احسان الفقيه
يمتزج الحلم بالذكرى يتداخلان حتى يَرِقَّ الزمن بينهما ليصير نصلا رهيفا وجارحا، فلا الحلم مستقبل يُطِلُّ طلِقا، ولا الذكرى ماضٍ يتوارى مفجوعا، انما كلاهما متمازجان مجبولان وماثلان في حاضر مثقل بمأساته…
ومن هنا احاول ان استعرض بياناتي الانسانية جمعاء علّي اصادف بين أمنياتي الكثيرة امرا واحدا قابلا للتحقق.
وكأي امرأة عربية باحثة عن شيء لا تعرف كنهه احاول ان أستكمل مسيرة التنقيب عن عوالم غنية بالحب والاثارة والدهشة واللامنطقية.
وكمن يتلو مزاميره على طائر مهاجر او كسندباد يطالب الحكاية ان تصمد في دهاليز المكتبات العتيقة، أحاول عبثا ان ألملم شعثي او ان اتمالك حنيني لوطن باقٍ فيّ رغم كل هذا الضيم ورغم كل تلك الموبقات.
حظيت بالأمومة بفضل من الله ونعمة والأمومة في وطني العربي الكبير لا تقتصر على الإنجاب والتفاخر أمام الاقرباء بعد رحلة من العقم المقيت، وانما تشمل جانبا آخر أشدّ عمقا وأكثر توهُّجا الا وهو البحث عن عُكّاز فَتيّ يلملم أذيال ستة او سبعة عقود من التهافت على إبراز اللهفة بغية امتنان قد لا يتحقق..
نعم انا أردنية ولكني فلسطينية ايضا، عمّانية وإربدية على حدٍّ سواء، فلاّحة ومدنية، أتكلّم الفصحى وأميل اليها اكثر.
سيغضب بعض كبار السن الجالسين أمام دكاكين قريتي الرئيسية مؤكدين ان عائلتنا أردنية أردنية ولا تمتّ لفلسطين ولو بعرق ملوخية، في زمن صارت فلسطين تهمة وصار كل من ينتسب اليها ولو وجدانيا متّهما بل وارهابيا.
أحبّ المقلوبة والمنسف، وأجيد طهي كل ماهو فلسطيني مثلما أجيد بعضا من الطبخات الاردنية عدا (الكعاكيل) فقد ضقت ذرعا بمحاولة اجادتها رغم اني ملتزمة بتطبيق الألف خطوة التي علمتني اياها جدتي رحمها الله.
على كل حال دعونا من الحديث عن الطبخ، ولنتحدث عن الغناء أحبّ الغناء البدوي (تدلل ياراعي الخربوش) و (مرعية يالبنت مرعية) وكم حلُمت بفارس بدويٍّ ونبعٍ وقربة ماء وقلبٌ تفتنه القصيدة الأولى وعُرسٌ يلي فنجان القهوة الأول ووليمة تتحدّث عنها جميع القبائل لزمن قادم.
وأحبّ الغناء الفلسطيني (يازريف الطول) و (عالرباعية) و(علاد العونة) وقد سرق كلا الجانبين بعضا من أغاني الجانب الآخر ونسبها اليه بكل ثقة واعتزاز بأنه المصدر.
أنا فيروزية وأحب أغنية “عمّان” مثلما أحب اغنية” يا قدس”، ويذوب قلبي في مغارة باب الشمس التي كانت بطلة رواية الياس خوري والتي تحوّلت الى فيلم مدهش بجزئين أحدهما عن الرحيل والآخر عن العودة.
أقف وقفة احترام عندما أسمع السلام الملكي الاردني، لا من أجل أني أحبُّ الملك مع أني بالمناسبة لا أكرهه ايضا – بل أقف من أجل العلم ومن أجل الاردن- الأردن بشحمه ولحمه، وأقف بجلال حزين حين ينتفض المكان أي مكان بأغنية “موطني” لابراهيم طوقان بكل ما لمعانيها من دلالات مرتبطة بالتراب والكبرياء والصمود وقيمة الوطن وحتمية النصر.
ومن “كروم مدينة الخليل” يرسل لنا أقرباء زوجي ورق عنب طازج من أشهى مايكون، ويرسل لي اهلي دوالي” من حقول قريتي “كفرأبيل” والتي تتميز بالطراوة والحموضة اللذيذة.
أحبّ التطريز الفلاحي الكركي حيث أني درست في مؤتة وزوجي أيضا مولود في الكرك .. وحضرت أفراح أهل الكرك ولبست من ملابسهم ونمت في بيوتهم ايضا، وسأقصدهم الصيف القادم ايضا بدعوة من أحد أصدقائي وزوجته وسأتعرف على خياطة بارعة لتصميم ثوب جنوبي الطراز.
وأحب ايضا تطريز الفلسطينيات وقد أهدتني صديقتي الفنانة ليلى ملحم وشاحا جميلا بتطريزات فلسطينية، كما ان صديقتي وداد قعوار المعروفة بنشاطها في مجال تجميع الأزياء التراثية من مختلف بلاد الشام قد تحدّثت لي ذات لقاء صحافي عن تاريخ كل ثوب وكل رسمة وكل تطريز وكل قلادة وكل خلخال مشيرة الى ان الاردن وفلسطين مطرزتان هنا في القلب لا تختلف خلاخل او أثواب نسائهما مثلما لا تفصلهما جبال وانهار وتضاريس ونقيق العالم كله.
أحبّ عادات اهلي بالعيد وأحب ايضا عادات أهل زوجي، أشعر باللذة حين أكون عند احدهم وأتخيل الآخر ماذا يفعل. وأبتسم بعمق لجمال هذه التماهي بالحب.
أشعر بالحب نحو كل ماهو أردني لأني انبثقت من ذلك الطين الاردني النقيّ من الاسمدة والمخلّفات الروحية الملوّثة، وأشعر بالحنوّ لكل ماهو فلسطيني لأنني كبرت في كنف حبي للقضية وكبر معي الشغف وكبر فيّ الحلم ان أكبر اكثر وأن أقدّم شيئا لها و من أجلها حين كنت في مدرستي وحين التحقت بجامعتي ولكنني حين كبرت أكثر عرفت ان الموضوع أكثر تعقيدا من قدرتي على الاستيعاب وأكبر من مجرد الغضب وأعمق من مجرد الحزن امام الفضائيات، وان ليس بيدي الا ان انتفض مع المنتفضين في وجه كل من يحاول تدنيس حبّنا كأردنيين لوطننا فلسطين ولشعبه المصهور فينا قبل ان يأتي من ينادي بذبح التاريخ بسكين الجغرافيا مساعدة للعدو على إحكام قبضته.
خلال أيامي الأولى في عمان كنت أتسكّع في عمان القديمة، وكنت أُفضل زيارة البيوت الجميلة بسكّانها المستورين بتلابيب الحمد والشكر، وكنت أحبّ قراءة الجدران والحارات المثقلة بالحكايا والألم والفجيعة عن أرض مغتصبة وشعب جريح هناك، وعن وطن مسروق وشعب جائع هنا، وبين الوطنين تُحاك المؤامرات التي تشارك بها كل من السارق و المغتصِب.
لست محللة سياسية فثقافتي محدودة ولا زلت مبتدأة وغير متفرغة، ولست بارعة في مجال المدح او التغنّي بالشعارات، ولكنني وبلا شك لديّ الكثير من الأسرار وفي جُعبتي آلاف الحكايا عن الحب والحزن والرغبة والانكسار.
هذا النص سبق ونشرته لأول مرة هنا وأعدتّ نشره اليوم لأنه يتنساب والأجواء الخانقة التي يعيشها الأردنيون المعتدلون من كافة الأصول حيث الاتهامات الجاهزة والشعارات المُعلّبة لكل طرف ولكل اتجاه تلوّث المكان وتُسقط الزمان في مُستنقع آسن إما بالتورّط او السلبية واللامبالاة و لن يغفر لنا الجيل القادم صمتنا وجبننا وتغاضينا عمن يحاولون تشويه بلادنا واعتبار العنصرية وطنية والاقليمية بطولة وجرأة ورجولة.. ومن جديد وعبر دنيا الرأي سأبدأ وكل خميس حكاياتي.. ان سُمح لي..
كاتبة أردنية من قرية كفرأبيل (محافظة اربد
التعليقات (0)