بعد غيابٍ دام أكثر من أربع سنوات، سيعود سفيرٌ للولايات المتحدة إلى سوريا. وفي الوقت نفسه كثّفت واشنطن ضغوطها على الحكومة الإسرائيلية لوقفٍ كاملٍ للاستيطان في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس الشرقية - وهذا للمرّة الأولى - وللاعتراف بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولةٍ قابلةٍ للحياة ولإحياء مفاوضات السلام على وجه السرعة. كما أعلن السيد باراك أوباما في النهاية استعداده للحوار مع طهران بشأن جميع المسائل التي تهمّ البلدين، من الوضع في العراق إلى أفغانستان، مروراً بالملفّ النوويّ والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لكنّ الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة، التي جرت في 12 حزيران/يونيو، وما شهدته من تزويرٍ واحتجاجات وضحايا سقطوا فيها وقمعٍ عنيفٍ للمحتجّين والمعارضين، يعرّض نافذة الحوار المأمول هذه للمخاطر. إذ تكشف الأزمة تكشف الانقسام العميق وسط النخبة الحاكمة في طهران، التي من شأنها أن تأجّج المزايدات على المشاعر القوميّة المعادية للغرب، في محاولةٍ لتوحيد السكّان حول السلطة القائمة.
"لا تتصرّفوا على أساس أنّكم في نهاية عهدٍ ولم يتبقَّ لكم سوى بضعة أشهرٍ في الحكم. بل استعدّوا لخمس سنواتٍ أخرى من ممارسة السلطة". بهذه الكلمات توجّه آية الله علي خامنئي إلى أعضاء الحكومة، قبل تسعة أشهرٍ من الانتخابات الرئاسية في 12 حزيران/يونيو عام 2009؛ ولم يتردّد في إظهار دعمه لتجديد مدّة ولاية رجله المفضّل الرئيس محمود أحمدي نجاد المنتهية ولايته. يكشف هذا الأمر مسؤولية مرشد الثورة في الأزمة الحالية؛ إذ قرّر أن يفرض سلطته وأن يتخلّص من كافّة خصومه حتى داخل السلطة وأن يعيق أي ديناميّة إصلاحيّة.
كانت الانتخابات الرئاسية في العام 2005 قد فتحت الطريق أمامه. فبعد ولايتين للرئيس محمد خاتمي كان الاستياء الشعبي كبيراً؛ فبالطبع وسّع الإصلاحيون مجالات الحرّيات، لكنّهم بدوا عاجزين عن معالجة مشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية [1]. سمح حينها لثمانية مرشّحين بالتنافس؛ وبالرغم من المشاركة الكبيرة نسبيّاً (62.8 في المئة)، لم يحصل أيٌّ منهُم على الأغلبيّة. ولم يحصل السيّد أحمدي نجاد، محافظ طهران إلاّ على 5.7 مليون صوت من أصل 29.4. هكذا للمرّة الأولى فرضت الأمور إجراء دورة ثانية للانتخابات.
لكن حيال انقسام مرشّحي المعسكر الإصلاحي وعدم شعبية المرشّح الآخر المتحدِّر من السلطة، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، فاز السيّد أحمدي نجاد في هذه الدورة الثانية. وكان هذه الأخير قد استفاد من دعم الأجهزة العسكرية، التي تُعنى بالأمن والدعاية، وكذلك المؤسسات الخيريّة المربِحة المرتبِطة بمرشد الثورة، وقدّم نفسه على أنّه رجل القطيعة. إذ اصطنع خطاباً شعبويّاً يتمحور حول كلمة "عدالة"، كانت فاعاليّتها كبيرة في الوقت الذي غذّت فيه نزعة التدخّل الأميركي، خصوصاً في حربها ضدّ العراق في العام 2003، الروح القومية، وحتى كراهية الأجانب في المنطقة.
