مواضيع اليوم

اخفاق المشروع العقلاني

يوسف المحسن

2009-12-20 10:47:30

0

اخفاق المشروع العقلاني
ازمة دولة / مجتمع / ثقافة
يوسف محسن
yusef9611@yahoo.com

هل يمكن جمع خليط من القوميات والاثنيات والطوائف لها تاريخها الخاص وانساقها الثقافية وذاكرتها السياسية الجماعية واساطيرها وشهداؤها الكازرمون في كيان سياسي واحد لخلق شعب متجانس في الخصوصيات والهويات؟
قد يبدو هذا التساؤل مرهوناً بالاشتراطات التاريخية ولكن وضعه داخل مجال التداولات النقدية ضرورة تاريخية راهنة للكشف عن خرافة الدولة العراقية والتي تشكلت العام 1921 والتي هي نتاج نمط الهيمنة الكولونيالية البريطانية واستجابة لحقل التصورات الثقافية والاجتماعية والسياسية المهيمنة في المجتمع العراقي انذاك، فقد تم (استيراد الملك فيصل الاول) وتعينه لحكم العراق في حين تكونت الجماعات التي اسهمت في تأسيس الدولة العراقية من شيوخ القبائل العربية والاغوات الاكراد وكبار التجار والضباط الاشراف السابقين في الجيش العثماني. هذا التحالف التقليدي، استطاع البقاء في السلطة السياسية حتى العام 1958 مشكلاً (نخبة سياسية) في المرحلة الملكية الدستورية وقد تم استخدام الجيش لضمان وحدة الدولة المركزية عن طريق القوة والدمج القسري للجماعات الاثنية والقومية والطائفية وتذويب الخصائص القومية والثقافية لهذه المجموعات، خالقة تعارضاً بين الهوية المركزية للدولة العراقية وتعدد الهويات داخل المجتمع الحافل بالتنوع والتعدد، في حقبة الخمسينيات وخاصة بعد وصول النخبة التقليدية العراقية الى (أزمة مستديمة) ادت عوامل موضوعية الى تقارب الجماعات السياسية المعارضة وتبلور جبهة الاتحاد الوطني والتي لعبت دوراً في وصول المؤسسة العسكرية الراديكالية الى السلطة العام 1958 ولعدم امتلاك هذه المؤسسة نسقاً، ايديولوجياً واضحاً او مشروعاً اقتصادياً/ سياسياً تحولت هذه الجماعات من الضباط العسكرين الى بؤرة ازمات مستديمة وتعطيل الدستور وانهيار جبهة الاتحاد الوطني واندلاع الصراعات السياسية، حتى مجيء انقلاب 1963- 1968 ليبلور تاريخية الدولة الشمولية القومية، اذ استطاع حزب البعث العراقي الهيمنة على السلطة السياسية في تشكيلة اجتماعية- اقتصادية مفككة ونظام الدولة يقوم على احتكار السلطة للزعامات الفردية ونمو العنف السياسي.
امام هذا النسق التاريخي للمجتمع العراقي، بدأت الدولة القومية بقيادة البعث العراقي بتخطي الشكل التقليدي وصياغة تشكيلة جديدة تتطامن مع التأطيرات القانونية والوظائفية للدولة البعثية. حيث تم دمج مؤسسات الحزب والدولة في كيان واحد يرمز الى الهوية السياسية ومع انهيار الزعامة القومية الناصرية وارتفاع اسعار البترول العام 1973 نتيجة أزمة الطاقة، تمكنة الدولة البعثية العراقية من صناعة نظام مركزي صارم يستند الى شبكة معقدة من نظام القرابات والروابط القبلية والجيش ومؤسسات الشرطة والامن الوطني والدمج القسري للهويات الفرعية.
استطاع هذا النموذج للدولة في صوره الاولية ان يحقق الهيمنة والسيطرة الشاملة على المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وتنفيذ سلسلة من الاجراءات حسبت من قبل اليسار العراقي بوصفها المسار الحقيقي للاشتراكية (الاصلاح الزراعي. تأميم الثروات الريعية.)
وبسبب ازمة التكوين المجتمعي للمجتمع العراقي منذ عشرينيات القرن الماضي لم تستطع الجماعات العراقية ان تبلور تنظيماً مؤسساتياً سياسياً قادراً على تحجيم الدولة الشمولية القومية فضلا عن قوة الدولة الريعية وهشاشة الطبقة الوسطى العراقية وعدم وضوحها الفكري، اتسعت الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية للدولة الفاشية العراقية ونمو النزاعات العدوانية العسكرية واستخدام سياسة الاقصاء والاستبعاد للتنوعات الثقافية واحتكار السلطة.
بعد انهيار الكتلة السوفييتية دخلت الدولة الوطنية العراقية في الطور الاخير من ازماتها الدورية وخاصة بعد تبلور ايديولوجية التوسع الرأسمالي النيوليبرالي، اذ تم تفكيك الدولة العراقية العام 2003 وبداية عصر الهيمنة المركزية للسلطة السياسية.
الملك ذو البصيرة
يطرح الملك فيصل الاول مؤسس الدولة العراقية الحديثة (1885- 1933) في مذكرة سرية العام 1932 (لايوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أية فكرة وطنية متشبعة بتقاليد واباطيل دينية لايجمع بينهم جامعة) ويرى ان البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها اهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية (الوحدة الفكرية والملية والدينية).
وعلى الرغم من محاولات النخب الملكية العراقية تجاوز هذه المشكلة عبر اشراك العناصر غير العربية في قيادة الدولة العراقية الا انها فشلت في خلق هوية عراقية مشتركة وذلك لسببين كما يحدد ذلك سليم مطر في (الذات الجريحة).
1- تداخل المشكلة القومية مع المشكلة الطائفية والدينية لان النخبة الملكية ورثت عن الدولة العثمانية مشكلة التكوين الطائفي للنخب الحاكمة، فلم يكن هدف النخب الملكية توحيد مختلف العناصر العراقية على اساس التنوع اللغوي او الاقليمي بل على اساس التكوين الطائفي ما ادى الى عزل العناصر الشيعية والتركمانية والكردية (الفيلية) وقد استمرت آليات العزل السياسي في عصر الجمهوريات العسكرتارية.
2- بروز تيار قومي (الحركة القومية العربية) منذ الخمسينيات واستحواذه على السلطة السياسية منذ ستينيات القرن الماضي لذا مارس سياسة عنصرية ضد الاقوام غير العربية (الكرد، التركمان، الاشوريين، الايزيدية، المسيحيين السريان).
أزمة بنيوية
ان العراق لايمثل حالة منفردة من حيث التنوع القومي او الطائفي او الاثني وهو اقل تنوع من امم اخرى اضافة الى ذلك ان التماثلات اللغوية او العرقية او الدينية او الطائفية لاتقدم عبر ذاتها ضمانات لوحدة دولة ما واستمرارها. الذي حصل في العراق هو عدم توفر الاشتراطات التاريخية لقيام دولة حديثة وهذه المسألة لاتكمن في التكوينات الاجتماعية او انها دولة نشأت عبر تأثيرات سياسية او كونها حديثة التكوين وانما المسألة وجود ازمة بنيوية سياسية نشأت مع وصول المؤسسة العسكرية الى السلطة السياسية وتفاقمت مع صعود انقلاب العام 1968 ذي الابعاد التهميشية القومية الفاشية (تهميش العرب الشيعة والتركمان والاشوريين والايزيدية والعرب السنة من المنحدرات الحضرية، الموصل، بغداد، البصرة).
ان ظهور هذه الدولة القومية الشمولية في احد اطوار التاريخ السياسي للعراق نتيجة لازمة تشكيل نظام البنى التاريخية ومحيط جغرافي سياسي ضاغط اضافة الى ازمات اليسار العراقي التقليدي وعدم تكون الطبقة البرجوازية الوطنية وصعود الفئات الريفية بايديولوجيتها القومية الرثة والتي تتسم بالنزاعات الشوفينية. انتج بناء دولة توتاليتارية تلغي الاختلاف والتعدد والتنوع القومي والاثني والطائفي وتمارس العنف والاقصاء للجماعات المختلفة (الدينية والسياسية).
هذه الدولة ولدت من رحم الوسط العلماني القومي، تقوم بنيتها على حاكمية الحزب الواحد والاستبداد والتفرد واحتكار آليات العنف وايديولوجية قومية ومؤسسات العشيرة (ماقبل الدولة).
جماعات متخيلة
نتيجة للتركيبات الديمغرافية للمجتمع العراقي تبلورت مجموعة مكونات تتمركز حول هويات (اثنية، قومية، دينية) وهي صياغات لتمثيلات (الحيز السياسي) داخل هشاشة التكوينات العراقية حيث اعتمد (النسق المقدس) كحقل شائك ومعقد.
لذا فان هوية الجماعات الشيعية، نتاج للقوى الثقافية والدينية والاضطهاد التاريخي والشعائري والاقصاء عن الانظمة الفكرية الاسلامية، اضافة الى تراكم منظومة الرأسمال الرمزي والتي تبلورت عبر حقل التاريخ، فهي تمثل هوية جوهرية، متجوهر، تفتقد للتشكيلات الاندماجية بسبب الصرعات بشأن (المواقع والهيمنة في السوق الرمزي) هذه الهوية تقوم على مخزونات ضخمة من الاستيهامات الذاتية والجماعية والوعي الاغترابي والتمزق ويعود الى الظهور الدوري لشخصيات ورموز كارزمية في وعي الفاعلين الاجتماعيين السياسيين.
في حين لم تتشكل هوية الجماعات السنية الا تحت وطأة الصراعات السياسية الحديثة. لذا سادت الرؤية اللاعقلانية وتخلف سردياتها السياسية والايديولوجية والدينة لصالح خطاب ميتافيزيقي ذي بنية اقصائية يسعى الى تقويض التنوعات الثقافية العراقية.
هذا الصدام بين الهويات داخل المكون العراقي (صدام الهويات الاصولية) صياغات سياسية مخترعة لاحداث التفكك والاضمحلال في حقل التاريخ.
ويطرح حنا بطاطو فرضيته في غاية الاهمية حيث يقول: ان التوجهات القومية للدولة في حقبة ما قبل البعث استطاعت ان تتعايش مع الولاءات القديمة (الولاءات الطائفية والقومية والدينية..) انذاك وتعمل على تآكل وتفتيت تلك الولاءات.
هذه الفرضية اثبتت عقمها في تاريخية الدولة العراقية الحديثة خلال اصطدامها مع مفهوم العصرنة واعادة بناء الامة- الدولة، سواء كان ذلك في حقبة الجمهوريات او الدولة الفاشية البدوية.
وقد تحولت مجموعة الهويات العراقية الى تركيبات سرمدية متجوهره وحقل صراعات دورية وصدام بسبب انهيار المشروع الليبرالي العقلاني ونمو الاصوليات الدينية والنزاعات الطائفية ورافق هذا الفشل انبعاث الهويات الفرعية لاسيما بين الجماعات العراقية وهو يمثل هزيمة سوسيولوجية للدولة الثقافية والمجتمع.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !