دول المواجهة (كينيا ـ جيبوتي ـ وإثيوبيا) والأمانة العامة للإيجاد، وبرئاسة كينيا، لوضع طرق ووسائل عقد هذا المؤتمر على أن تشارك فيه الحكومة الانتقالية وجميع الأطراف الصومالية. وكانت الحكومة الانتقالية، ومعها جيبوتي، قد رفضت في 10 يناير 2002 مشروعًا سودانيا، تدعمه كينيا، لإقامة آلية إقليمية لحل النزاع، واعتبرته تدخلاً في شئونها الداخلية، رغم أن قمة الإيجاد هذه، والمنعقدة بالعاصمة السودانية قد شهدت، ونتيجة الوساطة السودانية، مصالحة بين رئيس الوزراء الإثيوبي، مليس زيناوى، والرئيس الصومالي صلاد. ومع ذلك، عادت الحكومة الصومالية الانتقالية إلى رفض مبادرة الرئيس السوداني عمر البشير، بعد مؤتمر القمة الثامن للإيجاد، والذي رأس هذه القمة، إرسال مبعوث إلى الصومال ـ وهو السفير عبد الرحمن النميرى كمبعوث خاص للقضية الصومالية ـ وعادت لتكرر أن هذا الأمر يمثل تدخلاً في شئونها الداخلية، ولا يخدم عملية المصالحة، مع التنويه في الوقت ذاته بدور السودان وجهوده في الوساطة، مشيرة إلى أهمية صيغة المصالحة الصومالية بعد مؤتمر عرتا.( ) ومع تزايد أجواء التوتر بين مقديشو وأديس أبابا، أعلنت الحكومة الانتقالية الصومالية أنها سترفض أي وساطة للإيجاد يكون أحد أطرافها إثيوبيا، باعتبارها دولة معادية تبدى انحيازًا كاملاً إلى جانب المعارضة المسلحة المناوئة للحكومة خلال المواجهات العسكرية التي شهدها الصومال، وذلك على خلفية الحديث عن لجنة الوساطة الجديدة التي شكلتها كينيا برئاسة وزير خارجيتها السابق، وتضم في عضويتها جيبوتي وإثيوبيا بهدف التحضير لمؤتمر المصالحة المقترح( ). وهددت الحكومة الصومالية الانتقالية بعدم المشاركة في المؤتمر ما لم تغير إثيوبيا من سياساتها، بل أصدرت بيانًا دعت فيه إلى إقصاء إثيوبيا عن اللجنة الفنية المكلفة بالإعداد والتحضير للمؤتمر. وقد تم احتواء هذه الأزمة، حيث اجتمعت اللجنة الفنية وأمانة هيئة الإيجاد في نيروبي في الفترة من 3 ـ 15 إبريل 2002، لمناقشة اختصاصات المؤتمر، وقررت لاحقًا أن تتوجه لجنة فرعية تابعة لها إلى الصومال لجمع آراء الصوماليين، قبل أن تضع اللمسات النهائية لأعمالها التحضيرية. وفى الفترة من (17 ـ 20) إبريل 2002، سافر ممثلو إثيوبيا وكينيا وأمانة الهيئة في اللجنة الفرعية إلى الصومال، حيث رفضت جيبوتي الانضمام إلى اللجنة لانعدام التحضير الجيد لها، ولعدم التشاور معها بشأن هذه الزيارة على النحو الكافي.
وقد تأجل عقد المؤتمر عدة مرات بسبب الخلاف بين الأطراف المعنية حول العديد من القضايا الإجرائية والموضوعية. فقد أعلنت جيبوتي انسحابها من اللجنة الفنية المسئولة عن الإعداد للمؤتمر لعدة اعتبارات، منها ضرورة اعتماد مقررات مؤتمر عرتا كأساس للمصالحة. كما برز رأيان متناقضان بشأن المشاركة في المؤتمر، فبينما أصرت الحكومة الانتقالية الصومالية وجيبوتي على الاستفادة من نتائج مؤتمر عرتا وعلى قبول الحكومة الوطنية الصومالية بوصفها الحكومة، على أن تشارك الأطراف الصومالية الأخرى في المؤتمر بوصفها معارضة، رأى مجلس الإصلاح وإعادة البناء الصومالي وإثيوبيا أن تشارك الأطراف الصومالية على قدم المساواة. وتبنت جيبوتي الرؤية العربية التي ترى ضرورة تمثيل الحكومة الانتقالية الصومالية بوصفها الأول بين المتساوين First among equals وليس بوصفها مجرد فصيل من القبائل المتصارعة. ومن ثم قررت جيبوتي الانسحاب من اللجنة الفنية. وعلى الرغم من الحساسية الشديدة لدى إثيوبيا تجاه البعد العربى، فقد عبر الجانب الإثيوبي بعد مباحثات مع عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية في 24 يونيو 2002، بأديس أبابا، عن ترحيبه ودعمه لطلب الجامعة العربية المشاركة في المؤتمر، باعتبار أن دور الجامعة يعتبر أساسيا في حل الأزمة الصومالية. وقد قام الموقف العربي على رفض تفتيت الصومال إلى كيانات ودويلات، والإصرار على وحدته الترابية وسيادته الوطنية، وهذا ما أكده اجتماع لجنة الصومال في 3 سبتمبر 2002 على مستوى وزراء الخارجية (وتضم الأردن، تونس، الجزائر، جيبوتي، السعودية، السودان، الصومال، سلطنة عمان، مصر، اليمن، والجماهيرية الليبية) برئاسة الأمين العام للجامعة.( ) وفي هذا الإطار، اضطرت اللجنة الفنية إلى تدارك هذه الأزمة، حيث وجهت الدعوة للأمانة العامة للجامعة العربية لحضور المؤتمر بصفة مراقب.
وللحفاظ على قوة الدفع الإقليمية والدولية، قررت وزارة الخارجية الكينية تأجيل مؤتمر المصالحة إلى 15 أكتوبر 2002، لأسباب لوجستية ولإجراء المزيد من المشاورات مع زعماء الحرب والقبائل والعشائر والفصائل والكيانات التي أعلنت استقلالها من طرف واحد، بما يضمن توفير البيئة الملائمة لنجاح المؤتمر وضمان تمثيل أكبر عدد ممكن من القوى والفصائل الصومالية. وقد عقد المؤتمر بالفعل في الفترة من (15ـ27) أكتوبر 2002، برعاية الإيجاد وبدعم من منظمات إقليمية ودولية، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومنتدى شركاء الإيجاد للدول المانحة، وسط تحديات جمة، وتحت شعار لا مكان للفشل، وفي ظل إدراك الفصائل الصومالية بأن المؤتمر يشكل الفرصة الأخيرة لإجراء تسوية حقيقية للأزمة الصومالية، بالإضافة إلى إدراك الحكومة الانتقالية الصومالية بأن وحدة الصومال ووحدة الشعب الصومالي ومصلحة البلاد أهم من قضية الحكومة المؤقتة نفسها، وبالتالي إبداء الاستعداد لفتح حوار جاد ومعمق مع الأطراف الأخرى للوصول إلى المصلحة الوطنية العليا.
وقد كانت هناك عوامل عديدة مهمة وراء نمو هذا الإدراك. كان أهمها ما يلي:
1- قدرة الحكومة الانتقالية الصومالية على التواجد والاستمرار، فعلى الرغم من التحديات السابقة التي واجهت الحكومة الانتقالية الصومالية إلا أنها استطاعت الاحتفاظ بالاعتراف الدولي واستعادة مكانة الصومال في المحافل والمؤسسات التمثيلية الدولية والإقليمية، على الرغم من ضآلة حجم مناطق السيادة المتوافرة لها، واستمرار الدويلات والكيانات المستقلة والتي شكلت خصما من قدرتها على بسط سيطرتها على الأقاليم الصومالية. ناهيك عن تواجد معارضة مسلحة مناوئة تستنزف قدراتها وإمكانياتها المحدودة، وتدنى مستوى الدعم الإقليمي والدولي، المادي والسياسي لها. إضافة إلى تواجد نزعات قبلية، وحروب واشتباكات بين الأفراد والقبائل بسبب موجة الجفاف التي تعرض لها الصومال وما ارتبط بها من نمو النزاعات القبلية على الأراضي والمراعي.
