مواضيع اليوم

ازمة التطور الحضاري في الوطن العربي 00 الصراع بين البدواة والحضارة

روح البدر

2009-06-28 07:19:09

0

 
أَزمة التطوُّرِ الحضاريِّ في الوطنِ العربيّ (8)
الصراعُ بين البداوةِ والحضارة
من تجلِّياتِ العقلِ المُجتمَعيِّ العربيِّ الغارقِ في التراث

العقلُ المجتمعيُّ من تابع ٍ إلى مُـبْـدِع

في بحثِنا المسهَبِ للعقلِ المجتمعيِّ عامَّةً والعقلِ المجتمعيِّ العربيِّ بوجهٍ خاصّ (لاسيَّما الحلقات الثلاث السابقة)، كنَّا وما نزالُ نُحاولُ إيضاحَ العلاقةِ الوثيقةِ بين ظاهرةِ التمسُّكِ بالتراث، على علاَّتِه، وطبيعةِ ذلك العقلِ المجتمعيِّ العربيِّ وخصائصِه التي تترابطُ هي الأُخرى مع التراثِ بروابطَ وثيقةٍ يتعذَّرُ فكـُّها أو قطعُها، ويدقُّ التعرُّضُ لها؛ بمعنى أنَّه في الوقتِ الذي يتأثَّرُ العقلُ المجتمعيُّ بالتراث، بل يمثِّلُ التراثَ بأصدقِ معانيه، يُمكن أن يؤثِّرَ هو نفسُه في التراث، إن تغيَّر أو أخذ يتحرَّر تدريجيًّا من سلطانِه، ليتطوَّرَ ويتحضَّر، لا تَبعًا لِما تفرضُه سلطةُ "الآخر"، كما قد يتبادرُ إلى بعضِ الأذهان، بل تَبعًا لمصالح ذلك المجتمع العربيِّ وأولويَّاتِه: متطلّباتِه ومشاكلِه، ثقافتِه وهويَّته، معتقداتِه وخصوصيَّاتِه— كلُّ ذلك وفقًا لمتطلّبات العصر الذي نعيشُه. ويمكنُ أن يتحقَّقَ ذلك بوسيلتَين متوازيتَين: أُولاهما جعلُ التراث معاصرًا لنفسِه، أي فهمُه، على الصعيد المعرفيِّ، في إطارِ محيطه—زمانه ومكانه وظروفه—وتقويمُه بناءً على ذلك. وثانيتُهما جعلُه معاصرًا لنا، أي معالجتُه بمنهجيَّة وعقلانيَّة عصرِنا، من جهة، وتوظيفُه لمتطلّباتنا وتطويعُه لأولويَّاتِنا واحتياجاتِنا. "وبهاتـَيـن العمليَّتين معًا يُصبحُ التراثُ موضوعًا لنا بدل أن يبقى موضوعًا فينا، يقدِّم نفسَه ذاتًا لنا." وبذلك يصبح التراثُ أداةً نستخدمُها لتحقيقِ مصالحِنا الحاليَّة، بدل أن نكونَ نحن أداةً له يستخدمُنا لمجرَّد استعادتِه وتكرارِه، أو تحميلنا أعباءَ إشكاليَّاتِه وصراعاتِه، أو بصفتِه كان يخدم مصالحَ عصرِه ويحلّ مشاكلَ مجتمعِه، بقَدْرٍ أو آخر؛ أي لأجلِ أن "نتحرَّرَ من سلطتِه علينا ونمارسَ نحن سلطتَنا عليه." 1 ونكونُ بهذا المعنى قد قلَبنا عقلَنا المجتمعيَّ من كونه مجرَّدَ خزّانٍ لنُتَفٍ مختلفةٍ ومتناثرة، ورُبَّما متنافرةٍ أو غير منتظمةٍ لمفهومِنا الغامضِ للتراث، إلى عقلٍ مجتمعيٍّ عالِـم، يضمُّ، بين أمورٍ أخرى، نسيجًا متلاحِمًا، ينتظمُ التراثَ بألوانِه المختلفة وأطيافِه المتعدِّدة، ولكن المتفاعلة والمتناغمة والمتكاملة، إذا فهمْناها بمنهجيَّة عقلِنا الفاعل، وفي إطارِها التاريخيِّ الواقعيِّ الصحيح.

إن هذه العلاقةَ المتبادَلة بين التراث والعقلِ المجتمعيّ تُشكِّل نقطةً أساسيَّة، نرى أَنَّها ذاتُ أهميَّةٍ مركزيَّةٍ في تحويلِ المجتمَعِ العربيِّ من كونِه "تابعًا"، سواءٌ لتراثِه المجيد الآفل، أو للتراثٍ الجديدِ الماثل المنقول عن "الآخر"— تحويلِه إلى مجتمعٍ "خلاَّقٍ مُبدِع"، عن طريقِ قيامِ أعضائِه بالتفكير بـ"عقلِهم الفاعل"، بدلَ التفكير بـ" عقلِهم المُنفَعِل"، أي المُنفعِل بذلك العقلِ المجتمعيِّ "التابع".