وبعد سنواتٍ أربع، تبيّن أن السيّد أحمدي نجاد قد نفّذ خارطة الطريق المطلوبة منه كما يجِب: ومنها قطع الطريق على العملية الإصلاحية، وتهميش السيّد رفسنجاني حليف المرشد السابق الذي أصبح مزعجاً. إلا أنّ لغته الدبلوماسية الخطابية الاحترابية، وإدارته الاقتصادية الكارثيّة قد ألّبتا ضدّه تحالفاً كبيراً يمتدّ من رأس السلطة إلى القاعدة الاجتماعية، عارض تجديد ولايته. فحتّى مجموعة "أصول غارايان" (التي تضمّ الأصوليين)، والتي كانت قد دعمت السيّد أحمدي نجاد في الدورة الثانية عام 2005، قد عبّرت عن تحفّظاتها. إلاّ أن توجّه رجلين مقرّبين من السيّد خامنئي، أي السيّد علي لاريجاني، رئيس البرلمان والسيد محمد غاليباف، حاكم طهران، إلى الترشّح في انتخابات العام 2009 الرئاسية (كما فعلا في الدورة الأولى في العام 2005) على أمل إنقاذ معسكرهم من كارثةٍ انتخابية، قد اصطدم بتدخّلات مباشرة من المرشد.
في ظلّ هذه الظروف فجّر ترشح السيد خاتمي مجدّداً حالةُ حماسٍ كبيرة تجلّت في حملته الانتخابية القصيرة في شهر آذار/مارس 2009 في المقاطعات الجنوبية. ولكنّه تعرّض من جرّاء ذلك لهجومات كثيفة من الصحافة الحكومية. إذ لم تتردّد صحيفة "كيهان"، بقلم مدير تحريرها، الممثّل الشخصي للمرشد، في أن تتوقّع له مصير بينظير بوتو، المرشّحة للرئاسة الباكستانية التي اغتيلت قبل الانتخابات بقليل. هكذا، إزاء هذه التهديدات ورفض المرشد إدانتها، قرّر السيّد خاتمي أن ينسحِبَ من المنافسة تفادياً للمواجهة المباشرة.
عندها خرج السيّد موسوي من عزلته السياسية؛ فقد شغل منصب رئيس الحكومة من العام 1981 إلى العام 1989 حين ألغي هذا المنصب. فتقدّم كمرشّح تسوية وعلى أنّه "الإصلاحي الذي يستند إلى الأصول (أصول الثورة الإسلامية)". وأراد لنفسه أن يكون مرشّحاً وفاقيّاً، ليس فقط للإصلاحيين، بل أيضاً لجزءٍ من جماعة "أصول غارايان" رفض دعم انتخاب السيد أحمدي نجاد لولايةٍ ثانية.
وهو إذ ترأس الحكومة خلال الحرب الطويلة مع العراق، وشارك في اتّخاذ القرارات المهمّة ضمن السلطة الثورية الجديدة، قد يتصّف بكلّ شيءٍ إلاّ أن يكون "ليبرلياً على الطريقة الغربية". لا بل أنّ الولايات المتّحدة تّتهمه بأنّه هو الذي أمر بتنفيذ الهجوم الانتحاري على القيادة العامة لجنود البحرية الأميركية في بيروت في العام 1983، الذي سقط فيه 240 قتيلاً. وأيّاً يكن فقد نضج الرجل، وأضحى يؤمن، على غرار العديد من فعاليات ثورة العامين 1978-1979، أنّ على النظام أن يتكيّف. ولكنّ المرشد لا يشاطره هذا الرأي.
حينها، سعى مجلس صيانة الدستور، المكلّف اختيار المرشّحين "المقبولين" للرئاسة، والذي أعلن ثمانية من أعضائه تأييدهم للسيّد أحمدي نجاد، إلى كسب الوقت. واستنفذ كلّ المهل بغية الإبقاء على حالة الغموض، وتقليص مدّة حملة المرشّحين إلى أقصى حدّ؛ بينما كان الرئيس المنتهية ولايته يجول البلاد منذ أشهر مستفيداً من دعم الصحافة والمؤسّسات المرتبطة بالمرشد، إضافةً إلى إمكانيات الدولة. وانتظر المجلس حتّى اليوم الأخير من المهلة القانونيّة، ليعلن قبول ترشيح أربعة ذكور (من أصل 475 مرشّحاً، بينهم 42 إمرأة).