فعلى الرغم من مجمل هذه المعطيات، سعت الحكومة الانتقالية إلى اختراق جبهة المعارضة المسلحة المناوئة لها، وحققت بعضًا من النتائج دون الوصول إلى مرحلة التراضي والتوافق العام. ففي أوائل يوليو 2002، تمكنت هذه الحكومة من التوصل إلى اتفاق مع جامع على جامع ـ وقت أن كان رئيسًا لبونت لاند، وبرعاية جيبوتي- بشأن التعاون بين الجانبين في مختلف المجالات، ونيل موافقته على حضور مؤتمر المصالحة الوطنية، وتوقيع اتفاق مع بعض أعضاء مجلس الإصلاح وإعادة البناء الصومالي في مدينة تاكورو بكينيا( )، مكرسة بذلك مزيدًا من الانشقاقات في مجلس الإصلاح وإعادة البناء. من زاوية أخرى، حرصت الحكومة على تفعيل مؤسساتها خاصة البرلمان (الجمعية الوطنية) الذي قرر إقصاء حكومة جلير في نوفمبر 2001 وتشكيل حكومة جديدة برئاسة حسن أبشر فارح في 16 فبراير 2002.
2- على الرغم من حالة العداء والاتهامات المتبادلة بين الحكومة الانتقالية الصومالية والجار الأكبر إثيوبيا، فإن العلاقات الثنائية بين البلدين قد شهدت تحولات مهمة، انطلاقا من أن أمن الصومال واستقراره هو استقرار لإثيوبيا ومنطقة القرن الإفريقي، وأن وجود حكومة مركزية قوية في الصومال قادرة على فرض سيطرتها على كل الأراضي الصومالية سيجعل إثيوبيا في مأمن من استغلال بعض المناطق الصومالية من قبل جماعات المعارضة المسلحة المناوئة لأديس أبابا. وكان أبرز مظاهر التطور في تلك العلاقات توصل الحكومة الانتقالية الصومالية إلى اتفاق مع إثيوبيا في يونيو 2001 نص على تعاون البلدين من أجل التوصل إلى اتفاق يهدف إلى إقرار السلام في الصومال وإثيوبيا، مهد الطريق لإمكانية حدوث تعاون في مجالات عدة مثل حل المليشيات وتعزيز السلام والأمن في عدد من المدن الصومالية. وبهذا الشأن، اقترحت الحكومة الانتقالية على إثيوبيا شراكة إستراتجية في مجالات أساسية، مثل الاقتصاد والأمن( ). وتطورت العلاقات خطوة مهمة بعد لقاء المصالحة الذي رعته الخرطوم في 11يناير 2002، بين رئيس الوزراء الإثيوبي، والرئيس الصومالي المؤقت، وإبداء الحكومة الإثيوبية والصومالية استعدادهما للحرب سويًا ضد كافة أشكال الإرهاب حتى لا تصبح الصومال هدفًا مباشرًا في الحرب على الإرهاب( ). كما لعبت الوساطة السودانية دورا مهما في هذا الإطار لتنقية الأجواء بين الجارتين في منطقة القرن الإفريقي. وبدوره، كشف الرئيس الصومالي عن وجود مفاوضات بين إثيوبيا والصومال لاحتواء الخلافات، وفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية عقب لقائه مع رئيس الوزراء الإثيوبي، على هامش القمة التأسيسية للاتحاد الإفريقي في ديربان بجنوب إفريقيا. أضف إلى ذلك سعي إثيوبيا إلى حصولها على دعم الحكومة الصومالية لشغل مقعد شرق إفريقيا في مجلس الأمن الإفريقي التابع للاتحاد الإفريقي( ).
وبالإضافة إلى إثيوبيا، فقد تزايدت مخاوف دول الجوار من عدوى انتقال عوامل الأزمة الصومالية إلى بعض أقاليمها التي تعيش، نسبيا، ظروف الصومال نفسها، مع عدم تخطى الخطوط الحمراء الخاصة بمصالح وأمن أطراف الجوار الجغرافي والإقليمي. وفى السياق ذاته، أعلنت إرتيريا وجيبوتي التنسيق بينهما على كل المستويات في الشأن الصومالي، وتأييد الحكومة الانتقالية ودعم العملية السلمية في الصومال لتحقيق الوحدة والاستقرار بين جميع الفصائل الصومالية، كما وقعت إثيوبيا وارتيريا اتفاقا من شأنه إضعاف موقف الجنرال حسين عيديد. ومن جانبها، أيدت جيبوتي تأسيس شرعية صومالية جديدة، وأن تثبيت هذه الشرعية على الصعيد الإقليمي والمحلى والدولي هو محور التحديات.
3- طبيعة المزاج الشعبي العام في الصومال، وإدراك الشعب الصومالي أنه لن يكون هناك حل للأزمة الصومالية من خلال الأدوات العسكرية، وعدم قدرة أي من أطراف اللعبة الصومالية على حسم الأزمة الصومالية بقوة السلاح. إضافة إلى تزايد قتامة ولا إنسانية الأوضاع الداخلية فىالبلاد، بفعل منطق أمراء الحرب الذين تجاوزت أطماعهم حدود العقلانية ومنطق التاريخ على حساب موت الملايين، فبالإضافة إلى وفاة ما يزيد على مليون مواطن نتيجة الحرب الأهلية، فقد شهدت الأوضاع الإنسانية والمعيشية تدهورا شديدا بعد أن بلغ معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة طفلا من بين كل خمسة أطفال، وتدهور متوسط العمر المتوقع عند الميلاد إلى ما يزيد قليلا عن 40 عاما، ومعاناة 780 ألفا من نقص الغذاء، وغيرها من المؤشرات التي تعكس خطورة الوضع الإنساني في الصومال( ).
4- تحول موازين القوى على الساحة الصومالية، فغالبية الفصائل الصومالية المسلحة تعانى أوجهًا مختلفة من المشاكل. بعضها يواجه عزلة تامة، والبعض الآخر يواجه نقصًا حادا في مصادر التمويل والتسليح، والبعض الثالث تلقى هزائم عسكرية جعلته أكثر مرونة. كما تدهورت قوة تأثير أمراء الحرب حتى في داخل فصائلهم التي شهد الكثير منها انشقاقات داخلية. ناهيك عن أن الانفراج في علاقات الحكومة الصومالية الانتقالية مع دول الجوار فرض تأثيراته على وضعية الفصائل الصومالية المسلحة المعارضة، كما كشف عن مسئولية تلك الفصائل عن انهيار الدولة وتأخر تحقيق المصالحة الوطنية.