وبغَرضِ محاولةِ الوصول إلى هذا الهدفِ الصعب (أي تحويل المجتمعِ من مقلِّدٍ أو تابعٍ إلى مُبدِعٍ أو صانع، انطلاقًا من تلك العلاقةِ الحميمة بين العقل المجتمعيِّ والتراث)، شَرعْنا بهذه المسيرةِ الطويلة في طريقٍ شاقَّة ومتشعِّبة، كلُّ خطوةٍ فيها تحاولُ أن تكونَ مكمِّلةً لما قبلَها، وممهـِّدة ً لِما بعدها، قَدْرَ الإمكان وفي حدودِ الحيِّز المُتاح؛ مع ملاحظة أن تكونَ كلُّ حلقةٍ مستقلَّةً بذاتِها ومكتفيةً بمضمونِها، دون أن يتوقَّفَ فهمُها، بالضرورة، على ما سبقَها. كما تحرصُ كلٌّ منها على معالجةِ موضوعاتٍ تدخلُ في صميم همومِنا المشترَكة، وتمسُّ أعماقَ عقولنا المتعطِّشةِ لطَرحِ رؤًى جديدة يُمكن أن تساهمَ في إنقاذِ هذه الأمَّة من التدهوُرِ السريع الماثل.
ومنذ أن بدأْنا هذه الرحلة بالتساؤلِ عن أسباب نشوءِ الحضارةِ وسقوطِها ومصيرِ الحضارةِ العربيَّة الإسلاميَّة، قبل عدَّةِ أعوام،2 لاحظْنا أنَّ إدراكَ ذلك الهدف لن يتحقَّق إلاَّ بعدَّةِ شروط، يَكمنُ أهمُّها في مصارَحة "الذاتِ بذاتِها"، بما فيها من إشكاليَّات، بل حتَّى أدواء، خاصَّةً إذا كانت تلك الأدواءُ خفيَّةً أو مطمورة، أي مكبوتة، تحاول"الذاتُ" تحاشيَها أو إنكارَها أو تجاهُلَها.

وفي هذه النقطةِ الأخيرةِ عينِها تكمنُ الطامَّةُ الكبرى، لسببَين: أوَّلهما أنَّ هذه الأمراضَ المهمَلـَة ستستفحلُ وتنتشرُ إلى حدٍّ يتعذَّرُ معالجتُها، كما حدثَ ويحدثُ فعلاً اليوم، بدليلِ ما نُلاحظه بكلِّ وضوحٍ من خلال تخلُّفِنا وضعفِنا وخنوعِنا، في وقتٍ نتخبَّط في غياهبِ التمزُّق والتردُّد والحَيْـرَة بين النكوص إلى الماضي، من جانبِ البعض، أو الارتماءِ في أحضان "الآخر"، من جانبِ البعضِ الآخر، طلَبًا للشفاءِ من تلك الأمراضِ المُزمِنة، أو بالأحرى للخلاصِ مِمَّا نحن فيه من أزماتِ وكوارثَ متفاقِمة، قد تؤَدِّي فعلاً إلى انقراضِ هذه الأُمَّة، كما انقرضَت قبلَها أُممٌ كثيرة. وثانيهما أنَّ عدمَ مُصارحةِ "الذات" بأمراضِها النفسيَّةِ (الثقافيَّة والتراثيَّة)، أي "كبتَها" تلك الأمراض في أعماقِها، أو في "عقلها المجتمعيِّ الباطن"، يورث "عُقَدًا" مستعصيَةً، و/أو سلسلةً من الأمراض الفرعيَّة الضارَّة، أو الكارثيَّة، مثلما يحدثُ وينتـشرُ فعلاً اليوم. لذلك نحن نطمحُ، بكُلِّ تواضُع، إلى تنبيهِ أبناءِ الأُمَّة، وبخاصَّة المثقَّفين والمفكِّرين، إلى خطورة تلك الأمراضِ وأهمِّـيَّةِ قيامهم بمعالجتِها، كما يفعلُ الطبيبُ النفسانيُّ بالمريضِ الذي يُعاني من أعراضٍ نفسيَّة، فيسعى إلى اكتشافِ عُقَدِه، من خلال كشفِ أسبابِها القابعةِ في"عقلهِ الباطن"، والناتجةِ عن أحداثٍ أثَّرَت في حياته الماضية، ولاسيَّما فترة طفولتِه، وبالتالي أصبحتْ مؤثِّرةً سلبًا في حياتِه الحاضرة. كذلك نحن نرى أنَّ للمجتمع—ككيانٍ متميِّز، يتمتَّع بشخصيةٍ اعتباريَّةٍ مُحدَّدة، بحثناها سابقًا—"عقلاً متميِّزًا" (هو العقل المجتمعيّ)، يتعيَّنُ أن نسعى للكشفِ عن كوامنِه ومكبوتاتِه، وبخاصَّة تلك التي تختـفي في طيّاتِ ذلك العقلِ الذي يعكس تاريخَ ذلك المجتمع، منذ طفولتِه، وفي مختلف مراحلِ حياته الأُخرى.