واعتقد مهندسو هذه الخطّة أنّهم حسبوا لكلّ شيءٍ حسابه؛ فقد تركوا في ساحة المواجهة مرشّحين إصلاحيين اثنين، هما السيدان موسوي ومهدي كروبي النائب السابق لرئيس البرلمان بحيث سيلغي أحدهما الآخر مبدئياً، إضافة إلى محافظٍ واحد هو السيد محسن رضائي، الرئيس السابق للحرس الثوري، الذي قدّم نفسه على أنّه مرشّحٌ مستقلّ.
وهكذا دخلت إيران ركضاً إلى حملة انتخابية قصيرة لمدّة 22 يوماً سوف تقلب مشاريع منظّميها رأساً على عقب، وتتسبّب بزلزالٍ حتّى داخل النظام نفسه. فقبل الافتتاح الرسمي للحملة، لم يمنح الراديو والتلفاز المحلّيان أيّ وقت للمرشّحين الإصلاحيين للظهور مباشرةً؛ في حين لم يمنع هذا الإعلام الرسمي من توجيه الاتّهامات إليهما يومياً دون منحهما حقّ الردّ. ثمّ، وعلى أمل تحاشي سجالاتٍ طويلة، قرّر التلفاز الوطني أخيراً أن ينظّم بعض المناظرات.
ومن مصادفات سحب القرعة الذي اقترحه مخرجو البرنامج، أنّهم أعطوا اللون الأخضر للمرشّح موسوي وهو اللون الذي سيصبح بالتالي لون هذه "الثورة الخضراء".
ثمّ احتدمت الأمور أثناء عرض هذه البرامج. فمنذ النقاشات الأولى اختار السيّد أحمدي نجاد الهجوم كأفضل وسيلةٍ للدفاع. وكان من شأن هذه الحيوية غير المسبوقة للنقاشات أن كسرت الإطار الضيّق للخطوط الحمر في الجمهورية الإسلامية. بحيث راح عشرات الملايين من المشاهدين يسهرون حتى ساعةٍ متأخّرة ليلاً لمتابعة هذه البرامج. وقد وجّهت فيها الاتّهامات بالفساد إلى شخصيات السلطة الأرفع، وحتى الرئيس نفسه قد وصف بالكاذب. واعتبر السيّد رفسنجاني أنّه تعرّض للإهانة علناً من السيد أحمدي نجاد، لدرجة أنّه وجّه كتاباً مفتوحاً إلى مرشد الثورة احتجاجاً على ذلك.
هكذا كشفت النقاشات رغبة الإيرانيين في الحرّية. وقد جرى كلّ شيءٍ وكأنّ المجتمع بدأ فجأةً عملية تحوّلٍ ديمقراطي. بحيث ظهرت التهجّمات الاحترابية والشعارات المعتادة في الخطاب الرسمي فجأةً كاذِبة. وأجبر السيّد أحمدي نجاد على الخروج عن لغته البلاغيّة، واضطرّ للاستناد على أرقام ومؤشرات اقتصادية، سارع خصومه إلى اتّهامه بتزويرها. وقد توصّل هؤلاء إلى طرح موضوعات التضخّم والبطالة والجردة الاقتصادية الكارثية على الرأي العام [2]. إذّاك سمحت حيوية النقاشات بتوقّع مشاركةٍ كثيفةٍ في الانتخابات، يمكن أن تفضح إحدى التناقضات الجوهريّة في النظام الإسلامي في إيران: أي الازدواجية في شرعيّته، التي أوضحها تماماً رسمٌ نشرته صحيفة "انترناشيونال هيرالد تريبيون"، في 24 حزيران/يونيو يظهر آية الله خامنئي في مواجهة ناخبين اثنين وتحته هذه العبارة التوضيحية: "هذا هو تفسير الحكم الديني، أنتما تصوّتان والله هو الذي يقرّر".