5- تزايد القناعة الدولية بأهمية إعادة بناء الدولة الصومالية وتحقيق المصالحة الوطنية انطلاقا من أن غياب الدولة المركزية القوية القادرة على بسط نفوذها على كافة الأقاليم الصومالية يزيد من فرص تحول الصومال إلى ملاذ آمن لفلول شبكة القاعدة وجماعات العنف السياسي، بما في ذلك جماعات المعارضة السياسية المسلحة داخل دول الجوار، وتهديد أمن واستقرار القرن الإفريقي. ومن هنا تتضح أهمية قرار البرلمان الصومالي الانتقالي في أوائل يوليو 2002 الموافقة على قرار الحكومة الصومالية الخاص بمناشدة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي إرسال قوات دولية لإحلال السلام في البلاد، على الرغم مما أثاره القرار من ردود فعل داخلية، خاصة أن الشعب الصومالي يرفض أي نوع من الوصاية الدولية، أو التدخل الدولي في شئونه، كما عكسته خبرة عملية استعادة الأمل في عام 1993، ثم خروج القوات الأمريكية في عام 1994، تلتها القوات الدولية عام 1995.( )
وفى هذا السياق، جدد مجلس الأمن الدولي التزامه بإيجاد تسوية شاملة ودائمة للوضع في الصومال بما يتفق ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، واضعًا في اعتباره احترام سيادة الصومال وسلامته الإقليمية واستقلاله السياسي ووحدته الترابية. وأعاد تكرار تأييده لنتائج مؤتمر عرتا للسلام ولإنشاء الجمعية الوطنية (البرلمان) والحكومة الانتقالية، ومؤكدًا أن مؤتمر عرتا سيظل أفضل الأسس العملية لتحقيق السلام والمصالحة الوطنية. وحث المجلس الحكومة الصومالية الانتقالية والفصائل والزعماء السياسيين والقيادات القبلية والعشائرية في البلاد على بذل كل جهد ممكن من أجل تحقيق السلام والمصالحة دون شروط مسبقة، من خلال الحوار بين جميع الأطراف ذات الصلة، والدعوة للمساعدة في تسريح أفراد المليشيات، وتدريب شرطة الحكومة الانتقالية، ودعوة المانحين إلى تقديم مساهمات مالية لصندوق الإنماء لبناء السلام في الصومال، وتنشيط مكتب الأمم المتحدة السياسي لشئون الصومال، وتعزيز المساعدة الإنسانية والإنمائية. وفي هذا السياق، وصل وفد من الأمم المتحدة في منتصف يناير 2002 إلى الصومال، بهدف مسح الحالة الأمنية، بناءً على توصية اتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإعداد تقرير يرفع لمجلس الأمن الدولي يتم في ضوئه تدارس إمكان إعادة منظمات الأمم المتحدة إلى الصومال بعد انسحابها في عـام 1995( ). ومن زاوية أخرى، أكد مجلس الأمن تصميمه على وضع نظام صارم لمراقبة حظر تدفق الأسلحة. ولهذا الغرض، شكل الأمين العام للأمم المتحدة لجنة ثلاثية لتنفيذ هذا القرار( )، والحيلولة دون تدفق الأسلحة إلى الصومال. ومن ناحيتها، تراجعت الولايات المتحدة عن قرار سابق بعدم تأييد الحكومة الانتقالية في مقديشو بعد أحداث 11سبتمبر 2001، وعن طرح مشروع الدويلات في الصومال( ). كما أعرب الاتحاد الأوربي عن التزامه بالمصالحة الوطنية بالصومال، لاسيما بعد زيارة سابقة قام بها وفد من ترويكا الاتحاد إلى مقديشو وهرغسيا وبيداوة وجاروا، والدعوة إلى حوار بناء ينتهي إلى إعادة بناء الدولة الصومالية، ودعم مقررات قمة الإيجاد، واندماج المنطقتين الشماليتين بالصومال في حكومة وحدة وطنية، وأن ذلك يتطلب مزيدًا من العمل للوصول إلى التوافق بين جميع الأطراف، بما في ذلك اعتراف الحكومة الانتقالية بواقع جمهورية أرض الصومال و بونت لاند ككيانات سياسية.( ) كما شرعت إيطاليا في مارس 2002 والتي ترأست مجموعة الدول المانحة لدول القرن الإفريقي في عقد لقاءات مع عدد من قادة الفصائل الصومالية المعارضة، خاصة وفد المجلس الصومالي للإصلاح وإعادة البناء، والذي ضم زعماء حرب برئاسة الجنرال حسين عيديد، في روما في 28 مارس 2002، بهدف إيجاد القواسم المشتركة لتوفير الأجواء الملائمة لتحقيق مصالحة صومالية، وبتعاون وثيق مع الرئيس الكيني دانييل آرب موى الذي كلفته قمة الإيجاد بالإشراف على عقد اجتماع بالعاصمة نيروبي نهاية إبريل 2002، للبحث في المسألة الصومالية. وحددت إيطاليا طبيعة وصفة تمثيل الفصائل انطلاقا من قدرة هذه الفصائل وزعاماتها في بسط سيطرتها على المناطق الصومالية، بالاتفاق مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في سياق تحديد منّْ سيشارك في هذا المؤتمـر( ).
مؤتمر نيروبي/ الدوريت: النتائج والإشكاليات
اتسمت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر في 15 أكتوبر 2002 بكثافة الحضور والتمثيل، لاسيما مشاركة رؤساء كينيا وأوغندا والسودان، وعديد من وزراء الخارجية الأفارقة، وممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، بالإضافة إلى السفير الأمريكي في كينيا. كما بلغ عدد المندوبين الصوماليين 450 مندوبا، يمثلون أطراف النزاع الصومالي رغم أن اللجنة الفنية كانت قد وجهت الدعوة إلى 300 مندوب فقط. كما قرر أربعة من زعماء الفصائل الصومالية الرئيسية بعد الجلسة الافتتاحية للمؤتمر إلغاء مقاطعتهم للمؤتمر والمشاركة في أعماله اعتبارا من 17 أكتوبر. وقد ركز المؤتمر على مناقشة سبل وقف العنف وإنهاء الحرب الأهلية، وتشكيل حكومة موسعة تضم كل أطراف النزاع، وإعادة بناء الاقتصاد الوطني الذي دمرته الحرب، وتدارس إمكانية التوافق على نظام لا مركزي في الصومال يعطى الأقاليم سلطات محلية واسعة بهدف احتواء النزعات الانفصالية والحفاظ على الوحدة الصومالية.
وصادف المؤتمر في أيامه الأولى عدة صعوبات نتيجة تباين وجهات النظر بخصوص طبيعة وصفة ونسبة التمثيل. فمن ناحية، أثارت الفصائل المعارضة مسألة عدم المساواة في عدد ممثلي الفصائل في المؤتمر. كما ألقت الخلافات والصراعات الداخلية داخل أروقة الفصائل بظلالها على المؤتمر. وعلى سبيل المثال، برز الخلاف داخل جيش رحانوين للمقاومة بين جناحيه المتنافسين، حيث أكد الموالون للشيخ آدم مدهوب ومحمد إبراهيم حبساد عدم المشاركة في المؤتمر ما لم يمنحوا كافة المقاعد المخصصة لجيش الرحانوين للمقاومة، خاصة أن اللجنة الفنية خصصت 28 مقعدًا في المؤتمر لهذه الجبهة مناصفة للفريقين المتنافسين. كما أصر مجلس الإصلاح وإعادة البناء الصومالي على البدء من نقطة الصفر بدلاً من البناء على ما تحقق من إنجازات في مؤتمر عرتا للسلام. كما امتنع بعض زعماء الفصائل عن توقيع وثيقة تضم 22 بندًا تشمل جدول الأعمال المطروح وكيفية سير أعمال المؤتمر.
وإزاء تلك الخلافات، أجرت اللجنة الفنية محادثات إضافية مكثفة مع الوفود المشاركة لإيجاد مخرج لتلك الإشكاليات، لاسيما مسألة الموقف من الصفة التمثيلية لوفد الحكومة الصومالية الانتقالية، وموقف زعماء الفصائل المعارضة من مشاركته كوفد حكومي. وقد نجح المؤتمر في ضوء هذا الزخم في حمل أكثر من 30 فصيلاً صوماليا والحكومة الانتقالية على تجاوز أبرز عقبة بالاتفاق على مشاركة الحكومة الانتقالية بصفتها، ممثلة برئيس الوزراء حسن أبشر فارح، في مقابل تمثيل كل الكيانات التي تأسست في مختلف الأقاليم الصومالية بصفتها كيانات أمر واقع، الأمر الذي يعني اعترافا متبادلا بين تلك الأطراف، حكومة وفصائل وكيانات.( )
وانتهت الجلسة الختامية للمرحلة الأولى من المؤتمر في 27 أكتوبر 2002 إلى التوقيع والتوافق بين الأطراف الصومالية على إعلان مبادئ للمصالحة الوطنية، والذي تضمنت ديباجته عدة مبادئ وثوابت أساسية، منها تأكيد الرغبة المشتركة للموقعين في احترام إرادة وتطلعات الشعب الصومالي إلى السلام، ووضع حد لتفاقم فقر هذا الشعب وسوء أحواله المعيشية والحياتية، والتأكيد على توافر الإرادة السياسية لإنهاء النزاع المستمر في البلاد، وإيلاء تنمية الأمن الإقليمي للصومال وجيرانها مكانة رئيسية، والترحيب بالتزام الجماعة الدولية باحترام السيادة الإقليمية والاستقلال السياسي ووحدة الصومال، وتثمين الدور الذي تلعبه الإيجاد في هذه العملية، خاصة إثيوبيا وجيبوتي وكينيا، وتوظيف قوة دفع الجماعة الدولية والإقليمية في إنجاز المصالحة الوطنية الصومالية، وتقدير الدور الذي تجسده السلطات الصومالية ومسئولياتها الأساسية. وعليه، انتهت إرادة الفرقاء كافة إلى التفاهمات التالية:
1- التوافق على ضرورة إنشاء هياكل فيدرالية في الصومال، وإقرار مبدأ اللامركزية، وإقرار ميثاق أو دستور يجسد أوسع تمثيل ممكن، وموافقة كافة الأطراف على ضمان حقوق وتمثيل وحماية كل المواطنين والجماعات الصومالية. إضافة إلى وقف الأعمال العدائية، ابتداء من 27 أكتوبر 2002، واستمرار هذا الوضع خلال مراحل عملية السلام، ونبذ العنف، واستخدام الوسائل السلمية لتسوية النزاعات بين الجماعات السياسية والمسلحة والفصائل الأخرى.
2- التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 733 لسنة 1992 الخاص بحظر تصدير السلاح إلى الصومال.
3- ضمان وتأمين وصول الإمدادات والمساعدات الإنسانية للشعب الصومالي، وضمان أمن وسلامة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية العاملة في هذا المجال.
4- الالتزام بتنفيذ النتائج والقرارات التي ستصدر عن مؤتمر المصالحة.
5- الإعلان المشترك عن مكافحة كافة صور وأشكال الإرهاب، والتعاون مع المجتمع الدولي لهذا الغرض، طبقًا لقرار الأمم المتحدة 1373 لسنة 2002، ومنع استخدام الأراضي الصومالية كقواعد للأنشطة الإرهابية.
6- دعوة الإيجاد والاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي لمساندة ومتابعة ومراقبة تنفيذ بنود الاتفاق، ولتأمين إنشاء آلية تضمن وصول المساعدات الإنسانية.
وقد شكل الاتفاق خطوة مهمة على صعيد استمرار عملية المصالحة الوطنية الشاملة، وهو ما شكل تطورا غير مسبوق، لاسيما في مرحلته الأولى والتي تستهدف تحقيق الوفاق الوطني، وتنشيط الجهود السلمية عبر مزيد من المفاوضات لتشكيل حكومة فيدرالية موسعة في مرحلة لاحقة، وتشكيل لجنة فنية يناط بها وضع جدول أعمال للمراحل التالية من محادثات السلام، وأخرى لصوغ الدستور، وثالثة لبرنامج نزع السلاح.
وفيما يتعلق بموقف دول الجوار الإقليمي من المؤتمر، يلاحظ الموقف الإيجابي لإثيوبيا من نتائج المؤتمر بالمقارنة بمؤتمر عرتا، إذ أعربت إثيوبيا عن الترحيب بنتائج الجولة الأولى للمصالحة الصومالية كخطوة إيجابية لإحلال السلام والأمن في الصومال، وأبدت عزمها ضمان عدم فشل قوة الدفع والتفاؤل المتولد عن عملية نيروبي( ). وثمة ملاحظة مهمة تتعلق بعدم ورود اسم الجامعة العربية ضمن الجهات التي سوف تتابع تنفيذ الاتفاق. الأمر الذي يعكس ضرورة التحرك العربي لتفعيل دور الجامعة العربية في المراحل اللاحقة، باعتبار أن الصومال عضو في الجامعة العربية، مثلما هو عضو في الإيجاد والاتحاد الأفريقي. ومن الوسائل المقترحة في هذا السياق، إعادة فتح مكتب الجامعة العربية في نيروبي باعتبارها مركز تداول قضيتي السودان والصومال، وإعادة فتح كافة السفارات العربية في الصومال، ورفع الحظر المفروض على تصدير الماشية الصومالية إلى الأسواق العربية، وتفعيل مساهمة المنظمات غير الحكومية العربية في تقديم الدعم الإنساني للصومال. بالإضافة إلى التنفيذ الفعلي لمقررات قمتي عمان وبيروت بخصوص الدعم المالي لإعادة الأمن والاستقرار على أن يتم توزيع المساعدات العربية في جميع مناطق الصومال، وبصورة متوازنة.
بيد أن الأمور لم تدم في مجراها الطبيعي، فعلى الرغم من موجة التفاؤل، فقد اتصفت الهدنة المقررة بوضعية هشة، بعد قائمة طويلة من الخروقات، بدأت عقب توقيع إعلانها، مما دفع بوزير الخارجية الكيني، كالونزو موسيوكا، بعد اجتماع مع وزيري خارجية إثيوبيا وجيبوتي، للإعلان عن أن وسطاء في النزاع الصومالي اتفقوا على بدء مراقبة هذه الهدنة ومعاقبة المخالفين، وأن البلدان الثلاثة - إثيوبيا وجيبوتي وكينيا- ستراقب الهدنة مع شركاء آخرين من أفريقيا والمجتمع الدولي، لكن لم يتضح ما هو الشكل الذي ستأخذه عملية المراقبة وما هي العقوبات التي يمكن تطبيقها.( )
وفي خطوة عملية لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، تم تشكيل ست لجان لوضع تصور للبلاد خلال مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، وهذه اللجان هي: لجنة الدستور والفيدرالية، لجنة نزع السلاح وتأهيل المليشيات، لجنة الاقتصاد وإعادة الإعمار، لجنة التعاون الدولي والإقليمي، لجنة المصالحة وحل الخلافات والنزاع حول ملكية الأراضي، لجنة زعماء الفصائل. ولضمان سير هذه اللجان أوفدت الدول والمنظمات المعنية بالأزمة، وفدًا من الخبراء للمساهمة في صياغة الدستور والهياكل المؤسسية لمرحلة ما بعد المصالحة، وتنسيق أنشطة اللجان المختلفة.
وقد بدأت الخلافات تدب كالعادة خلال الجولة الثانية التي بدأت في 3 ديسمبر2002، وتوقفت قبل نهاية العام نفسه. ومرة أخرى استؤنفت الجولة الثالثة من المحادثات في 10 يناير2003. وقد تمثلت أبرز القضايا الخلافية خلال مراحل المحادثات الثلاث فيما يلي:
1- محاولة قادة الفصائل المشاركة تهميش دور منظمات المجتمع المدني التي كانت إحدى الدعائم الأساسية في مفاوضات عرتا. ويرجع ذلك لرغبة قادة الفصائل في الحصول على نسب أكبر من مقاعد التمثيل في المؤتمر، بعد ما أعلن - من قبل كينيا والدول الراعية- عن الرغبة في تقليل عدد المشاركين بسبب تكاليف الإقامة، ولكن استبعاد هؤلاء كان يعني أن المصالحة لن تتم على مستوى وطني بقدر ما تتم على مستوى قبلي، حيث تصبح القبيلة معيار الولاء والانتماء؛ وهو ما يؤدي إلى إمكانية حدوث التفتت من جديد. ولعلّ ما تم التوصل إليه في 20 ديسمبر 2002، بشأن نسب التمثيل، خير دليل على ذلك، حيث استأثرت القبائل الأربع الكبرى (الدر، الدارود، الهاويه، الديجيل- ميرايفلي) بـ 53 مقعدًا لكل منها، بينما حصل تجمع القبائل الصغيرة على 26 مقعدًا، وفي المقابل حازت الحكومة على 46 مقعدًا، في حين تم تخصيص 11 مقعدًا فقط لمنظمات المجتمع المدني، و 5 مقاعد للنساء.
2- عدم تمكن اللجان الست من أداء عملها، وذلك بسبب الخلاف حول نسب التمثيل داخل هذه اللجان، حيث يفسر عدم مشاركة فصيل ما في أي من تلك اللجان على أنه استبعاد وتهميش.
3- استمرار انسحاب بعض الفصائل أثناء المفاوضات. ولعلّ هذا يُعَدّ مؤشرًا خطيرًا يهدد جهود المصالحة مستقبلاً، حيث إن التوصل لأي قرار في عملية المصالحة قد لا يكون ملزمًا لهذه الفصائل بدعوى أنها لم تشارك في اتخاذه، وهو ما حدث أثناء تجربة مؤتمر عرتا الذي لم يشارك فيها حسين عيديد، ومن ثَم لم يعترف بالرئيس عبد القاسم صلاد حسن وحكومته الانتقالية، ومن ثم طالب ببدء المفاوضات من نقطة الصفر. وهكذا، يتكرر المشهد مرة أخرى، فقد انسحب الرئيس السابق علي مهدي محمد من الجولة الأولى من المؤتمر، وموسى سودي يلحو - رئيس جناح المؤتمر الصومالي الموحّد- الذي يسيطر على أجزاء من العاصمة، وبرى هبرلي زعيم ائتلاف وادي جوبا الذي يسيطر على محافظتي جوبا السفلى والوسطى، احتجاجا على التدخل الإثيوبي.
4- مشكلة نزع سلاح المليشيات وعدم التوصل إلى اتفاق محدد بشأن تلك المعضلة، والتي ترتبط أي محاولة لمواجهتها بتوافر التمويل اللازم.
5- غياب الآليات اللازمة لتنفيذ الاتفاق، فقد تعرض اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه لعدة خروقات من جانب مختلف الفصائل. ولم يتم تطبيق أي من العقوبات عليها، الأمر الذي يجعل من السهل عليها عدم تنفيذ أي اتفاق لا يروق للفصائل.
6- إصرار جمهورية أرض الصومال على رفض الانضمام لجهود المصالحة الوطنية، وإصرارها على تأكيد وضعها السياسي من خلال آليات عديدة، كان أبرزها تنظيم انتخابات رئاسية في مارس 2003.
وترتبط بالقضايا الشائكة السابقة مشكلات أخرى لا تقل أهمية، وهي تلك المتعلقة بشكل نظام الحكم والأشخاص الذين سيتولون زمام الأمور. وزاد من تصعيد وتعقيد الوضع إعلان الحكومة الصومالية المؤقتة في 25 فبراير 2003 انسحابها من المفاوضات بسبب عدم جديتها، وانحياز إثيوبيا لبعض الفصائل الموالية لها. وحدّدت الحكومة عدة شروط للعودة لمائدة التفاوض، كان أبرزها وضع اللمسات النهائية لقائمة المشاركين فيها ونسب تمثيلهم، ووضع سقف زمني للمحادثات، فضلاً عن المطالبة بأن تكون كينيا - التي تستضيف المحادثات- هي الوسيط الوحيد في هذا الشأن، واستبعاد إثيوبيا. هذا الموقف لم يقتصر على الحكومة الصومالية الانتقالية فقط، فقد انسحب قبلها بيومين فقط ائتلاف وادي جوبا احتجاجًا على الدعم الإثيوبي لبعض الفصائل.
وفي تطور مهم أعلن القادة المشاركون في المفاوضات عن الحصول على خطة حكومية -حسب زعمهم- تتضمن وضع تصور لشكل الحكم، نصّت على إقامة نظام حكم رئاسي يتكون من رئيس وأربعة نواب، وتشكيل حكومة ولجنة مركزية تمثل فيها جميع الفصائل، فضلاً عن تأسيس برلمان معين يمثل جميع هذه الفصائل خلال فترة انتقالية مدتها أربع سنوات، يتم بعدها إجراء انتخابات حرة. لكن هذه الخطة حظيت بمعارضة شديدة خاصة من حسين عيديد - رئيس التحالف الوطني المعارض- الذي أكّد أن تولي شخص بمفرده مقاليد الحكم في البلاد أسلوب ثبت فشله، في إشارة إلى انتخابات علي مهدي محمد عقب الإطاحة بسياد برى، وعبد القاسم صلاد حسن في أعقاب مؤتمر عرتا. واقترح إقامة مجلس حكم يضم جميع قادة الفصائل، تكون رئاسته بالتناوب.( )
وفى تطور لاحق اتفق الزعماء الصوماليون المشاركون في المفاوضات في 5/7/2003 على مبدأ تشكيل حكومة فيدرالية انتقالية تتولى إدارة شئون البلاد لمدة أربع سنوات، وبرلمان انتقالي يضم 351 مقعدا، للمدة ذاتها.( ) واتفقت الأطراف على أن يتم اختيار أعضاء البرلمان عن طريق القادة السياسيين الذين وقعوا اتفاق السلام، والذي يمهد الطريق لإقامة حكومة ونظام اتحادي لإعادة توحيد الصومال في ظل رئيس ينتخبه البرلمان. كما سيختار رئيس الدولة رئيس وزراء لما سيعرف باسم الحكومة الاتحادية الانتقالية لجمهورية الصومال.( ) وطبقاً لنص الدستور الصومالي الجديد الذي وافق عليه كافة الفرقاء الصوماليين، بعد مداولات شاقة، يتم تمثيل كل قبيلة من القبائل الأربع الكبرى (الدر، الدارود، الهاويه، الديجيل- ميرايفلي) التي تهيمن منذ عقود على الحياة السياسية الصومالية بـ 78 مقعداً، بينما يحصل تحالف القبائل الصغيرة على 39 مقعداً فقط. ووفقا للدستور الانتقالي، يحق للبرلمان الصومالي المرتقب تغيير الحكومة الصومالية إذا ما أخفقت في تسيير شئون البلاد، بعد عامين ونصف فقط من توليها، ودون انتظار اكتمال مدتها القانونية والمقررة بأربع سنوات. كما نص الدستور على تخصيص 12% من إجمالي مقاعد البرلمان للمرأة الصومالية، لأول مرة في تاريخ الصومال، بالإضافة إلى تخصيص وزارة جديدة تعنى بشئون الفيدرالية والدستور لحسم أي خلافات تظهر مستقبلاً، علماً بأن رئيس الحكومة الانتقالية سيكون له ثلاثة نواب فقط، على ألا يزيد عدد الطاقم الوزاري الجديد على 30 وزيراً لتخفيض وترشيد النفقات والقضاء على البيروقراطية والفساد. وطبقاً للدستور فإن اللغة الصومالية تكون هي اللغة الرسمية الأولى، تليها العربية والإنجليزية، كما يحق للمواطن الصومالي الاحتفاظ بجنسية أي دولة أخرى إلى جانب جنسيته الأصلية.
واعترف الدستور الجديد بحكومتي أرض الصومال وبونت لاند، كما أضفى شرعية على بعض الإدارات المحلية المنتشرة في بعض المحافظات الصومالية البالغ عددها 18 محافظة. كما منح الدستور صلاحيات واسعة للإدارات المحلية في إطار الدولة الفيدرالية الموحدة وبما لا يتعارض مع مصالح الصومال وأمنه وسلامته الإقليمية، كما سمح لها بسن التشريعات المحلية التي لا تتعارض مع الدستور الجديد. ولم يشهد الدستور أي تغيير يذكر بخصوص الهوية الإسلامية للبلاد كما استمر شكل ولون العلم الوطني الصومالي كما هو.