وكما يصعبُ على المريض نفسيًّا الكشفُ عن ذكرياتِه الدفينةِ المُؤذِية، بل يقاومُ أيَّ محاولةٍ لِكَشفِها، كذلك، فإنَّ أعضاءَ المجتمعِ العربيِّ، الذين يمثِّلون ذلك العقلَ المجتمعيَّ ويتحدَّثون بلسانِه، يُقاومون أيَّةَ محاولةٍ للكشفِ عن ذكرياتِه و/أو كوامنِه المؤذية، أو التي تُعتَبر فاضحةً بمقاييسِ العقلِ المجتمعيِّ عينِه. مثلاً، القضايا المتعلقة بالجنس التي تدخلُ في جميعِ أَوجُه حياتِنا، وخاصَّةً الاجتماعيَّة والشخصيَّة؛3 أو حتَّى ظاهرة القتلِ غَسلاً للعار التي اعتبرْناها نموذجًا واحدًا من تجليِّات العقل المجتمعيِّ العربيِّ المعاصِر، وهي ظاهرةٌ يكاد يتجاهلُها المجتمع، مع أنَّها سائدةٌ ومنتشرةٌ في مختلفِ أرجاءِ الوطنِ العربيّ؛ وقد تحدَّثنا عنها بإسهابٍ في حلقةٍ سابقة. ("صوت داهش"، عدد صيف 2003)

ومن جهةٍ أُخرى، وفي هذا السياق نفسه، أَي في ما يتعلَّقُ بمُحاولة العقل المُجتمعيّ العربيّ الإسلاميّ المشحون بالتراث إخفاءَ الطالحِ المُؤذي واستعادةَ ذكرياتِ الصالحِ المُسِرّ، قد نلاحظُ أنَّ معظمَ أنصارِ العودةِ إلى إحياء الماضي التليدِ واتِّباعِه يكتفون باسترجاعِ ذكرياتِ الأيَّامِ والسنواتِ القليلةِ المشرقةِ من الحضارةِ العربيَّة الإسلاميَّة بعد وفاة الرسول (خاصَّةً فترة خلافةِ أَبي بكر التي دامت سنتَين ونصفَ السنة، وخلافة عُمَر التي دامت قُرابة إحدى عشرةَ سنة، وخلافة عُمَر بن عبد العزيز التي دامت سنتَين وثلاثة أشهر)، ويُهملون جميعَ العقودِ والقرونِ الطويلةِ المُظلِمة، بالمفهوم الدينيّ أو يتجاهلونها بِوَعيٍ أو بدونِ وعْيٍٍ في الغالب؛ أَو يرفضونها بِوَعيٍ ناقص، لأنّهم يتصوَّرون التراثَ كما كان يجبُ أن يكونَ بِرأيهم اليوم، لا كما كان كائنًا فعلاً في معظمِ فترات الماضي؛ أَي إنَّهم يرغبون في أَن يتصوَّروا التراثَ كما كان ينبغي أَن يكونَ عليه في نظرِهم، في ذلك الوقت، منظورًا إليه بمِنظار حاضرِهم، لا كما هو على حقيقتِه، منظورًا إليه بمِنظار زمانِه وظروفِه. وبتعبيرٍ قد يكون أبسطَ: إنَّهم يُضفون على التراث أَكثرَ مِمَّا هو عليه بالفِعل، في مُحاولةٍ لتحقيقِ مُثُلهم العُليا فيه، على حسابِ واقعِه الحقيقيِّ الثابت تاريخيًّا. فهم مثلاً يُعمِّمون المبادئَ التي جاءَ بها الخليفةُ عُمَر، من خلال أَقواله وأَفعالِه، وكأَنَّها كانت سائدة في جميع فترات الخلافة الإسلاميَّة، أَو أَنَّها تُمثِّلُ الخلافةَ الإسلاميَّة من حيثُ العدالة والمُساواة وقبول الرأي الآخَر ومُحاسبة الخليفة. بينما تُعتبَرُ هذه الفترةُ المُشرقة فترةً استثنائيَّة، لأنَّها قصيرةٌ جدًّا بالمُقارنة مع حقبةٍ تزيدُ على 13 قرنًا من الخلافة الإسلاميَّة، لم تشهدْ من هذه المبادئ العُليا شيئًا.4

وهناك تحفُّظٌ من نوعٍ آخر يتعلَّقُ بِكَشفِ كوامنِ العقلِ المجتمعيِّ العربيّ. ونقصدُ به محاولةَ بعض الأقلام الأجنبيَّة الهجومَ على العربِ والمسلمين، عن طريقِ إبرازِ تخلُّفهم ودونيَّتِهم، وكأنَّهما متأصِّلان في جنسهِم كعرَب، ومن أُسُسِ دينهم؛ أو من خلالِ الكشفِ عمَّا يُسمَّى بـ"العقليَّة العربيَّة"، كما يُسمِّيها الكاتبُ اليهوديُّ رافائيل بتَاي، مؤلِّف كتاب"العقل العربيّ".5 ولئن نشجب أيَّةَ محاولةٍ للمسِّ بالعرب والمسلمين، أو أيِّ مجتمعٍ في أيِّ مكانٍ في العالم، لا من مُنطلَقٍ قوميٍّ وإسلاميٍّ مُنفتِح ومتطوِّر فحسْب، بل بدافعٍ إنسانيٍّ شامل يرى وجوبَ احترامِ جميعِ الثقافات، بل تعزيزها لإثراءِ الثقافةِ الإنسانيَّة، نرى، في عيِن الوقت، أنَّ مثل هذه المحاولاتِ يجبُ أَن لا تُجابَهَ باتِّخاذِ موقِفٍ دفاعيٍّ سطحيٍّ مُتَشنِّجٍ أو غير عقلانيّ، أو عن طريقِ إنكارِ الحقائق، بل بمُقارعةِ الحجَّة بالحجَّة، والاعترافِ بوجودِ إيجابيَّاتٍ وسلبيَّاتٍ في العقلِ المجتمعيِّ العربيّ، كما توجَد سلبيَّاتٌ في أَيِّ عقلٍ من عقولِ المجتمعاتِ الأُخرى، بما فيها العقل المجتمعيّ الغربيّ. ونذكرُ منها على سبيلِ المثالِ "العقليَّة العُنصُريَّة التعصُّبيَّة" لبعضِ المستشرقين أو الكتَّاب أو المسؤولين الغربيِّين أو بعض اليهود، التي تستهدفُ تقليلَ شأنِ ثقافاتِ المجتمعاتِ الأخرى، ولاسيَّما المجتمع العربيِّ والإسلاميّ، لِمُجرَّد أنَّها لا تتلاءَم مع ثقافتِهم أو لا تتبنَّى القِيَمَ الغربيَّة، أو لأسبابٍ استعماريَّةٍ أو تسلُّطيَّة أو دينيَّة أو تفوُّقيَّة أوغيرِها.6

