بكائيات عاشق.. أخرسه الشقاء وأنطقه الحب د:احمد الجندي
أقدم لكم نفسي: كائن فان.. قدماه على الأرض وروحه في السماء.. يأكل خبزه بيد ويلمس النجوم بيد.. عيناه مبصرتان لكن لا يرى الغد.. أخرسه الشقاء وأنطقه الحب.. سليل للموتى عاشق للحياة.
طرقت كل الأبواب.. لم أترك بابا إلا وطرقته.. ومن خلف الأبواب المغلقة سمعت كلمات الحب عشرات المرات.. وكان النداء الآسر يلتف حول عنقي وقلبي وروحي.. وكنت أتأرجح معلقا في السماء من طرف إصبعي.. إلى الشمال ذهبت.. وإلى الجنوب عدت.. شرقا وغربا.. فرحة وعذابا.. أملا ويأسا.. طفت بأركان الأرض الأربعة وأنا أتأرجح.. أتأرجح وأصرخ.
كان النداء آسرا بقدر ما كان غير حقيقي.. الكلمة خلف الأبواب المغلقة تستخدم كحذاء يلبس ويخلع وقت ما تشاء.
ضيق؟ اخلعه
واسع؟ اخلعه
قديم؟ اخلعه
جديد؟ اخلعه فهناك غيره...
الليلة وجدت أنه لم يعد هناك من باب أطرقه.. تفتحت الأبواب كلها فلم أجد شيئا.. ولأول مرة لا أعرف ماذا أصنع بنفسي؟..
قلت: أرتمي في أحضان الطبيعة.
الليل الحزين إلى آخر آفاق البصر.. والنسيم يهز أوراق الأشجار المتلاصقة المتهامسة.. تهتز بحفيف ويخيل إليَّ أنها تطرق هي الأخرى بابا.. تطرقه وتنتظر..
وخالطه اليقين أن الكون نفسه باب مغلق تدقه يد معذبة.. تدقه بإصرار.. تدقه إلى الأبد.
تغريدة وداع
بين اليقظة والمنام.. على تخوم الفجر.. انتبه إلى صوت لم يسمع مثله من قبل.
تغريد؟
ترنيمة؟
صلاة؟
لا يعرف.. لم يستطع أن يقتنص التعبير الملائم.. ولكن خامره يقين أنه يستمع إلى غناء بلبل.. كان الغناء عذبا إلى حد أنه لم يكن هناك احتمال آخر.. رفع رأسه من على الوسادة وراح يصغي.
يصغي..
يصغي..
عجز عن النوم من فرط عذوبة الصوت.. وبعد تغريدة طويلة أفصح فيها البلبل عن كل شيء.. واختصر كل شيء.. صمت تماما.. بعدها فقط استطاع النوم.
لمده ثلاث ليال متتالية تكرر الغناء العذب، وتكرر الإصغاء، وكأن هاتفا معينا يناشده أن يستيقظ، فغناء البلبل كان أجمل من أي عالم في الأحلام يمكنه ارتياده.. وبعدها توقف الغناء تماما.
هل رحل البلبل عن الحديقة المجاورة بعد ما لم يجد من يفهمه؟.. أم كان يبلغ رسالة وذهب لحال سبيله؟.. هل فهم أحد الرسالة؟ هل كنت أنا المقصود بهذه الرسالة؟ أم تراه لم يهاجر ولكن الحزن أخرسه؟.
أسئلة لم أجد لها جوابا.. وبرغم ذلك، كلما تيقظت على تخوم الفجر.. أتذكر وبرغم السنين الطويلة تلك الأغاريد الثلاث التي صدح بها البلبل قبل أن يذهب إلى حيث لا أدري.
شهد الموت
إذا مت فادفنوني تحت شجرة خوخ، ربما كان عزاء في تحلل جسدي والفناء الذي سيجتاحني، أن تختلط ذرات جسدي بجذور شجرة خوخ، تمتص حنيني وذكرياتي، تمتزج بأشواقي وحنيني، تعانق ذراتي وعبراتي، تحمل أشواقي للحب، لعالم آخر يكرس معنى الوفاء، تحمل نكهتي، تفوح برائحة زهور لم يرها سواها، ترق بشرتها مثل رقة باطني، تسيل شهدا مثل منحة الحب التي شقيت بها في هذا العالم.
طائر الثلج الحزين
ليال عديدة متعاقبة ألاحظه، ذلك الطير الجميل يحلق باستمرار فوق الحديقة، قادما من البلاد الشمالية.. نصاعة بياضه يعطي إيحاء قويا بالثلج.. أضف إلى ذلك حجمه الكبير غير المعتاد لطيور مصر وإحساسه الواضح بالأمان، بعكس الطيور المصرية التي تعيش حياة الخطر.
يبدأ كنقطة بيضاء في الأفق البعيد، يقترب رويدا، يسبح في رشاقة فائقة، يطير على ارتفاع منخفض فوق الحديقة، يبدو كأنه يبحث عن شيء ما، شيء يفتقده، يختفي في الأفق البعيد ثم يعود من جديد، يواصل البحث المستميت، يقترب جدا.
جميل بين الطيور الأخرى، جميل ووحيد تماما، أتراه يبحث عن أليفه الضائع عاجزا عن العودة للديار الشمالية بدون الحبيب؟ جاء الربيع هناك، وحان موعد العودة، ولكن أين الحبيب؟ أين؟
يبحث عن حبيب ضائع، عن ذكرى منسية..
السماء تغصُّ بالطيور يا أحمق، أتعرف الوفاء لليالي الجميلة؟ للحظة ود متبادلة؟ لدفء عش ومصير مشترك؟
يوغل الليل ويرق المساء وتتوالى الشجون ولا يكف عن البحث والتحليق.