لكن الرئيس صلاد، والذي كان من المقرر أن تنتهي فترة رئاسته في 13 أغسطس 2003، تمسك بالسلطة، وقام بتشكل حكومة جديدة برئاسة محمد عبدى يوسف قبل يوم واحد من انتهاء ولايته، وتعيين برلمان جديد صادق على تجديد ولايته لفترة ثلاث سنوات، بعد أن رفض البرلمان القائم فكرة التجديد. كما رفض الرئيس الصومالي الاتفاق السابق واعتبره غير مقبول من جانب الحكومة الوطنية الانتقالية بدعوى أنه ينسف وحدة الصومال، وأنه يقسم الصوماليين أكثر مما يوحدهم.( ) مؤكداً أن الميثاق الجديد يتضمن سلبيات عديدة خاصة فيما يتعلق بالثقافة وباللغة الصومالية. يذكر أن هناك عدة نقاط بمشروع الدستور التي اعترض عليها صلاد، خاصة الأخذ بالنظام الفيدرالي، وتسمية الحكومة بالحكومة الفيدرالية، وعدم دعوة عشائر صومالي لاند إلى المؤتمر مما يشجعهم على الانفصال. كما رأى أن عدد أعضاء البرلمان يجب ألا يتعدى 300 عضو، وأصر صلاد على أن تكون اللغتان العربية والصومالية هما اللغتين الرسميتين حفاظاً على وحدة الصومال. إلا أن رئيس وزرائه حسن أبشر قام بالتوقيع على الاتفاق، مما أدى إلى تصاعد حدة الخلافات بينهما، ولم تنجح جهود الوساطة في إنهاء الخلافات حول مشروع الدستور( ).
وشهدت محادثات السلام الصومالية في 2/10/2003 عقبات جديدة بعد انسحاب مجموعة من قادة الفصائل ذوي النفوذ وتشكيلهم تجمعا منافسا عرف بالتحالف الوطني لإنقاذ الصومال، والإعلان عن نيتها تنظيم مؤتمر سلام بديل. بالإضافة إلى الخلاف بين القوى الإقليمية، حيث أعلنت جيبوتي أنها ستنسحب من دور الوسيط، وتزايدت الخلافات بين إثيوبيا ودول عربية أخرى، مثل مصر، التي تراودها المخاوف من تزايد النفوذ الإثيوبي في الصومال.( ) وانتقدت جيبوتي في 20/10/2003 الوساطة الإقليمية في محادثات سلام الصومال، ودعت إلى توسيع المشاركة الدولية، وطالبت بإحالة القضية الصومالية إلى دولة أخرى أو إلى المجتمع الدولي عموما.( ) وبدأ في 28/10/2003 في نيروبي الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية الإيجاد، المخصص لبحث مستقبل المصالحة الصومالية ومراجعة مبادرة السلام الصومالية التي أطلقتها الإيجاد، في الوقت الذي بدأت فيه ليبيا اتصالات مع عدد من الأطراف الصومالية الرئيسية، فيما بدا أنه مبادرة ليبية جديدة بشأن الصومال. وكانت قمة الإيجاد الدورية التي عقدت في كمبالا في يومي 24، 25/10/2003 قد دعت لعقد اجتماع طارئ لمجلس وزراء خارجية دول الإيجاد في نيروبي التي تستضيف مفاوضات السلام الصومالية لتقييمها وإعطاء دفعة جديدة لهذه المفاوضات. وقد تبنت منظمة الإيجاد مقترحا تقدم به الرئيس الصومالي المؤقت يقضي بتوسيع اللجنة الفنية المنظمة لمؤتمر المصالحة الصومالي لتشمل بقية دول المنظمة السبع بدلا من دول الجوار الثلاث (إثيوبيا، كينيا، جيبوتي)، متهماً اللجنة الفنية بالتلاعب في أجندة المؤتمر ونتائجه، مشيرا إلى التزام حكومته بالسلام والمصالحة، لكنه طالب بمشاركة مباشرة وأوسع من دول الإيجاد الأخرى في إدارة المؤتمر بدلا من اللجنة الثلاثية، وهو ما تم بالفعل.
وفى هذه الأثناء وجهت ليبيا دعوة رسمية للحكومة الصومالية الانتقالية بجانب عدد كبير من قادة المعارضة الصوماليين، وفي مقدمتهم تحالف المجلس الوطني لإنقاذ الصومال الذي أعلن عن ميلاده في 30 سبتمبر 2003 بقيادة موسي سودي يلحو، وكوليباري أدان هيرالي قائد تحالف وادي جوبا، ومحمد إبراهيم قائد جيش الرحانويين. وقد أُعلن أن الهدف الأساسي للتحالف هو عقد مؤتمر سلام مواز لمؤتمر السلام الحالي المشبوه في كينيا. وقد مثل التحالف الجديد منافسا قويا لـمجلس المصالحة الصومالي المعارض.( )
وقد مثلت هذه الدعوة العلنية لاجتماع مجموعة من القادة الصوماليين والحكومة الانتقالية مؤشرا على نية ليبيا تعزيز دورها في عملية المصالحة الصومالية، حيث يحتفظ البلدان مصر وليبيا بسفارتين في مقديشو تعمل فيهما بعثات دبلوماسية مقيمة، وهما السفارتان العربيتان الوحيدتان اللتان ظلتا مفتوحتين منذ انهيار الحكومة المركزية في الصومال في عام 1991. كما تعتبر مصر وليبيا من أكبر الداعمين للحكومة الانتقالية بقيادة عبد القاسم صلاد، حيث دفعت ليبيا مبلغ 15 مليون دولار أمريكي لمساعدة الحكومة على دفع مرتبات الشرطة والموظفين، كما قدمت مصر مساعدات عينية للحكومة من بينها توفير البزات العسكرية للجيش والشرطة وتقديم التدريبات العسكرية، بالإضافة إلى كميات ضخمة من الأدوية والمواد الغذائية.( )
كذلك برز الخلاف حول المادة 30 من الدستور الانتقالي المؤقت، الذي تمت الموافقة عليه في 29 يناير 2004. وفى 13 مارس 2004، عقدت الايجاد اجتماعاً في نيروبي لوضع اللمسات الأخيرة على جدول أعمال مفاوضات السلام الصومالية، عشية بدء الجولة الثالثة من المفاوضات، وسط خلافات حادة بين الأطراف الصومالية المشاركة، حيث أعلن عدد كبير من قادة الفصائل مقاطعتهم للمفاوضات بسبب ما وصفوه بتجاهل الوسطاء للملاحظات التي قدموها حول مسودة الميثاق الانتقالي، وتحذيرهم من أن فشل عملية السلام الحالية وارد إذا تم إقرار العمل بالميثاق، اعتبارا من 13 مارس 2004، من دون التوصل إلى حلول لكثير من النقاط الخلافية، لاسيما تلك المتعلقة باختيار أعضاء البرلمان. وتبدى ذلك واضحا في مطلع أبريل 2004، عندما اجتمع ممثلو المجتمع الدولي للحصول على موافقة زعماء العشائر على عدد وأسماء القيادات الصومالية التي سيكون لها حق اختيار أعضاء البرلمان الانتقالي، والذي سيقوم بدوره بانتخاب رئيس الجمهورية، ليتولى الأخير تعيين رئيس لحكومة انتقالية للإشراف على عملية إعادة الإعمار وقيادة البلاد، حتى يتم إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية عامة. وبرز الخلاف حول من يحق لهم اختيار أعضاء البرلمان، خاصة في ضوء دعوة زعماء العشائر للاجتماع، والذي اعتبر بمثابة التفاف على قيادات الفصائل الذين انسحبوا من المفاوضات واعترضوا على المادة 30 من الدستور المؤقت التي حددت 38 شخصية قيادية لها الحق في اختيار أعضاء البرلمان، بنسب متفق عليها، بهدف إرضاء جميع القبائل والعشائر. واعترض أعضاء في مجموعة مجلس المصالحة وإعادة الإعمار، الموالى لإثيوبيا، على زيادة عدد تلك الشخصيات من 24 إلى 38. وفى الوقت الذي طالب فيه رئيس الوزراء الصومالي الانتقالي بنقل المفاوضات إلى دولة أخرى غير منحازة، واقترح أن تكون أوغندا التي ترأس، وقتئذ، منظمة الايجاد، شرعت إثيوبيا في جهود حثيثة من أجل إقناع قادة الفصائل الصومالية بالعودة إلى مؤتمر نيروبي، بعدما سبق لهم الانسحاب منه نتيجة خلافاتهم.