ومع ذلك لا يعني هذا أنَّه ينبغي أن نتجاهلَ سلبيَّاتِنا المؤثّرة أو نُنكرَها، بحجَّة أنَّها قد تـُستغَلُّ من جانبِ "الآخر" لمهاجمتِنا، أو الحطِّ من شأنِنا، وإلاَّ ستتفاقمُ تلك السلبيَّاتُ وبالتالي المُعضِلات، دون أن نتوفَّرَ على تحليلِ أصولِها وفصولِها والكشفِ عن أسبابِها وجذورِها، تمهيدًا لِحلِّها أو معالجتِها. ولنا من المُفكِّرين الغربيِّين الذين قاموا بِنَقدِ العقلِ الغربيِّ نفسِه أُسوة.7

نقولُ ذلك لأَنَّنا بِصَدَدِ الكشفِ عن خاصِّيَّةٍ خطيرةٍ يتميَّزُ بها العقلُ المجتمعيُّ العربيّ، تؤَثِّرُ فيه سلْبًا، وتقِفُ في طريق تطوُّرِه الحضاريّ؛ ومن جانبٍ آخر قد تُشكِّلُ سببًا لاستنكارِ بعضِ القُرَّاء أو هجومِهم على الكاتب، كما حدثَ سابقًا.8 أقصدُ بها سيادةَ القِيَم البدويَّة على القِيَم الحضَريَّة أو الحضاريَّة، أو وجود صراعٍ دائمٍ بين القِيم الحضاريَّة والقِيم البدويَّة، وتفسير هذه الظاهرة من خلال نظريَّةِ عدَمِ مرورِ العرب بِدورِ الفلاحة أوالزراعة، الذي تمرُّ به المجتمعاتُ المتحضِّرةُ عادةً. ونحن نعتبرُ أنَّ بحثَ هذه الخاصِّـيَّة تُساعدُ على تفهُّمِ تشبُّثِنا بالتراث في أجزائه السالبة، من جهة، كما تساهمُ في تفهُّمِنا لأحدِ وجوهِ العقلِ المجتَمعيِّ العربيّ، من جهةٍ أُخرى؛ مع ملاحظة الترابُطِ الشديدِ بين الجِهَتين أو الوجهَين. وسنبحث هذه الخاصِّـيَّة فيما يلي:

مع أَنَّ للعقلِ المجتمعيِّ مفاهيمَ وخصائصَ رئيسيَّةً عامَّة، بالنسبةِ لجميعِ المُجتمعات، فإنَّه يتميَّزُ بخصائصَ تفصيليَّةٍ مُحدَّدة، إذا ارتبط بأيِّ مجتمعٍ أو وحدةٍ مُجتمعيَّة معيَّنة، نظرًا لأَنَّ لكُلِّ مجتمعٍ ظروفَه الجغرافيَّة والتاريخيَّة الخاصَّة، أو لأنَّ العقلَ المجتمعيَّ مرتبطٌ بالمحيطِ في جانبَيه المكانيّ والزمانيّ، كما أوضحْنا في حلقةٍ سابقة (خريف 2003).9
أي إنَّ العقلَ المجتمعيَّ المرتبطَ بوحدةٍ مجتمعيَّةٍ معيَّنة يخضعُ، غالِبًا، للحركةِ والتطوُّر والتغيُّر والتفاعل، وأحيانًا للصراع مع العقولِ المجتمعيَّة الأخرى، المجاورة أو المنافِسة، من داخل ذلك المجتمع نفسهِ أو من خارجِه. ولكن كلَّما كانتِ المجتمعاتُ أكثرَ ارتفاعًا في السُلَّم الحضاريِّ، أصبح العقلُ المجتمعيُّ فيها أكثرَ استعدادًا للتطوُّر والتغيُّر. وعلى العكسِ من ذلك يظلُّ العقلُ المجتمعيُّ في المجتمعاتِ المتخلِّفة جامدًا يكادُ لا يتحرَّك. لذلك نلاحظُ أنَّ بعضَ المجتمعاتِ البدائيَّة المعاصِرة، المُتمَركِزة في بعض أجزاءِ إفريقيا و آسيا وأستراليا وغاباتِ الأمازون مثلاً، ما تزالُ تمارسُ عاداتِها وتقاليدَها ومعتقداتِها وقيمها(عقل مجتمعيّ) التي دأبَت على مُمارستِها منذ آلافِ السنين؛ ولعلَّها لم تتطوَّر إلاَّ نَزرًا. كما إنَّنا نتذكَّر غالبًا مأساةَ السكَّان الأصليِّين للأمريكتَين، الذين أُبيدوا تقريبًا، بسبب عدمِ تمكُّنِهم من تطويرِ عقلِهم المجتمعيّ ليكونَ قادرًا على مُجابهةِ العقلِ المجتمعيِّ الأوروبيِّ الجديدِ والمتطوِّر، كناتجٍ من نواتجِ النهضةِ الأوروبيَّة ثمَّ الثورة الصناعيَّة التي غيَّرَت القِيَمَ والمفاهيمَ والمعتقداتِ والعلاقات. وكلُّ هذا يؤكِّد أنَّ تطوُّرَ العقل المجتمعيِّ مرهونٌ بالتطوُّر الحضاريِّ للمجتمع، يتأثَّر به ويؤثِّر فيه.10

أمَّا العقلُ المجتمعيُّ العربيُّ فقد تعرَّضَ لتطوُّراتٍ جغرافيَّةٍ وتاريخيَّةٍ معيَّنة تختلفُ عن التطوُّراتِ التي حدثَت للمجتمعاتِ الأخرى، وبالتالي أصبح ذلك العقلُ مُتميِّزًا عن غيرِه في بعض الخصائص. لذلك سنحاولُ أن نتبيَّنَ مدى تطوُّرِه من خلالِ استعراض الأدوار التاريخيَّةِ التي مرَّ بها.

يُمكنُ القولُ إنَّ هذه الأدوارَ تبدأُ قبل بضعةِ آلافٍ من السنين، حين كانت أرضُ الهلالِ الخصيب المهدَ الأوَّلَ للحضاراتِ "المُنقطِعة"، كما يُسمِّيها المؤرخ أرنولد توينبي، وأهمَّها في العالَم، كما يقول نوح كريمر، ومَهبطًا للدياناتِ الموحِّدة، كما هو معروف.

ولئن يصعب تمييزُ القِيَمِ التي تبقَّت من عصر الحضاراتِ غيرِ الساميَّة والساميَّة، أو بالأحرى العربيَّة القديمة، كما يُسمِّيها المؤرِّخُ العراقيُّ أحمد سوسة—مثل حضارات السومريِّين (مع تحفُّظِنا بِشَأن هذه الحضارة التي لا يعتبرُها بعض المُنقِّبين ساميَّةً أصلاً) والفراعنة والأكَّديِّين والبابليِّين والآشوريِّين والفينقيِّين—فإنَّنا قد نستطيع القولَ إنَّها كامنة، أو موجودةٌ بـ"القوَّة"، لا بـ"الفِعل". ومن جهةٍ أخرى، لا شكَّ بأنَّ العقلَ المجتمعيَّ حافلٌ بالقِيَمِ والعقائدِ المقتبَسة من عهدِ الأنبياء الموحِّدين، منذ ظهورِ إبراهيم، وبخاصَّة من العصر الإسلاميّ، بدون أن نصرفَ النظرَ عن بعض القِيَم الأخرى المُتبقِّية من عصورٍ سحيقةٍ في القِدَم، مثل عادة تقديمِ الأضاحيِّ التي تعودُ إلى بقايا العصرِ الحجريِّ القديم، وعادة التبرُّك بقبورِ الأولياء والصالحين التي قد تعودُ جذورُها إلى عقيدةِ عبادةِ الأجداد، كما جاء شرحُه في حلقةٍ سابقة (عدد خريف 2003).

ويجبُ أن نُـنَـبِّهَ ونُشدِّد على أهمِّـيَّةِ مرورِ المجتمع العربيِّ بفتَراتِ ضُمورٍ وتخلُّفٍ حضاريّ تخلَّلَت الفترات الحضاريَّة، خاصَّةً في أثناءِ ما يُسمَّى بالعصرِ الجاهليّ الذي كان يطغى عليه الطابعُ البدويُّ، ما قبل الزراعيّ، وفترةِ عصر الانحطاط التي أعقبَت تدهوُرَ الحضارة الإسلاميَّة، وذلك لأنَّنا نعتقدُ أنَّ العقلَ المجتمعيَّ المعاصِرَ هو الوريثُ الشرعيُّ والواقعيُّ لهذَين العصرَين، بوجهٍ خاصّ.