وحيد جدا، وحيد مثلي.
أخلع جسدي وأطير معه، أبيض الجناح هو، أبيض القلب أنا..
اتبعني..
إلى البلاد الشمالية، يمم وجهك صوب القطب الشمالي، النجوم ترشدك والحنين يدلك، والشوق يدكني ويدكك، قبة السماء لنا.. للعاشقين الأوفياء، والقمر قنديل معلق سهران.. أرسل التحية واتبعني مهما طوحتك الرياح إلى الشمال..
أطير معك حتى الفجر، فقط حتى الفجر، تشرق الشمس فالتحم بالشرق..
فلتصحبك السلامة.
الليل يمتد والفجر لا يأتي، فجري أنا لا يأتي أبدا فكيف أعرف طريقي؟
أعود أدراجي صوب الجنوب متمنيا أن يصيبني رصاص القناصين مباشرة في قلب لم يجلب لي غير التعب..
أعود في الليل لأجدك صديقي تحلِّق دون تعب.
أرسل التحية وأتنهد فخورا بالوفاء، سعيدا بالذكريات..
مسك الليل
يا رب إن حياة فيها صوت بنقاء صوت (نجاح سلام) لهي حياة تستحق أن تعاش..
الليل قد انتصف وأضواء الحديقة أطفئت بالكامل.. وخلا المكان إلا من أشباح الأشجار وأرواح العاشقين.. وانسكبت الفتنة القمرية على زهور كثيفة فهتف في وجد: يا رب ما أجمل هذا البلد، موطن الفنون ومرقد العاشقين ومكمن الأسرار.. اللهم إني عاشق لهذا البلد الجميل الذي يبوح بأسراره فقط في النصف الثاني من الليل وحتى بزوغ الفجر.
ومن خلال الراديو انسابت نغمات أغنية نجاح سلام (بالسلامة يا حبيبي بالسلامة) أغنية لها ذكريات محفورة في القلب، فهي مقدمة برنامج شهير طالما سمعه يوميا في طريقه للمدرسة وهو قلب أخضر.
واليوم بعد اليبس يسمعه فيشعر بندى الليل يحيي قلبه من جديد، هذا الصوت النقي، وكأنه نبع يتدفق بين الصخور من قلب الأرض بمياه بلورية شديدة العذوبة والنقاء. هكذا صوت نجاح سلام. وأصغى لأول مرة في حياته للكلمات الجميلة (بالسلامة تروح وترجع بالسلامة، تيجي زي الفرحة تيجي بابتسامة، بالسلامة يا حبيبي بالسلامة).
ولطالما انطبع في وعيه أنها زوجة تودع زوجها الحبيب على أمل بلقاء قريب.. لم يخطر على باله قط أن يكون وداع حبيبة لحبيبها، ربما لأن هناك جوا من العذوبة والنقاء لا يتصور وجوده إلا في علاقة زوجية تجمع بين المحبين، نقاء صوت نجاح سلام يحتم هذا.
وفي قلب الليل الشجي، وسط فتنة الطبيعة راح يستمع لكلمات الأغنية، ندم أنه لم يحمل معه ورقة وقلم ليكتبها، وتساءل في نفسه عن الشاعر الذي صاغ عذوبة هذه الكلمات؟ سيعرف بعد قليل أنه -كالعادة- عبد الرحمن الأبنودي.
وفوق رأسه وفي النصف الأخير من الليل راح طائر كبير الحجم أبيض اللون يرفرف على ارتفاع منخفض.. وتساءل في نفسه لماذا ظل مستيقظا حتى هذا الوقت المتأخر؟ أتراه عاشقا يبحث عن وليفه، تنهد من قلب شجي وتمنى أن تسعده الأقدار بذلك الوليف الغائب.
كانت الكلمات الناعمة تنساب كلها طهر وصفاء.. وعلى الرغم من أنه عرف الحب الحقيقي إلا أنه كان يدرك أن هناك شيئا لا يمكن تعويضه في علاقة بدون زواج، ثمة كيمياء غامضة للروح والجسد معا لا تنسجم إلا برباط الزواج المقدس؛ لذلك حينما قرأ في عينيها أنها تريده قال لها في رفق: سوف تكرهيني إذا فعلت، أنت وردة طاهرة لو انتهكت أوراقها فلن تمنح عطرها أبدا.
صدِّقيني !!..
ولم تصدقه، أصغت لدبيب الغرائز البدائية، ولكنه كان مصمما ألا ينتهك الوردة مهما كان عطرها نافذا، اغرورقت عيناه بالدموع ناظرا إلى نجمين متقابلين وتساءل أتراهما عاشقين أم أن هذا وهم منشؤه المسافات السحيقة؟ وبالغا ما بلغ عمق الحب بين رجل وامرأة فثمة شيء ناقص في علاقة بلا زواج، شيء لا يمكن وصفه ولا التعبير عنه لكنه محسوس بالفطرة والروح.
وراحت نجاح سلام تصدح (بالسلامة، بس انت عارف يعني إيه معنى الفراق؟ ضحك في مرارة وقال إنه يعرف، والله يعرف، يعرف تماما، يعرف جدا...).
ولكن حياة فيها صوت نجاح سلام تستحق أن تعاش.. هكذا أكد لنفسه..
كان الطير يبحث عن أليفه الضائع، والليل يسكره بالأنسام المتهورة مفعمة بعبق (مسك الليل) الذي يوشك أن يحول الحديقة لـ(برفان ) رباني يستحيل أن تعبئه في زجاجات، تنهد من أعماقه وقال إن الحياة جميلة رغم الشجون. جميلة رغم ما تصنعه بنا.
التعليقات (0)