صديق النحات
..كان لي صديق لم يكمل مراحل التعليم ..واكتفى من التعليم بالمرحلة الثانوية ولم يسعفه الحظ بالحصول على شهادتها ..وكان هذا الصديق أنموذجا في الفهم والتقصي والبحث والتوثيق والقراءة والكتابة والنحت على قطع الشمع والصابون ..فيشكل منه أشكالا تأخذ الألباب .. وتثير الخوف والرعب أحيانا ..
وما شاهد احد أعماله الا وتعجب من قدرته على التشكيل .. والتخيل والتصوير .. وقدرته على الوصف والتنسيق .و كانت له عادة احسده عليها ، وكانت اقرب الى الهواية منها الى العادة ، فالورقة والقلم بجانب رأسه على الدوام ، حتى لا تفوته لحظة ، او فكرة ، او صورة ، كان يدون كل رؤية أو كل حلم يحلم به او كابوس على الورق .. وتشكل لديه كتاب ضخم من الاحلام والرؤى .. صاغه بأسلوب فريد .. اسم الحلم .. تاريخه .. الساعة .. ومكانه ..
وحدثني عن حلم يوم أن دخل النار .. ويوم أن دخل الجنة .. ويوم أن مات .. ويوم أن بعث ..كانت صور غاية في الغرابة والروعة.. صور رحلاته ومغامراته في البحار والقفار والغابات والجبال ، كم أعجبتني الفكرة الغريبة ، التي ربما لم تخطر على قلب بشر ، او على الأقل لم اسمع عمن قام بمثل هذا العمل . وكانت أحلامه غاية في الغرابة والفرادة ، فمن احلامه ما كانت تتم على شكل حلقات متسلسلة ، جزء اول وجزء ثاني وثالث وهكذا .. وحدثني عن التسلسل قائلا :
ليس بالضرورة ان تكون الاجزاء متتابعة متتالية فربما يكون الحلم امس ، ويأتي الجزء الثاني كتكملة له بعد عام اكثر او اقل ..وحدثني ذات مرة انه حلم انه يأكل التراب .. وعندما استيقظ في الصباح وجد طعم التراب في حلقه ( وقد اقسم على ذلك ) وحدثني عن حلم كان من ثلاثة اجزاء ، الاول تمكن فيه من قتل ابن الجيران ، وفي الثاني راح يبحث عن طريقة ليواري الجثة ، وفي الثالث يدفن الجثة ، وفي الرابع تأتي وزارة الاشغال لتعمل شارع فتحفر الارض فيجد العمال القبر والجثة ، وهكذا يستمر الحلم في حالة من العذاب المستمر وكان حينما يحدثني عنها أرى الخوف في وجهه .
في يوم قرأت كابوسا من كوابيسه .. بحق هو فيلم رعب .. يعجز عنه هتشكوك ..وكتاب الخيال العلمي ..جدار جبلي ينحدر أملسا الى الهاوية حيث تغلي حمم بركانية .. حواف ملساء .. يمشي على رف بالكاد يتسع لقدمه .. ممتد الى ان يصل الى منحنى ..ثمة اشخاص في اعلى المرتفع .. كأنهم يتفرجون على المشهد .. يمد يده اليهم لينقذوه مما هو فيه .. يراهم اقرب كثيرا مما هم بالواقع يمد يده .. يمدوا له ايديهم .. تكاد الايدي ان تتلامس .. ثم فجأة ..تبتعد ...فلا يسقط وينتهي الامر ولا هو خارج فينجو .. يتشبث بيديه واسنانه بكل ما يمكن ان يثبته ... يكاد يهوي .. يصحو فيجد في فمه طعم التراب .. وقد اقسم انه كان في فمه تراب .
ولو نظرت الى منحوتاته لوجدت فيها العجب العجاب ، الوجوه متتابعة وكأنها في صف او طابور خلف بعضها ، الأيدي ذات أظافر طويلة .. العيون مجرد فتحات ترى من خلالها ما خلفها ... ترمز المنحوتات الى كائنات غريبة لا ترى الا في عالم سحري وهمي ، عالم مخيف ، أهداني أكثر من قطعة نحتية منها ما هو على كتله مذوبة نم الصابون ومنها ما هو على كتلة شمعية كبيرة ... كانت صغيرتي تخافها .. وتخليت انها تأتيها في الليل .. تناديها باسمها .. فتنهض فزعة خائفة .. ثم اصبحت لا تجرؤ على الدخول ليلا الى غرفة الضيوف حيث توجد تلك المنحوتات .. حتى حدث خلاف بيننا كعائلة اضطررنا عل اثرة الى اخفاء المنحوتات المخيفة على السدة بعيدا عن اعين الصغار ..
ولا زال صديقي النحات ينحت ، ولا زالت الاحلام تأتيه كما عهدها ، ولا زال يقرأ كل ما يحفظ من الايات والاذكار قبل ان ينام ليمنع تلك الكائنات الغريبة ، وليكف عن الكتابة ... فما افلح في مسعاه ... وكنت اتمنى ان لا يستطيع لاسمع منه المزيد .
التعليقات (0)