صراعُ الحضارةِ والبداوةِ بعد الإسلام

مع ظهورِ الإسلام وانتصارِه، حدثَتْ ثورةٌ حقيقيَّةٌ حاولَت تغييرَ معظمِ الأعرافِ والتقاليدِ والقِيَمِ والمبادئ، وبالتالي تغييرَ العقل المجتمعيِّ الذي كان سائدًا في العصر الجاهليّ. بَيدَ أنَّ كثيرًا من تلك القِيَمِ البدويَّة أو الجاهليَّة ظلَّ موجودًا في ذلك العقل، إمَّا ظاهرًا بوضوح، أو كامنًا يظهرُ بين الفَينةِ والفَينة. وقد يظلُّ بعضُ القِيمِ مسيطِرًا أحيانًا، بشكلٍ أو آخر، على الاتِّجاه العامِّ للمجتمع، من خلال سلطةِ العقلِ المُجتمعيّ. فقد تجلَّتِ القِيَمُ العشائريَّة، مثلاً، من خلالِ ظاهرةِ الصراعِ على السلطة، أو في حالاتِ تفعيلِ الانتماءِ العشائريِّ أو التعصُّب القَبَليّ التي حَرَّمَها الإسلام: ?إذ جعلَ الذين كفروا في قلوبِهم الحميَّة حميَّةَ الجاهليَّة فأنزلَ الله سكينتَه على رسولِه وعلى المؤمنين وألزمَهم كلمة التقوى? (سورة الفتح، 26)؛ وفي الحديث "ليس منَّا مَن دَعا إلى عصبيَّةٍ أو قاتلَ عصبيَّةً"، و قال الرسول (ص) في خُطبة الوداع: "إن الله أذهبَ عنكم نخوةَ الجاهليَّة وفخرَها بالآباء، كلُّكم لآدمَ وآدمَ من تراب، ليس لعربيٍّ على عَجميٍّ فضلٌ إلا بالتقوى."
ولكنَّ العقلَ المجتمعيَّ كان أقوى من التشريع ومن التعاليمِ الدينيَّة، كشأنِه في معظمِ المجتمعاتِ الأخرى، إن لم يكنْ جميعها. يقولُ أحمد أمين: "إلى أيِّ حدٍّ تأثَّر العربُ بالإسلام؟ وهل امَّحَت تعاليمُ الجاهليَّة ونزعاتُ الجاهليَّة بمُجَرَّدِ دُخولِهم في الإسلام؟ الحقّ أن ليس كذلك، وتاريخُ الأديانِ والآراءِ يأبى ذلك كلَّ الإباء ..."11
فقد ظلَّتِ العصبيَّةُ القبَليَّةُ سائدة، وتجلَّت بِشكلٍ واضحٍ من خلالِ الصراع بين بني أُميَّة وبني هاشم على السلطةِ أو على الخلافة، الذي أصبح صريحًا ودَمويًّا بعد مقتلِ عثمان، فضلاً عن صِراعاتٍ عشائريَّةٍ أُخرى. يقول صاحبُ "فجر الإسلام": "ولمَّا وَليَ الأُمويُّون الخلافة، عادتِ العصبيَّةُ إلى حالِها كما كانت في الجاهليَّة، وكان بينهم وبين بني هاشم في الإسلام كالذي كان بينهم في الجاهليَّة... وعاد النـزاعُ في الإسلام بين القَحطانيَّة والعدنانيَّة، فكان في كلِّ قُطرٍ عداءٌ وحروبٌ بين النَّوعين." ويُسهبُ المؤَلِّفُ في ذِكرِ الحروب التي قامَت بين الأزْد وتَميم، و بين كَلب وقَيس (يمنيّين وعدنانيّين) وغيرهم بعد الإسلام.12 وهنا يَظهر الصراعُ بين عقلٍ مجتمعيٍّ تقليديٍّ قديم وعقلٍ مجتمعيٍّ تقدُّميٍّ أكثرَ حداثة. فقد جاء الإسلامُ بنظامٍ متكاملٍ و بمبادئَ جديدة، ورسمَ للحياة مُـثلاً عُليا ووسائلَ خاصَّةً لتحقيقها تختلفُ عن تلك التي كانت معروفةً في العصر الجاهليّ؛ في حين كان العقلُ المجتمعيُّ العربيُّ مشحونًا بالتراثِ القديم، ومعظمُه يحفلُ بقِيَمِ البداوة المتجذِّرة.

وكمثالٍ مُحدَّدٍ وملموسٍ على بعض مظاهرِ المحافظةِ على القِيَم الجاهليَّة الثَّاويةِ في العقلِ المجتمعيِّ البدويِّ أو الجاهليِّ بعد الإسلام، نذكرُ ظاهرةَ الأخذ بـ"الثأر"، التي ظلَّت سائدة، حتَّى يومِنا هذا، في معظمِ المجتمعاتِ العربيَّة، أي ظلَّت قابعَةً في "العقلِ المجتَمعيِّ العربيّ" المعاصِر. مع أنَّ هذه الظاهرةَ تُخالفُ تمامًا نصًّا قرآنيًّا صريحًا: ?ولا تَزرُ وازرةٌ وِزرَ أُخرى.? (فاطر:18) وأوَّل مرَّةٍ تجلـّت فيه هذه الظاهرة في الإسلام كانتْ بعد سنواتٍ قليلةٍ من وفاة الرسول (ص) ( أي في سنة 23 هـ)، حين طعن أبو لؤلؤة الخليفةَ عُمر، فثارَت "حميَّةُ الثأرِ الجاهليَّة" لدى ولدِه عُبيد الله، الذي استلَّ سيفَه فقتل جُفينة و الهرمزان وابنة أبي لؤلؤة. وحصلَ خلافٌ بين المسلمين بعد ذلك على عقابِه، لأنَّه خالفَ نصًّا تشريعيًّا صريحًا. بَيدَ أنَّ الخليفةَ عثمان عفا عنه وسيـَّرهُ إلى الكوفة وأقطعَه أرضًا ودارًا.13 وبذلك انتصرَ العقلُ المجتمعيُّ الجاهليُّ القديمُ على سلطةِ النصِّ التشريعيِّ الذي يفرضُه الدين الجديد.

