يحتاج المرء الى اكثر بكثير من مجرد البلاغة والقدرات الخطابية لكي يستطيع ان يقف امام الناس مطالبا اياهم بغض النظر عن بضع مئات من الجثث المليئة بالكدمات وآثار التعذيب او المصابة في احسن الحالات –باصابات مباشرة بالرأس والصدر برصاص القوى الامنية التي يفترض بها حماية نفس اولئك المواطنين..وكثير من الجرأة قد تتطلبها القدرة على اخبار الامهات الثكالى بان عليهن ان يحتسبن ابناءهن وفلذات اكبادهن لوجه القيادة القطرية للحزب المقاد..وان لا يعدوهم الا اضرارا جانبية قد تكون مألوفة –ان لم تكن ضرورية- في خضم السير النضالية للقادة العظام..
خليط من عبارات مكرورة عديمة القيمة والوزن والتأثير كان هو الخطاب الثالث الذي كوره الرئيس السوري بشار الاسد من على مدرج جامعة دمشق وقذفه في وجه العالم الذاهل من تلك القدرة اللافتة على لوك واجترار نفس الوعد والوعيد الذي تضمنه خطابه الاول متجاهلا ان هناك الفا وخمس مئة من الشهداء وعشرات الالوف من المعتقلين والمعنفين والهاربين الى خارج الحدود تفصل بين الخطابين..
اربعة شهور من الحديد والنار لم تكن ليكف الرئيس عن ممارسة هوايته في احالة جميع المشاكل والازمات العضال التي تخنق المجتمع السوري الى اللجان التي تتناسل وتتفرع وتتشابك وتشكل وتحل دون ان نرى ويرى معنا الشعب السوري الصابر المنكوب اي نتيجة لعملها..
لا امن ولا حوار الا بعد الاستقرار..يقول الرئيس..والاستقرار يحتاج الى ان يكف الشعب عن الاحتجاج..وكلام عن حساب عسير ينتظر من رفع السلاح في وجه الدولة..وعن المتسببين في اراقة الدماء..يضيفه الرئيس مبرئاً ومبرراً لقواته ومرتزقته افراطهم في الولوغ في دماء الجماهير وقتلهم العشرات من الابرياء العزل الذين لم يرفعوا الا حناجرهم ولافتاتهم التي تنادي بالحرية والعدالة والاصلاح..اصلاح قد لا يطابق ما استمرأ النظام تكراره والاسفاف به في جميع الخطب والبيانات التي تقيأها على الناس حتى اصبحت مشكلة تحديد ماهية هذا الاصلاح وعدد اللجان التي قد تتكفل به اكثر صعوبة واشد تعسرا على الحل من الوعود التي قد يقدمها مثل هذا الاصلاح..
عموماً..ما يمكننا ان نخرج به من هذا الخطاب هو ان النظام لا يملك الا الاستمرار في حله الامني رغم انكشاف مثل هذا الخيار وتراجع قيمة المنتظر من نتائجه ومسؤوليته المباشرة عن تزايد الاحتجاجات واتساع رقعتها..وانه لا يتحصل على اي صورة او تصور او ارادة تجاه الحل المبني على التعامل المرن المتفاعل مع المطالب المشروعة للجماهير المحتجة..وان هناك نوع من الاصرار المرضي على عدم الاعتراف بالقوى الشعبية المنتفضة ضد تغول القوى الامنية وانتهاك حقوق الانسان..والتمسك باسلوب الاحتكام الى القوة في محاولة كسر الارادة الشعبية والتلفع بقصص المخربين والمندسين والمؤامرات الخارجية ..
ما يمكننا ان نتلمسه من هذا الخطاب هو ان النظام قد يكون فقد القدرة نهائيا على الاحساس بالواقع واصبح يفتقر الحكمة اللازمة للتغلب على مثل هذه المعضلات..وان الرئيس قد يكون ما زال يراهن على عامل الوقت دون ان يستوعب انه بدأ يتفلت من بين ايديه يوما بعد آخر تفلت قدرته الواعية على اتخاذ القرار..وان الايام القادمة قد تكون حبلى بنذر وبشائر يصعب تحديد نوعها وماهيتها..ولكن ما يمكننا ان نؤكده بكل ثقة..وبدون الكثير من التردد..ان الرئيس بكل ما استحضر من مهاراته في الكلام..وكل عبقريته في المحافظة على ابتساماته الغريبة وسط كل هذا الركام الذي احدثه في ارض وعرض وكرامة سوريا الحضارة والتاريخ..وكل ما استعمله من العبارات المستظرفة..لم يعد قادرا على اقناع احدا بمثل هذه الخطابات..
التعليقات (0)