وفي الواقع نصّ المشروع الأوّلي الذي عرض على الجمعية التأسيسية في العام 1979 على إقامة سلطةٍ رئاسية مستمدّة من سيادة الشعب (المادّة 6). ولكن، باسم السيادة الإلهية، فرضت هذه الجمعية المؤلّفة بغالبيّتها من رجال دين، وصايةً دينيّة (ولاية الفقيه) (المادّة 5). وهكذا تمّت مصادرة النواحي الرئيسية من الصلاحيّات الرئاسية لرئيس الجمهورية لصالح المرشد الديني الذي يتمتّع بتحكّمٍ مطلق بالسلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية (المادّة 57).
الوصاية الخانقة للمرشد
فمرشد الثورة هو الذي يحدّد الإطار العام لسياسات الجمهورية. وهو القائد الأعلى للقوات المسلّحة، والذي يعلن الحرب والسلم، ويدعو إلى التعبئة العامّة ويقرّر إجراء الاستفتاءات ويعيّن الأعضاء من بين رجال الدين في مجلس صيانة الدستور؛ وهو المسؤول عن السلطة القضائية ومدير الهيئة التي تحتكر الإذاعة والتلفزيون، ورئيس هيئة أركان الجيش وقائد الحرس الثوريّ، وهو رأس القيادات العسكرية وقوّات الأمن. وهو الذي ينسّق بين السلطات الشرعيّة الثلاث ويحكم في خلافاتها. حتّى أنّه، في بعض الظروف، يستطيع أن يتجاوز الدستور والقوانين، أو حتى... قواعد الشريعة [3]. ولأنّ مرشد الثورة يمثّل الإمام الغائب [4] على الأرض، فهو يتمتّع بصلاحيات غير محدودة تقريباً.
أمّا رئيس الجمهورية، الشخصيّة الثانية في الدولة، فليس مكلّفاً إلاّ بالإدارة، وبتولّي الأمور اليومية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وذلك تحت وصاية المرشد الخانقة، والأجهزة غير المنتخبة التي يسيطر عليها هذا الأخير بعيداً عن كلّ رقابةٍ شعبية.
مع ذلك، تمنح الانتخابات العامّة المباشرة الرئيس شرعيةً ديمقراطيّة. وبالتالي، يتجاوز انتخابه الهدف الأصليّ منه، ويفتح المجال، مرّةً كلّ أربع سنوات، للتعبير عن الإرادة الشعبية؛ وإن كانت منقوصة ومطوّقة. وعليه، فإنّ صراع الشرعية بين من انتخب في الاقتراع العام والمؤسّسات السياسية الدينية في الدولة، يشكّل الدينامية الرئيسية في القصة الجارية على رأس الحكم في إيران.
ففي العام 1979، وغداة الثورة، انتخب السيّد أبو الحسن بني صدر أوّل رئيسٍ للجمهورية. وكان هناك إذّاك 95 مرشّحاً. وقد أفضى نزاعه مع الخميني إلى عزله في حزيران/يونيو من العام 1981، في ظلّ ظروفٍ تذكّر بتلك التي تعيشها إيران اليوم. كذلك تميّزت الولايتان الرئاسيتان للمرشد الحالي السيّد علي خامنئي، الذي انتخب بين 1981 و1989 في زمن الحرب بين إيران والعراق، بهذا التوتّر ذاته في صلب النظام. ففي الواقع كان الخميني قد فرض السيّد مير حسين موسوي رئيساً للوزراء، وحصر دور خامنئي في ما كان الجنرال ديغول يسمّيه "افتتاح الاقحوان" (أي سلطة شكليّة لا تفيد إلاّ لاحتفاليّات الافتتاح).
وفي العام 1989، وبعد وفاة الخميني الذي لم يكن هناك جدال حول سلطته الدينية المطلقة، طرحت قضيّة تعيين مرشدٍ جديدٍ للثورة مشكلةً كبيرة. فالسيّد علي خامنئي الذي حلّ مكانه كان حتّى ذلك الحين مجرّد "حجّة الإسلام"، وقد تمّت ترقيته بين ليلة وضحاها إلى آية الله، كما ولو أنّ كاهناً عادياً ما أصبح بابا في يومٍ واحد. ولناحيةٍ ما، يدين السيّد خامنئي في ترقيته هذه إلى السيّد رفسنجاني، الذي كان يضطلع بدور رئيس الجمهوريّة آنذاك.
ولم تخلُ الولايتان الرئاسيتان للسيّد رفسنجاني (1989-1997) من ذات الصراع على الشرعية؛ لكن من دون أن يفضي الأمر إلى أزماتٍ كبيرة. فقد كان من شأن الحدّ من عدد المرشّحين المسموح لهم بالترشّح لرئاسة الجمهورية، والذين لم يكونوا يلعبون سوى دور الواجهة، أن أدّى إلى خفض نسبة المشاركة في الاقتراع.
وفي العام 1997، ومع نسبة مشاركةٍ قفزت إلى 79.9 في المئة، فرض السيّد محمد خاتمي نفسه كرجل الإصلاح، وفاز على المرشّح المدعوم من مرشد الثورة. هذا النصر، غير الوارد في العديد من دول الشرق الأوسط حيث يتأمّن الفوز فقط للمرشّح الرسميّ، سلّط الضوء على النزاع القائم بين الشرعيّتين. وقد تميّزت الفترتان الرئاسيتان المتتاليتان للرئيس خاتمي ومحاولاته الإصلاحية بتعطيلٍ دائم من مرشد الثورة، الذي وصل به الأمر إلى اعتبار تطوير الاعتراضات مساساًً بسلطته الخاصّة. هكذا سعى السيّد خامنئي في العام 2005 إلى فرض مرشّحه، وكان السيّد أحمدي نجاد.
وبعد أربع سنوات قرّر السيّد خامنئي، على عكس نصائح العديد من المقرّبين منه، أن يدعمه مجدّداً مهما كان الثمن. ثمّ تدفّق الناخبون في 12 حزيران/يونيو على صناديق الاقتراع. وجرت كلّ الأمور بهدوء. لكنّه في الساعة الخامسة بعد الظهر، وحتّى قبل إقفال الصناديق، أعلن قائد قوات الأمن في طهران من على شاشات التلفاز أنّ قواته ستنتشِر على الأرض. ثمّ بدأت عملية طرد ممثّلي المرشّحين من مكاتب الاقتراع ومن الأماكن التي كانت الصوات تجمّع فيها. ولم تنفع الاحتجاجات المشتركة الصادرة عن مرشّحي المعارضة الثلاثة. وخيّم صمتٌ ثقيلٌ على قاعة الانتخابات في وزارة الداخلية حيث كان من المفترض أن تُعلَن النتائج؛ فيما بدأت وكالات الأنباء المؤيّدة للسيد أحمدي نجاد مثل "وكالة فارس" أو موقع حملته الانتخابية على الانترنت "رجانيوز" بنشر أرقامٍ مثيرةٍ للاستغراب.
تزويرٌ على نطاقٍ واسع
وزادت الدهشة في الساعات اللاحقة عندما أكّدت وزارة الداخلية هذه المؤشّرات وقدّمتها على أنّها نهائيّة. فقد نشرت الأرقام أوّلاً على أساس مجموعات تشمل الواحدة منها مليوني صوت، من دون أن يتمّ ذكر لمكاتب أو مراكز التصويت المعنيّة. ثمّ بعد عدّة ساعاتٍ من الصمت، ومع فجر 13 حزيران/يونيو، بدأ من جديد إعلان نتائج التصويت بمجموعاتٍ من 5 ملايين صوت وضمن الظروف نفسها؛ ودائماً كانت وسائل الاعلام التابعة للرئيس المنتهية ولايته هي التي تنشر النتائج أوّلاً ثمّ تتبعها وزارة الداخليّة..
إضافةً إلى ذلك، فحتّى مع ارتفاع عدد الأصوات التي تم فرزها نحو الـ39 مليون، أي بنسبة مشاركة بلغت 85 في المئة، فإنّ النسبة المئوية المنسوبة لكلٍّ من المرشّحين بقيت ثابتة طوال الليل؛ كما ولو أنّ الناخبين، في كلّ المدن والمناطق، وبمعزلٍ عن الظروف المحلّية، قد صوّتوا جميعهم بالنسبة نفسها لكلّ مرشّح. في حين كان من المفترض أن يستغرق الحصول على النتائج في المقاطعات البعيدة عشرة أيّام.
هكذا، وبحسب المعطيات الرسمية، نال السيد أحمدي نجاد 62.63 في المئة من أصوات المقترعين، أي ما مجموعه 24527516 صوتاً. ممّا يعني أنّه بعد أربع سنوات من فساد السلطة والنتائج القتصادية غير المغرية، تضاعف خمس مرّاتٍ تقريباً رقم الـ5751000 صوت التي نالها في الدورة الأولى في انتخابات العام 2005. وبالمقابل، ومع عددٍ من الأصوات بلغ فقط 333635، جاءت حصيلة أحد معارضيه، السيّد كروبي، للتراجع خمس عشرة مرّة عن العام 2005.
وقد زادت تصرّفات مختلفة الطين بلّة، لصالح أولئك يشتبهون في عمليّة تزويرٍ كبيرة؛ بل أنّ السلطة نفسها قد تحدّثت عن مخالفات قانونية طالت... ثلاثة ملايين صوت. فبحسب دراسة من مؤسّسة "شاتام هاوس" (في لندن) [5]، تبيّن أنّ هناك في مقاطعتين أكثر من 100 في المئة من الناخبين. ومن أجل تحقيق النتيجة التي نسبت إليه، يكون السيّد أحمدي نجاد قد أخذ ليس فقط جميع أصوات المحافظين والوسطيين، بل أيضاً نصف أصوات الإصلاحيين في ثلث المقاطعات. وأخيراً، وبعكس الرأي السائد، طالما افتقر المرشّحون المحافظون إلى الشعبية في الحملات الانتخابية بالأحرى في الأرياف، بحسب ما برهنت عليه انتخابات أعوام 1997 و2001 و2005. حتّى أنّ دراسة شاتام هاوس قد بيّنت أنّه في هذه المقاطعات بالذات، غالباً ما يحقّق المحافظون أسوأ نتائجهم، خصوصاً لأنّه تعيش فيها أقلّيات محليّة أكثر تمرّداً على السلطة المركزية. فبأيّة معجزة حصل السيّد أحمدي نجاد إذاً على الغالبية فيها في العام 2009؟
وبشكلٍ أعمّ، تعتبر الشرائح الشعبية، والطبقة العمالية خصوصاً، أولى ضحايا السياسات الاقتصادية التي تميّزت بمعدّلات تضخّم تفوق الـ20 في المئة سنويّاً، وبمستويات البطالة الكثيفة التي تضرب بدرجةٍ أساسيّة أوساط الشباب. فكيف كسبها السيّد أحمدي نجاد؟
غداة "الاحتفال بنصر" هذا الأخير، الذي تلقّى تهاني مرشد الثورة، نزل ملايين المتظاهرين في طهران والمقاطعات في مظاهراتٍ تعبّر عن سخطهم على ما اعتبروه سرقةً لأصواتهم. اقتصرت هذه التعبئة بشكلٍ أساسيّ على الطبقات الوسطى؛ وكان من شأنها على الأرجح أن تطرح إشكاليةً أكبر لو أنّ إدارة بوش كانت ماتزال قائمة، مع خطابه الاحترابي ودعمه المطلق لحليفه الإسرائيلي. لكن رغبة الرئيس باراك أوباما في الحوار قد حرّرت الإيرانيين جزئيّاً من خوفهم من الولايات المتّحدة ومن التدخّلات الأجنبية. فبعكس نظرائه الأوروبيين والرئيس الفرنسي، عرف الرئيس الأميركي في الحقيقة كيف يقيم التوازن بين رفض التدخّل في الشؤون الداخلية لدولةٍ ذات سيادة وبين إدانة أعمال القمع.
لن يحدّد مآل الكفاح والمواجهات في طهران فقط مستقبل الجمهورية الإسلامية التي تجتاز أخطر أزمةٍ في تاريخها. فالتشدّد في الداخل يمكن أيضاً أن يترجم بمزايدة ضدّ الغرب، ما يجعل الحوار بين واشنطن وطهران أكثر صعوبةً.
التعليقات (0)