التمييزُ بين العَرَب والأعراب

كرَّس القرآنُ الكريم العديدَ من الآيات للحديثِ عن الأعراب. منها:?قالتِ الأعرابُ آمنّا، قُلْ لم تؤمنوا ولكنْ قولوا أسلَمنا ولمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم? (الحجرات 14)، و?الأعرابُ أشدُّ كُفرًا ونِفاقًا وأجدرُ ألا يعلموا حدودَ ما أنزلَ الله على رسولِه.? (التوبة97) وورَدَ في تفسيرِ الطَّبري أنَّ "الأعرابَ، وهم مَن نزلوا البادية، أشدُّ جحودًا وأشدُّ نِفاقًا من أهلِ الحَضَر في القُرى والأمصار..."14لذلك حدثَ صِراعٌ بين قِيَمِ البداوة وقِيَم الدين الإسلاميّ. ويُمكنُ القولُ إنَّ تلكَ القيمَ المتناشزةَ كانت تتصادمُ وتتعايشُ وتتقاطعُ وتتداخل. يقولُ أحمد أمين: "إذاً، كان في عصورِ الإسلامِ الأُولى نزعاتٌ جاهليَّةٌ ونزعاتٌ إسلاميَّة، كانت تسيرُ جَنبًا إلى جَنب." ويُشيرُ إلى تأثُّر الأدبِ الأُمويّ، وخاصَّةً الشعر، بالنـزعاتِ الجاهليَّة، ومنها "المعاني الجاهليَّة والهجاء الجاهليّ والفخرُ الجاهليُّ والحميَّةُ الجاهليَّة." أمَّا النـزعةُ الإسلاميَّة فقد ظهرَت في العلوم الشرعيَّة.15 ومع أنَّ المجتمعَ الحضريَّ في الجزيرة العربيَّة، على قلَّتِه، كان أكثرَ تقبُّلاً لقواعدِ الدينِ الجديدِ من المجتمع البدويِّ الذي كان يشكِّلُ الأغلبيَّةَ الساحقةَ للمجتمع العربيّ، كما يرى جمهورُ المؤرِّخين، فالمجتمعُ الحضريّ ظلَّ هو الآخر محتفظًا بقِيَمِه القَبَليَّة ذات الأصولِ البدويَّة، شأنه شأْن المجتمع البدويّ، كما ظهر ذلك في التعصُّب القَبَليِّ ، مثلاً، في الصراعِ على السلطة، والحميَّة الجاهليَّة، والأخذِ بالثأر من أهلِ القاتل أو قبيلتِه، على النحوِ الذي أوضحْناه آنفًا، وعشراتٍ من القِيَمِ البدويَّة. وذلك لأنَّ التركيبةَ المجتمعيَّةَ لأهمِّ الحواضر في الجزيرةِ العربيَّة، مثل مكَّة والمدينة والطائف، كانت قبليَّة، أو بالأحرى ذاتَ أصولٍ وقِيَمٍ بدويَّةٍ واضحة. تمامًا كما يحدثُ اليوم حتَّى عندما تستقرُّ بعضُ القبائل في المدن والقرى الحضريَّة في معظم البلدان العربيَّة ولكنَّها تظلُّ محتفظةً بقِيَمِها وعاداتِها التقليديَّة خلال أجيالٍ وأجيال.

وهناك عشراتُ الأمثلةِ والشواهدِ التي تُشيرُ إلى تجذُّر بعضِ القِيَمِ البدويَّة في العقل المجتمعيّ، العربيِّ والإسلاميّ، حتَّى يومِنا هذا. ومنها عادةُ الثأر والتعصُّب القَبَليِّ والمحلِّيّ، فضلاً عن احتقارِ المرأةِ والتشاؤمِ من الأنثى بوجهٍ عامّ: ?وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأُنثى ظلَّ وجهُه مُسودًّا وهو كظيم? (النحل57). كما تُشيرُ الأمثالُ الشعبيَّة المتداوَلةُ اليوم إلى هذا المعنى بكلِّ وضوح. (أنظر تفصيلَ بعضِها في عدد صيف 2003). كذلك اضطلع علي الورديّ بِشَرح هذه الشواهدِ في كتابِه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقيّ". ومنها، مثَلاً، أنَّ كثيرين من أبناءِ القبائل في العراق يستنكفون من الشكوى إلى الحكومةِ حول أيَّةِ قضيَّةٍ أو اعتداءٍ يحدثُ بينهم، لأَنَّ ذلك مُنافيًا لِقِيَم الرجولة والعصبيَّة. لذلك يُفضِّلون الأخذَ بالثأر بأنفُسِهم.16 ويُمكنُ تعميمُ هذه القيمة على كثيرٍ من أفراد الأحياء الريفيَّة والتقليديَّة في العراق، حيثُ كان كثيرون منهم يستنكفون عن اللجوء إلى القانون فيُطبِّقونه بأنفُسِهم، حتَّى إذا حوكِم الجاني وحُكِمَ عليه بالسجن مثلاً، فإنَّه يبقى مطلوبًا للثأر من جانبِ أُسرةِ المَجنيِّ عليه، حتَّى بعد خروجِه من السجن. كما عانَيتُ شخصيًّا من هذه "القيمة" في طفولتي حين كان أحدُ الطلاَّبِ الأقوياء في المدرسة يضرِبُني، فلا أرفعُ شكواي إلى الإدارة كما كان ينصحُني أبي، بل أُصِرُّ على أن آخذَ بثأري منه بنفسي، فأترصَّد لهذا الولدِ الذي يكبرُني، خارجَ المدرسة، مع بعضِ الطَّلَبَة الضعفاء مثلي لنَضربَه بهراواتِنا؛ وهكذا تستمرُّ المعاركُ داخل المدرسة وخارجها للمُحافظةِ على "القِيَم البدويَّةِ العريقة" التي استقرَّت في العقلِ المجتمعيِّ الحضريّ. كما يستشهِدُ الورديّ بأحداثٍ وظواهرَ كنتُ شاهدًا عليها أنا الآخر منذ طفولتي؛ ومنها العراك بين المحلاَّت (الأحياء) البغداديَّة، والثأر بعضها من البعضِ الآخر، والتعصُّب لأبناء "المحلَّة" والدفاع عن شرفِ المرأة (عِرضها) التي تنتمي إلى نفسِ المحلَّة، في حين يُجيزُ الرجلُ "الشقاوة" (القبضاي)، لنفسِه أن يعتديَ على أعراضِ نساءِ الأحياء الأخرى، ويفتخرُ بذلك. ومن تلك المظاهرِ الوساطاتُ لدى الوزيرِ أو المديرِ العامّ، من جانبِ بعضِ وُجَهاء الحيِّ البارزين، لتعيـينِ أحَدِ أبناء الحيِّ في وظيفة، قد لا يستحقٌُّها، أو ينافسُه فيها شخصٌ آخر أكثرَ كفاءة، أو لدى مديرِ المدرسة لإنجاحِ طالبٍ فاشل إلخ. ويَعتبر الوجيهُ أنَّ ذلك جزءٌ من واجباتِه التي يفخرُ بها، شأنه شأن شيخ العشيرة. وهنا يطلُّ علينا أحدُ مظاهر الاتِّجاه الأبويِّ (البطريركيّ)، الذي يَقبعُ هو الآخر في العقلِ المجتمعيِّ العربيّ، كجُزءٍ من بقايا مراحل تطوُّر المجتمع السالفة، حيث سيكونُ لنا فيه وقفة قصيرة في ختام هذه الحلقة التي أوشكَت على الانتهاء.

