من تخريب محلات جواد في البحرين، إلى تصريحات المحامي السعودي سلطان بن زاحم حول شرف الشيعة، وصولاً إلى السجال حول وضع الإعلام في المقابر الجعفرية في الكويت، وقبلها وبعدها الكثير، كلها أحداث تؤكد على أن دول الخليج لن تورث الأجيال القادمة نفطًا فقط، وإنما مزيدًا من الاكتشافات في خرائب التاريخ، وإعادة إحيائها على الأرض، على صورة صراعات لا تنتهي بين مرويات وتأويلات ترفض أن تستقر بين دفّتي كتاب.
لا نشكك في أنّ هذا اللون من القمل الفكري ليس دخيلاً على مجتمعاتٍ مازالت تتمسّح بعناوين ماقبل مدنية، فهي تغفو على شهوة التنازع على ملكية الحقيقة، وملكية التاريخ، وملكية الحياة، وتصحو على بركٍ آسنة من السجالات التي يتبارى كلُّ فريقٍ على الغرف منها وصبِّها في كؤوس الناس، لكن هذا التنازع المحسوب على المحاججة والملاججة الفكرية لا يعبر الشوارع دون أن يتدثّر بجلابيب السلطان، ولا يستطيع أن يمد ساقيه على الأرض من غير أن يقتطع تذكرة من أولئك المتنفعين من قسمة الناس ليجعلوا من وجودهم خيار الناس الوحيد.
ستصبح هذه المواجهات في صعودها وهبوطها ذريعةً لتخويف كل طرف من الآخر، وتوسيع دائرة المتمسحين بالسلطة كعنوان للخلاص من تلك الخصومات، وهو ما يجعل زمرة من المتنفذين والمثقفين هنا وهناك يغمضون العين عن كل خطايا السلطة ويبررون كل التجاوزات على حقوق المواطنين، لأنَّ السلطة أصبحت وحدها سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى!
ستفضّل السلطة أن يتوسّل كلُّ فريقٍ عزلته ويطفئ النور على ما تبقى من أحلامه فالخراب هو العنوان البديل للسلطة الديكتاتورية، واللهاث هو كل ما ستجنيه الضمائر الذاهبة بعيدًا في رغباتها بالديمقراطية والمساواة والعدالة، وهذا يفسر سعي السلطة البحرينية وترسانتها الإعلامية منذ انطلاقة الأحداث إلى تعريف المعركة مع المعارضة بأنها صراعٌ اجتماعي بين الطيف السنّي والشيعي تارة، ومواجهة بين العروبة والتفريس في أطوار أخرى، وما تستبطنه هكذا مواجهة من عناوين التجابه بين ما يسمونه "الأطماع الصفوية" وَ هويّة الخليج العربيّة، والصفوي بحسب هذه الرؤية هو التشيّع السياسي العابر للبلدان!
لن تحتاج السلطة في البحرين في ظرفها الحرج أكثر من إطلاق العنان لكل الأصوات السلفية التي انتعشت في سهوٍ من الزمان في هذه الجزيرة الوادعة، باعتبارها الخطاب الأكثر حدةً وخصومةً مع الشارع الشيعي، مستفيدةً من ماكينة التفريخ السعوديّة التي اكتفت خليجيًا بخلق كتلة ممانعة للتغيير الديمقراطي، من أولئك المتاجرين بقضايا الدين، كبديل عن مشاريع التسليح التي بادرت إليها في دول عدّة، وكان آخرها سوريا. وقد ساهمت السعوديّة بخطابها الديني ومنابرها الإعلاميّة في الحفاظ على ديمومة هذه القناعة بوجود صراع سنّي شيعي بالمنطقة، وفي تمرير ما يضمن عدم انطفاء هذه اللحظات المجنونة لتصرف النظر عن لحظة الاستحقاق والمطالبة بالاصلاح في المنطقة، فلا يمكن النظر على سبيل المثال إلى تصاريح مفتي المملكة وخطباء الحرم المحرضّة ضد الشيعة باعتبارها اجتهادات شخصيّة، بل هي جزء من اشتراطات اللعبة التي يديرها الأخ الأكبر في الخليج.
هذه الحلول التقليدية التي دأبت على اقتراحها الذهنيّة السعودية قد تفلح في تأجيل الحل، وفي إشغال الناس ببعضهم البعض، لكنها لا تعالج المشكلة بل تزيدها تفاقمًا، فكلَّما أمعنت السلطة البحرينية في إذكاء تلك النار ستجد نفسها مع الوقت قد قوّضت كل مقومات الدولة وفتحت الحياة السياسية على جحيم ستكون أول الخاسرين فيه.
مراة البحرين
مقالات للكاتب علي داوود
التعليقات (0)