السلام عليكم .. عند أخذ نظرة عامة لما تعرضه التلفزة المحلية والفضائيات العربية سيُلاحظ أن هنالك اتجاهات عريضة جدا و لا بأس بها في إعلامنا العربي لجعل من عقل المتلقي - العربي - وعاء كبيرة جدا يلقى فيه و يُضخ كل أنواع الثقافات و العادات المجتمعية الشرقية منها والغربية و لا نرى هذا النهج إلا في إعلامنا العربي المتفرد في هذا المجال .. فما تكاد تغبر و تولي أنماط مجتمعية مغايرة لأنماطنا المعتادة حتى تأتي الأدهى منها و الأكثر غرابة عنا .. و مما يزيد الغرابة في هذا التوجه الإعلامي العربي هو العبثية البغيضة المتمثلة بما يسمى بـ " الدبلجة " ..
ففي التسعينات احتلت المسلسلات المكسيكية فضائياتنا بشكل رهيب واهتم بها المشاهد العربي بشكل لا يوصف حتى وصل هذا الاهتمام لأطفالنا للأسف .. ومن الأمور التي أتذكرها أننا كنا نتنافس من يستطيع الحديث باللغة العربية كأبطال تلك المسلسلات فقد ارتبطت لغتنا العربية بأبطال هذه المسلسلات التافهة ، فأي ارتباط أشر من هذا الارتباط !! و من منا لا يتذكر أنطونيلا أو توماس أو حتى مسلسل " روزاليا " الذي كان أول مسلسل مكسيكي يعرض على الشاشات العربية بدبلجة عربية بسيطة.. كنت أرى العجائز يلتففن حول التلفاز في المساء لمشاهدة هذا المسلسل و لا يُسمح لنا نحن الأطفال بإصدار أي صوت يمنعهن من الاستمتاع بكل لقطة من هذا المسلسل .. و كن ينزعجن جدا عند ظهور الدعايات و الفواصل الإعلامية التي تقطع شغفهن بمتابعة الأحداث الشيقة الطويلة التي قد تنتهي أعمارهن ولا ينتهي هذا المسلسل ..
و تأتي علينا هذه الأيام المسلسلات " الرقيقة الحالمة الوردية " المسلسلات التركية التي تحاكي ثقافتنا العربية بكثير من الأمور.. كالملامح العربية التي كان يحملها بعض الممثلين الأتراك و بعض الأثاث و الديكور و الفرش والسجاد العربي الأحمر الذي امتاز به البيت العربي و الصوفايات الدمشقية الجميلة .. و كذلك الأسماء العربية كـ " زينب " و " خديجة " و " مهند " و " نور " و غيرها من الأسماء التي أرضت غرور العروبة المرضي المتأصل في نفسياتنا نحن العرب .. كذلك كان لهذه المسلسلات التأثير المباشر والفظيع ليس على عقولنا الواعية و اللاواعية بل أيضا على سياستنا الخارجية وقضاينا مع العدو الصهيوني .. فأي إعلام هذا الذي بات يلقي علينا ما هب ودب من ثقافات و ملل ونحل مختلفة عندنا .. و المضحك هذه المرة أن الدبلجة ابتعدت كثيرا عن اللغة العربية وأخذت منحا آخر .. وما كان ميزة في الماضي أصبح عيبا كبيرا في هذه المسلسلات المدبلجة .. فقد كانت اللهجة السورية هي اللهجة المختارة لتقديم هذه الوجبة الفنية و هذا المسخ الثقافي المشوه لكلا الثقافتين العربية و التركية على حد سواء ..
حتى دول شرق آسيا أصبحت تصوغ لنا أنواعا جديدة من الأنماط الحياتية الخاصة بالشعب الهندي مثلا أو الشعب الصيني أو التايلندي بلهجات شتى .. أولها اللهجة الكويتية التي أصبحت تُرسم على شفاه الهنود و بتنا نحن نصدقها .. و نصدق مثلا أن الممثل الهندي الشهير سلمان خان كويتي و أن لسانه لا ينطق إلا باللهجة الكويتية !! ومن فترة بسيطة و أنا أقلب القنوات الفضائية وقعت عيني على مسلسل إما ياباني أو تايلندي و كان البطل - ذو العينان المقطبتان - يتحدث بالعربية وكانت تصرفاته كلها و سلوكياته أبعد ما تكون عن الثقافة العربية .. فهل هذا تكالب من إعلامنا العربي على دبلجة الثقافات الآخرى !! أم تكالب الثقافات الأخرى على العقل العربي الذي بات كمصفاة " رديئة الصنع و واسعة الثقوب " ينفذ منها الغث والسمين !! لا أستطيع أن أقتنع بأي حال من الأحوال أن هذا هو نوع من التنوع الثقافي أو التلاقح الفكري كما يحلو للبعض تسميته .. إن ما يحدث في الساحة الإعلامية العربية الحالية من دبلجة صوتية للمسلسلات التركية والإيرانية وغيرها ما هو إلا اختزال قبيح و ذميم للعالم شرقا وغربا بقرية " ريفية " صغيرة تسمى العقل العربي ..
الإعلام صورة .. و حتى نتقبل أي صورة لابد أن تكون " صادقة " و واضحة الملامح والتفاصيل .. أما الخلط فهو أمر غير مستساغ و لا يتقبله الذوق العام كما لا يُتقبل السكر مع ملح الطعام .. والاطلاع على الثقافات المغايرة و الأنماط المجتمعية الأخرى لا يكون بالدبلجة الصوتية للمسلسلات أو لأي مادة إعلامية .. إنما بنقل ( الصوت و الصورة ) كما هي .. و لا بأس بالترجمة التي اعتدنا عليها في أسفل الشاشة .. لأنني عندما أحب أن أطلع على ثقافة الآخرين و أطوارهم الحياتية أحب أن أطلع عليها كما هي دون تغييرأو تحريف أو دبلجة أو إضافات .. و أحبذ - إن كنت ممن يتابع المسلسلات بشغف - أن أسمع أصوات الممثلين الحقيقية و أن أتفاعل مع تمتماتهم وآهاتهم وضحكاتهم و مشاعرهم الحقيقية الصادرة من ذواتهم .. أما الدبلجة الصوتية التي أصبحت مهنة إعلامنا العربي " الفقير و الفريد من نوعه " هذه الأيام فلا تعتبر بأي حال من الأحوال اطلاع على ثقافات الآخرين بل هو تشويه لها و تشويه لنا أيضا .. لأن اللغة و التواصل اللغوي الكلامي هو أول بوابة لأي ثقافة .. فكيف نجعل هذه البوابة عربية بتفاصيل ثقافية مجتمعية آسيوية أو غربية أو تركية !!
أطيب المنى ..
التعليقات (0)