لذلك يُمكنُ القولُ إنَّ بعضَ الثورات الاجتماعيَّة الكُبرى، كالإسلام، قد تُغَيِّر بعضَ محتوياتِ العقل المجتمعيّ؛ ولكن، من جهةٍ أُخرى، تظلُّ بعضُ قِيَمِه الأصليَّة أَو القديمة راسخة، خلال مئاتٍ أو آلافٍ من السنين، أَحيانًا، تُقاومُ التغيير، وتعودُ إلى الظهورِ إلى السطح، بين الفينةِ والأُخرى، بل قد تبقى فاعلةً ومؤثِّرةً في العقل المجتمعيِّ بوجهٍ عامّ. فالعقلُ المجتمعيُّ يُسجِّلُ عادةً تطوُّراتِ المجتمع، ولكنَّه يظلُّ انتقائيًّا، إذْ يأخذُ بعضَها ويرفضُ البعضَ الآخر، كما ذكَرْنا في الحلَقات السَّابقة، وذلك تَبعًا لقوَّةِ القِيَم القديمة، ومدى تجذُّرِها فيه، بالقياسِ إلى القِيَم الجديدة.

وتتمَّةً لهذه الحلقة سنُحاول أن نشرح، في الحلقة القادمة، خمسَ نقاط أساسيَّة تتعلَّقُ بمسأَلةِ البداوة وترتبطُ بتكوين العقل المجتمعيّ العربيّ، وبظاهرة التمسُّك السالب بالتراث، وبالتالي بأزمة التطوُّر الحضاريّ في الوطن العربيّ؛ إضافةً إلى نقطةٍ سادسة مُكمِّلة وداعمة لآرائي في استمرار أَثَر القِـيَمِ البدويَّة في تكوين العقل المجتمعيّ العربيّ حتَّى اليوم. وهي كالآتي:
1- ظاهرة "عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة" كسبَبٍ أساسيّ ظلَّ، على الأرجح، يقبعُ وراء هذا الصراع الذي ما زال قائمًا بين الحضارة والبداوة، خلال مختلف مراحل تطوُّر الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة حتَّى يومِنا هذا، بدرجاتٍ مُتفاوتة ومُختلفة باختلاف المجتمعات على النَّحوِ الذي عرضنا بعضًا منه آنفًا.
2- أسباب هذه الظاهرة، خاصَّةً من خلال تناقض قيمة العمل المنتِج للثروة مع قِـيَمِ البداوة المُناوئة لمِثل ذلك العمَل، بما فيه الزراعة، و—
3- انتقال العرب المفاجئ من الحرمان والفقر إلى الغنى والرفاهية، الأمر الذي أدَّى إلى استغنائهم عن العمل.
4- غزوات البَدو المتواصلة على المناطق المجاورة للصحراء، أو على بعض الحواضر، على مَرِّ العصور، كسببٍ إضافيّ من أسباب تغلغُل القِـيَم البدويَّة في العقل المجتمعيّ العربيّ.
5- المقارنة بين عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة وانتقالهم السريع إلى الحضارة في عصورهم الغابرة وبين انتقال المجتمعات الخليجيَّة المعاصرة من البداوة إلى التحضُّر السريع والغنى المفاجئ، وآثار هذا التحوُّل.
6- وخلال ذلك سنتعرَّض لبعضٍ من آراء المفكِّر محمَّد عابد الجابريّ في بداوة العرب المستمرَّة حتَّى يومنا هذا، تلك الآراء التي تدعمُ فرضيَّتَنا في تجذُّر القِـيَم البدويَّة في العقل المجتمعيّ العربيّ

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !