كنتُ واحداً من آخر الرجال الرومانسيين، الذي يؤمنون بأنّ للحُب أجنحة تجعله قادراً على التحليق في الأعالي، واجتياز حواجز اللغة والجنسية والفوارق الإجتماعية والمعتقدات السياسية.. وربّما الدِّين. أقول ربّما، لأنّ الكلام النظري لا يشبه ذلك النابع من تجربة تُسقينا من كأسها العذب قطرة، ومن كأسها المر قطرات. إنّ الحُب الذي بادلتني إياه ليندا، زميلتي في "جامعة أدنبرة"، كان في 99 في المئة من قطراته عَسَلا، إلا قطرة الدِّين، فقد عجزنا من اقتسامها.
بسرعة، احتلَّت ليندا موقعها في قلبي، وانتقلت من خانة الزميلة اللطيفة والمستعدّة للمساعدة، إلى خانة الحبيبة التي لا أطيق عنها فراقاً. كانت قد لاحظت ضعفي في اللغة، فتطوّعت لإعطائي دروساً في النطق والتقوية، وفي فهم بعض المصطلحات الشعبية، التي لم أكن أجدها في قاموسي الذي حملته معي من بلدي ودسسته، بعناية، بين طيّات ثيابي في الحقيبة. لقد كان الكتاب الوحيد الذي رافقني في السر، بعد المصحف الذي استقر في جيب معطفي، من الداخل، لصق القلب.
دعتني ليندا إلى بيتها للتعرّف إلى والديها وشقيقيها الأصغر منها. وازددت إعجاباً بها وأنا أراها في ذلك الإطار الحميم والناضج والإنساني. فأنا قد جئت من منطقة لا تملك فيها الشابه حق دعوة أصدقائها إلى بيتها، فكيف إذا لم يكونوا جماعة من الزملاء، بل صديق وحيد صارحت عائلتها بأنّها ارتبطت به عاطفياً؟ وفهمت من ليندا، أنّ البنت التي تدعو صديقها إلى مقابلة والديها، فإنّ الأمر بمثابة تطمين الوالدين إلى سلامة اختيارها، ولكي تصبح للعلاقة صفة شبه رسمية. وليس معنى هذا أنها أوقعتني في فخ الزواج، رغماً عني. لقد كان الإرتباط الرسمي قضية مؤجّلة إلى ما بعد التخرُّج، على أيّ حال.
ومرّت سنوات الدراسة بسرعة، بل بأسرع مما تصوّرت. وكان لوقوف ليندا إلى جواري دور أساسي في نجاحي، عَدَا عن أنني تأكدت من أنها المرأة التي أريد أن تشاركني حياتي، وتكون أُمّاً صالحة لأولادي. ولمّا بلغنا في كلامنا موضوع الأولاد، فاتحتها برغبتي في أن تدخل دين الإسلام، لكي أكون واثقاً بأن أطفالنا سيربّون على العقيدة التي أرغبها لهم.
لأوّل مرّة ترفض حبيبتي لي طلباً. وقالت إنّ دينها جزء من شخصيتها، لكنها لا تمانع في أن يتلقّى أبناؤنا المقبلين تعاليم دين والدهم. ولكن مَن سيُعلِّم الأولاد دينهم إذا لم تكن الأُم مثلهم الأوّل؟ أنا خائف من مستقبل هذا الزواج، ولم أكن أعرف أنّ للحُب جناحاً مكسوراً يمنعه من الطيران فوق أعاش العقائد. مَن يضمن لي أنّ زوجتي الأجنبية ستشجع أبناءها على أن يكونوا مسلمين بحق؟
لو طلب مروان منّي روحي لقدمتها له عن طيب خاطر. إنّه الرجل الذي سحرني بأخلاقه وطيبته وكرمه ولطف معشره. لقد أحببته وفهمت معه معنى الغرام، وأحببت من خلاله العرب جميعاً، حتى مَن كان منهم كسولاً في الدراسة، أو سفيهاً في إنفاق أمواله، أو وغْداً في التعامل مع الطالبات. لقد كان حبيبي نجماً يلتمع بين كل الزملاء الآتين من الشرق للدراسة في بلدي، على الرغم من أنّه لم يكن الأوسَم ولا الأذكى بين كل أولئك العرب والهنود والباكستانيين والإيرانيين الذين تضمّهم جامعتنا.
لو طلب منّي روحي لقدَّمتها له. لكنه طلب منّي تغيير ديني، وهو أمر ليس فادحاً في نظري، لكنني لم أكن أودّ أن أسبِّب لأبي أي نوع من الضِّيق، لأن ابنته خرجت على دين عائلتها الذي تربّت عليه. لقد اعتدت، حين يقف مروان للصلاة ونحن معاً، أن أنتحي جانباً لكي أتمتم بصلواتي أنا أيضاً، وعلى طريقتي. وكانت تلك من أشد لحظات امتزاجي به، إذ كنت أشعر بأننا، على الرغم من إختلاف نشأتينا، نبتهل إلى إله واحد. لهذا، لا أدري لماذا وجدتني أسكت ولا أرد على طلبه حين مضى يقول إنّه يريد لأبنائنا أن ينشأوا على دين الإسلام.
بالنسبة إليَّ، كانت تلك قضية سابقة لأوانها. إنّ أولادنا المفترَضين لم يُولدوا بعد، فكيف أرسم لهم حياتهم وهم في علم الغيب؟ وما الذي يمنع أن يُصبحوا مسلمين، مثل والدهم، على الرغم من أنّ والدتهم مسيحية؟ ولماذا يخاف مروان من أن يتغلب دين الأُم على دين الأب؟ إنّ النتيجة تتوقف عليه. فهو لو كان حريصاً على تنشئة أبنائه على دينه، فإنّه لا أحد يستطيع أن يمنعه من ذلك. لكنه غير واثق بيَّ، ويتصوّر أنني قد أفسد ما عَقَد العَزم عليه، وبذلك نَسَف أولى دعامات البناء الجميل الذي شيّدناه بحُبّنا. صار الأمر هاجساً يطرحه في كل لقاء لنا. وكأنه ربط مصير علاقتنا بمصير دين الأولاد. إنها المعضلة التي تشغله كثيراً، بينما هي لا تعني لي الكثير. لقد تربّيت تربية غير تقليدية، وعشت منفتحة على كل الأجناس والعقائد، ولم يكن ذلك يسبب لي مشكلة. وبتلك العقلية، احتضنت هذا الشاب القادم من الشرق، وتولّهت بحبه وأخلصت له وعاهدته على أن أبقى إلى جواره مهما حصل. هل يُعقَل أن يهتز كل ذلك الحُب بسبب أمر لم يحصل بعد؟ وما ذنبي إذا كنت ولدت على دين آخَر؟
التعليقات (0)