وزاد من التعقيدات السابقة ضغوط الدول العربية المؤيدة لتمسك الرئيس الصومالي صلاد حسن بأهمية الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية للصومال، والتصدي لمحاولات إدخال بنود في الميثاق المؤقت تقلل من أهمية اللغة العربية ومكانة الدين في علاقته بالدولة، على ضوء وثيقة تقدمت بها إحدى دول الجوار تطالب بتغيير نظام التعليم الحالي في الصومال، وهي الدعوة التي لقيت قبولا واسعا خاصة في ظل توجهات الإدارة الأمريكية الحالية، وتحت دعوى محاربة الإرهاب خاصة ما يتعلق منها بتغيير نظام التعليم، لاسيما التعليم الديني، والشكوك التي تساور الإدارة الأمريكية بوجود مجموعات أو عناصر صومالية متطرفة ذات علاقة أو صلة بتنظيم القاعدة. وواجهت مفاوضات نيروبي تعثراً، سواء بسبب تلك الخلافات، أو بسبب ما فرضته السلطات الكينية من حظر، منذ أبريل 2004، يستهدف منع حاملي جوازات السفر الصومالية من مغادرة كينيا أو الدخول إليها، الأمر الذي أثار استياء زعماء صوماليين في الحكومة الوطنية الانتقالية والمعارضة، على حد سواء، وتهديدهم بالانسحاب من المفاوضات، أو عدم تدبير الاعتمادات المالية اللازمة لانتقال زعماء العشائر إلى نيروبي.
وقد افتتحت الجمعية الوطنية الانتقالية (البرلمان) دورتها الأولى في 22 أغسطس 2004، بغياب ممثلي جمهورية أرض الصومال. ومما لا شك فيه أن انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية الانتقالية والتي ضمت 275 عضواً، لم تكن خطوة يسيرة، إذ تعرضت للتأجيل ثلاث مرات منذ 31 يوليو 2004 بسبب الخلاف بين الفصائل المتناحرة حول توزيع السلطة والنفوذ، إلى حد رفض إحدى القبائل الكبرى تعيين ممثلين لها في هذه الجمعية، بالإضافة إلى الخلاف داخل بعض القبائل حول توزيع حصتها السياسية. وتم التوافق على تصنيف المجموعات القبلية إلى خمس مجموعات، هي: الدر، والدارود، والهاويه، والديجيل- ميرايفلي، وتجمع القبائل الصغيرة. ووفق هذا التقسيم، حصلت كل قبيلة من القبائل الأربع السابقة على 61 مقعدا داخل الجمعية الوطنية، بينما حصل تجمع القبائل الصغيرة مجتمعا على 31 مقعدا. وفى ضوء الواقع الصومالي المعقد، تم الارتكاز على القاعدة القبلية والعشائرية، بما يعنى ضمنيا أن يكون قادة القبائل والعشائر وزعماء الفصائل المسلحة هم أصحاب الكلمة الأخيرة في إبرام الاتفاقات وفى ترشيح ممثلي القبائل في المؤسسات الانتقالية المقترحة. وبالتبعية، كان يتوجب أن تتشكل داخل كل قبيلة لجنة توفيق وتنسيق داخلية تقوم بالحوار وبناء التوافق بين القيادات المدنية والعسكرية للتوصل إلى قائمة موحدة تضم أسماء الأعضاء الممثلين لها.
كما شهدت عملية الترشيح لمنصب الرئاسة منافسة شديدة، مما أدى إلى إصرار رئيس البرلمان الصومالي الجديد، شريف حسان شيخ عدن، على أن يقوم المرشح للرئاسة بتوقيع وثيقة تضمن اعترافه بما تسفر عنه الانتخابات من نتائج، وتسليم الأسلحة التي بحوزة ميليشياته، بالإضافة إلى اشتراط تقديم سند لا يرد بقيمة 2000 دولار، وهو ما أدى إلى انخفاض شديد في عدد المرشحين بعد أن كان قد وصل إلى 70 مرشحا. وانتهت تلك العملية باختيار عبد الله يوسف أحمد (70 عاما، ينتمي إلى قبيلة الدارود) في 10 أكتوبر 2004، الذي حصل على أغلبية أصوات أعضاء البرلمان المؤقت الذين عقدوا جلستهم بالملعب الرياضي الوطني في نيروبي بسبب انعدام الأمن في العاصمة الصومالية، حيث حصل على 185 صوتا، بينما حصل منافسه عبد الله أدو (من عشائر الهاويه) على 76 صوتا فقط. وقد بدأ عبد الله يوسف أحمد حياته العملية في السلك العسكري بعد أن تخرج في الكليات الحربية في كل من ايطاليا والاتحاد السوفيتي السابق، وترقى في سلم الرتب العسكرية حتى رتبة عقيد، كما درس القانون في الصومال، لكنه لم يكمل دراسته بسبب اعتقاله. وبرزت شخصيته كعسكري محنك منذ عام 1978 عندما تولى قيادة الجيش الوطني الصومالي في الجبهة الجنوبية خلال الحرب ضد إثيوبيا (1977- 1978). واضطر للجوء إلى المنفى في كينيا لبضعة أشهر بعد أن شارك في محاولة انقلاب فاشلة ضد الرئيس محمد سياد برى في أبريل 1978.كما هرب إلى إثيوبيا، وأنشأ هناك أول جبهة معارضة صومالية تحت اسم جبهة الخلاص الوطني بمساندة من الرئيس الإثيوبي في ذلك الوقت الجنرال منجيستو هايلي مريام الذي كان يناصب سياد بري العداء.
وعلى الرغم من خطاب الدعم والتأييد الذي لقيه عبد الله يوسف، خاصة من جانب الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وإثيوبيا وكينيا، فقد تباينت التقييمات بشأن قدرته على إعادة بناء الدولة الصومالية. فبينما ذهب اتجاه إلى تأكيد قدرته على إنجاز هذا الهدف، استنادا إلى علاقته الجيدة مع إثيوبيا والولايات المتحدة وبعض الكيانات الصومالية خاصة بونت لاند، بالإضافة إلى خبرته السياسية السابقة وخلفيته العسكرية، ذهب آخرون إلى التقليل من هذا التفاؤل، استنادا إلى تعقد الواقع الصومالي، واستياء مسلمي الصومال وحساسيتهم بالنسبة لعلاقة عبد الله يوسف بإثيوبيا - ذات الأغلبية المسيحية، بالإضافة إلى اضطراب علاقته مع كل من جمهورية أرض الصومال التي رفضت الاعتراف به، وفق تصريح وزير إعلامها عبد الله محمد: نذكر الجميع بأن من تم انتخابه في كينيا هو رئيس الصومال وليس رئيس أرض الصومال. وجدير بالذكر أن عبد الله يوسف كان رئيساً لإقليم بونت لاند قبل انتخابه رئيسا للصومال، مما أدى إلى ميراثه التوتر بين بونت لاند وأرض الصومال بسبب النزاع حول بعض الأقاليم.
ويؤمن الرئيس الصومالي الجديد بأن النظام الفيدرالي هو النظام الأنسب للصومال، حيث تتوزع السلطات بين الأقاليم، إضافة لاعتماد نظام السوق الحر، وإقامة علاقات جيدة مع دول الجوار، وتوطيد علاقات الصومال مع الدول الغربية. ووفق الدستور، قام يوسف أحمد في نوفمبر 2004 -وقبل انتهاء المهلة القانونية المحددة- بتعيين محمد علي جيدي رئيسا للوزراء، الذي قام بدوره بتشكيل وزارة انتقالية روعي فيها التوازنات القبلية والعشائرية التي اتبعت في توزيع عضوية البرلمان. واستهل رئيس الوزراء الجديد مهامه بتوجيه الدعوة إلى أكثر من خمسين من زعماء الحرب السابقين وسلاطين القبائل لاجتماع تعارفي بين الطرفين، لدعم تشكيل حكومة وحدة وطنية. وتعرضت عملية تشكيل هذه الحكومة للتأجيل أكثر من مرة بفعل التدخلات الخارجية من دول الجوار في عملية توزيع الحقائب، ومعارضة بعض الدول إسناد حقائب مهمة إلى شخصيات غير موالية لها سياسياً، إضافة لبروز الخلافات بشأن عملية توزيع الحقائب الوزارية المهمة بين زعماء الحرب أنفسهم. كما احتدم الجدل حول عضوية أعضاء الحكومة الجديدة في البرلمان. وفى السياق ذاته، ظهرت أزمة التوفيق بين زعماء الحرب والعشائر حول توزيع الحقائب الوزارية، إلى حد مناشدة بعض القبائل التنازل عن بعض المناصب الوزارية المخصصة لها لاستيعاب العدد الأكبر من زعماء الحرب في هذه القبيلة أو تلك، ومن ثم ضمهم للحكومة، سواء على مستوى الوزارة أو نواب الوزراء، أو بعض المناصب الرفيعة في إدارة الدولة، خاصة في حالة كون عدد زعماء الحرب في بعض القبائل أكبر من حجم الحقائب الوزارية المخصصة لها، الأمر الذي يعنى بقاءهم خارج التشكيلة الحكومية، وهو ما كان يحاول أن يتفاداه رئيس الوزراء الصومالي لضمان حشد التأييد والدعم لحكومته. وبرز جلياً، على سبيل المثال، بالنسبة لقبيلة الهاوية، ذات الغالبية الساحقة في العاصمة مقديشو والمناطق المحيط بها، وينتمي إليها قرابة نصف زعماء الحرب الصوماليين، التي لم يتجاوز المطروح أمامها في الحكومة سوى ست حقائب وزارية وعدد مماثل من نواب الوزراء، مما دفع قبيلة الدر للتبرع لها بمنصب وزير ونائب وزير، واتخذت قبائل أخرى، مثل الديجيل- ميرايفلي مبادرات مماثلة. وبعد مخاض صعب، خرجت التشكيلة الوزارية في أول ديسمبر 2004، شملت 31 حقيبة وزارية. وأدى الوزراء المعنيون يمين القسم الدستورية أمام الرئيس الصومالي الجديد خلال حفل أقيم بنيروبي أيضا.
ومما لاشك فيه أن أول التحديات التي تواجه عمل تلك الحكومة هو نزع سلاح الميليشيات والتي تقدر بجوالي 60 ألف، تمتلك حوالي (15-20) مليون قطعة من الأسلحة الخفيفة ونوعيات أخرى، ودمج من يرغب منها في الشرطة والجيش الوطنيين، والسيطرة على الحدود لمنع تهريب الأسلحة إلى داخل الأراضي الصومالية. ومثل هذه الخطوة تعتمد إلى حد كبير على تنفيذ مطلب الرئيس الصومالي من الاتحاد الأفريقي نشر قوة من (15- 20) ألف شخص في الصومال، وتكوين نواة للجيش الصومالي تقدر بحوالي 30 ألف جندي وفق أقل تقدير، بالإضافة إلى تدبير الاعتمادات والموارد المالية اللازمة.

خاتمة: مستقبل عملية المصالحة الوطنية الصومالية
تتباين تقييمات المرحلة الراهنة في عملية إعادة بناء الدولة الصومالية، بين رؤية تفرط في التفاؤل، باعتبار أن هذه التطورات تمثل خطوة متقدمة تسهم في حل الأزمة، وأخرى ترى أن ما شهده المشهد السياسي الصومالي من تفاعلات - رغم أهميتها- ليست بجديدة، وأن الأزمة الصومالية ما تزال تعيد إنتاج ذاتها، وأن ثمة تحديات مهمة وضرورات ومقدمات يتوجب التأكيد عليها. وبهذا المعنى، فإن القيادة الصومالية الجديدة، بمختلف مستوياتها، تواجه العديد من الصعوبات والتحديدات التي تواجه عملية التسوية والمصالحة الوطنية، والتي ترتبط بطبيعة الترتيبات السياسية وخلفية القادة الجدد المنتخبين، والقضايا الشائكة التي مازالت قائمة على الساحة الصومالية، بالإضافة إلى خبرة المحاولات السابقة للتسوية السياسية لأزمة الدولة الصومالية والتي اتسمت بالفشل بسبب الواقع الصومالي المعقد والصراع الشرس على السلطة بين قادة الفصائل، بسبب رغبتهم في الحفاظ على مصالحهم المادية والتي نشأت وترعرعت أثناء فترة الحرب الأهلية، بمساعدة الأطراف الإقليمية التي لعبت هي الأخرى دورا مهما في تأخر الوصول إلى تسوية حقيقية في حالة تعارضها مع مصالحها الخاصة. فضلا عن معضلة نزع سلاح الميليشيات، واحتواء النزعات القبلية والعشائرية، والبحث عن حل لمشكلة انفصال شمال الصومال ومشكلة الكيانات الصومالية الأخرى، واستعادة سلطة الدولة وإعادة بناء ما دمرته الحرب، وأن يتم تتويج هذه المرحلة الانتقالية بإجراء انتخابات عامة بموجب الدستور الجديد.( )
وتحتل قضية الميليشيات وضعا خاصا، والتي ستشكل تحديا خطيرا في حالة عدم قدرة الحكومة الانتقالية على نزع أسلحة تلك الميليشيات، والتي تشكل قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، لاسيما وأن بعض قادة هذه الفصائل قد رشحوا أنفسهم في انتخابات الرئاسة، وهو ما قد يدفعهم إلى تحدى الرئيس الجديد والعمل على إفساد محاولاته لفرض سيطرته على البلاد. وبالمثل، تعتبر النزاعات القبلية والعشائرية بدورها مشكلة شائكة في المجتمع الصومالي حيث تتأثر كافة التفاعلات السياسية بالتركيبة القبلية- العشائرية. ومع أن زعماء العشائر وقادة الفصائل كانوا قد تعهدوا بالوقوف إلى جانب الحكومة الانتقالية إلا أن استمرار هذا الدعم والمساندة يظل مرهوناً بحصولهم على مكاسب سياسية أو مادية أو على الأقل باحتفاظهم بالمكاسب التي حصلوا عليها أثناء الحرب الأهلية، مما يعنى أنه في حالة عدم حدوث ذلك يظل من الوارد بقوة أن تتوقف مساندة هؤلاء القادة للحكومة الانتقالية.
وإجمالا، يمكن القول أن ما حدث من تطورات مهمة في سياق عملية المصالحة الوطنية، وفي ضوء ما تواجهه من تحديات بالغة الخطورة، ربما لن يكون من الممكن قط التغلب على هذه التحديات بدون شرطين رئيسيين: أولهها هو الالتزام الكامل بقواعد العملية السياسية من جانب القادة الصوماليين بما يساعد من ناحية على التخلص من آفة التكالب المستميت على السلطة، وبما يؤدى من ناحية أخرى إلى تكتيل كافة الجهود الوطنية الصومالية في اتجاه إعادة البناء والإعمار. أما الشرط الثاني فيتمثل في محورية الدعم الدولي والإقليمي لجهود البناء والإعمار في الصومال، بما يتضمنه ذلك من تقديم الدعم المالي اللازم لهذه الجهود وردع أي محاولات لتقويض عملية المصالحة من جانب أي فصيل صومالي والحيلولة، دون العودة إلى الصراع المسلح في حالة نشوب خلافات بشأن الترتيبات السياسية التي سوف يجرى التباحث بشأنها خلال الفترة الانتقالية لاسيما المتعلقة بإعداد دستور جديد للبلاد.( )
كما تبرز في هذا الإطار أهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به المجتمع الدولي، خاصة الولايات المتحدة، من خلال ممارسة الضغوط على القوى الإقليمية. على النقيض، فإن انشغال الولايات المتحدة بالحرب في العراق وما تصادفه من تحديات وعقبات يزيد من عدم رغبتها في التورط، بشكل مباشر، في الصومال، وتفضيل الإدارة الأمريكية القضاء على الجماعات الإرهابية في شرق أفريقيا من خلال تدريب عناصر أمنية في جيبوتي وكينيا وتنزانيا وأوغندا، إضافة لدعم من إثيوبيا، في إطار برنامج رصدت لتنفيذه 100 مليون دولار. وتفرض تحديات المستقبل إيلاء أهمية قصوى لوضع تصور لآليات تنفيذ ما يتفق عليه حتى لا تتك




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !