احلام اليقضة التركية
وفي العراق جوع ، وأي عام ليس في العراق جوع ؟ كلمات كان مدادها آلام العراق ، ودماء العراقيين ، صاغها شاعر العراق السياب ، يختصر بها أزمنة وأزمنة، تكالبت فيها قوى الشر على بلاد النهرين والنخيل ، الكل فيها حاضر يريد حصته ، وما من غائب إلا العراق .
وتتوالى المصائب إثر المصائب على العراقيين ، تمزق أرضهم ، وتشتت شملهم فهذا يريد جنوبه وعينه على وسطه ، وذاك يريد شماله وعينه تمتد وراء ذلك بكثير ، ولا يجمع المتقاسمين إلا الولاء لعدو شرس ، يقدمون له دماء أطفال ونساء العراق ، ووقار شيوخه ، ودموع رجاله ، قرابين يتقربون بها زلفى الى إلاههم الجديد العم سام ، ونائب الإله الجديد الحركة الصهيونية ، وربيبتيهما الشرعية إسرائيل ، فحكام العراق المحتل لم يعد يقنعهم رب الأرباب، وخالق السماوات والأرض ، فبضاعته عندهم مزجاة ، فالله سبحانه وتعالى يريد العدل والحق والخير للناس ، لافرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ، والخلق كلهم عيال الله ، وخير الناس أنفعهم لعياله ، أما إلههم الجديد فتراتيله تقول لهم : اقتلوا كل الناس إذا كان في قتلهم متعة لكم ، ولمن معكم ، ولكم منا كل الرضى والقبول ، وكلما أمعنتم في القتل والخيانة ، وكنتم أدوات في تنفيذ مخططي في العراق ، كنتم أهل قربي ومحبتي.
وكم لهذا الإله الجديد ونائبه من صفحات سوداء في التاريخ القريب والبعيد ، ولعل أخطر هذه الصفحات التي تسودها الأيدي الآثمة صفحة العراق ، مسرح الإجرام الأمريكي الصهيوني الإيراني الجديد . وقد تنبه المتابعون والمتضررون والضحايا ، إلى مشروع التحالف الأمريكي الصهيوني في العراق، وما وراء العراق ، وملؤوا الصفحات في الحديث عن ذلك ، وخاصة المعارضة العراقية المناهضة للاحتلال الأمريكي للعراق ، التي علا صوتها وهي تحذر العراقيين ، والأمة كلها من مخاطر الاحتلال على المنطقة كلها .
كما كثر كلام أطياف من المعارضة عن خطورة التوجهات الإيرانية ، ودور مؤسساتها الأمنية والدينية وغيرها في العراق قبل وبعد الاحتلال ، ونبهوا إلى ان القرار العراقي المرتهن في الجزء الأكبر منه ، هو قرار أمريكي إيراني بامتياز . وكلام المعارضة عن الدور الأمريكي والدور الإيراني في رسم خارطة العراق الجديد ، ان كان هناك عراق جديد قد أصاب كبد الحقيقة ، لكن هذين الدورين يشكلان ضلعين من أضلاع مثلث الطامعين في العراق ، وغاب عن الكثير الدور الخطير للضلع الثالث من المثلث وهو الدور التركي القادم بوجهه الحسن ، والذي يخفي وراءه طمعاً كبيراً في حصته من الضحية ، فمن المعلوم أنه بعد سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ، وتمزق كيانها السياسي ، ونشوء الدولة التركية الحالية ، طالب الأتراك بضم ولاية الموصل الى الجمهورية التركية ، والتي كانت تضم كلا من (أربيل ، السليمانية ، دهوك ،كركوك) لكن الحلفاء رفضوا ذلك ، والامر لم ينتهي برفض الحلفاء ، بل بقي حلماً للأتراك ، يتوارثونه حزباً عن حزب ،وحكومة عن حكومة . ولايزال هذا الحلم يراودهم ويداعب مخيلتهم، ولم يبق الأمر مجرد حلم ، بل كانت محاولات لتحقيقه كلما سنحت لهم الفرصة، ولعل اهمها كان في عهد رئاسة تورغوت اوزال للجمهورية ، ورئاسة لسليمان ديميريل للحكومة ، ومن المؤشرات الواضحة لذلك ، تصريحات جلال الطالباني رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني لجريدة الحياة ، كما نقلت عنها جريدة الشرق الأوسط العدد (4991 ،الصادرة في يوم الثلاثاء 28/7/1992) وذلك في مقابلة للحياة معه في أنقرة ،التي زارها أثناء سفره الى الولايات المتحدة الأمريكية ، لحضور اجتماع للمعارضة العراقية المتناغمة مع الخط الأمريكي آنذاك ، حيث قال: إن شمال العراق أمام خيارين ، إما ان يصبح جزءا من العراق ، أو جزءاً من دولة أخرى في الشرق الأوسط ، وذكر كلاً من سورية وتركيا وإيران ، لكنه أضاف ان تركيا هي المرشح الأقوى لهذا الأمر ، وجاء هذا التصريح في سياق اجتماعات سرية وراء الكواليس ، لجلال الطالباني مع المسؤولين الأتراك ، مع إشارات لعلها تلمح الى وجود شبه اتفاق لجلال مع أوزال حول هذا الموضوع آنذاك ، وأضاف الطالباني ان أكراد العراق في حاجة الى حماية ، وتركيا يمكنها ان تأخذ على عاتقها المهمة التي تقوم بها قوات التحالف الغربي ، وأشار الى ان تركيا ستصبح جزءاً من أوروبا .وقال ايضاً ان أي قرار في هذا الشأن يجب ان يتخذه المجلس الوطني الكردي(البرلمان) في كردستان العراق .
لكن بمقتل أوزال خبا هذا الحلم التركي ، ليعود من جديد بعد الاحتلال الأمريكي الإيراني للعراق ، وماتبع ذلك من تصدعات وشروخ في كيانه السياسي ، وفي ظل حكومة عرجاء يصنع قرارها في واشنطن وطهران ومن وراءهما الحركة الصهيونية.
وأيضا في محاولة أخرى لقراءة التصريحات والمواقف المتضاربة للحزب الديمقراطي الكردستاني في كردستان العراق ، والتي تراوحت وترددت بين إعراض وإقبال في علاقة الحزب مع تركيا ،نلاحظ انه بعد التصريحات العنيفة لمسعود البرزاني ضد الأتراك ، في سياق مطالبة تركيا رسمياً من العراق ومن الاكراد بالخاصة بتسليم بعض السياسيين الأكراد ،وعلى رأسهم مسرور البرزاني ومحمود عثمان ، لمحاكمتهم في تركيا بتهمة الإرهاب ، تنقلب اللهجة العنيفة الى مغازلة لتركيا ، حيث صرح مسعود في مدينة صلاح الدين ، بعد الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي ،ان الأتراك يريدون الخير للأكراد ، وهو يؤيدهم في ذلك .
ورافق هذه التصريحات مؤشرات ، لعلها تدل على لقاءات لقيادات من الحزب الديمقراطي الكردستاني مع الاتراك ، فليس من المعقول في عالم السياسة ، ان يحدث انقلاب من النقيض الى النقيض بين الطرفين دون ان يسبق بتحضيرات ،ولقاءات مباشرة او غير مباشرة عبر وساطة ، تقوم بها جهة ما وراء الكواليس ، وان لم يعلن عنها بعد . وهل من هذه المؤشرات أيضاً استعمال المصطلحات والأحرف اللاتينية في المحطات التلفزيونية الكردية في العراق ؟
وربط كل ماسبق من أطماع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، ، وغيره من الكتل السياسية الشيعية ، والساعية تلميحاً أو تصريحاً الى فصل الجنوب عن العراق ضمن فدرالية قائمة على أساس طائفي أسوة بشمال العراق المطالب بها على اساس عرقي .فمن مصلحة تلك الكتل دعم الحزبين الكرديين الرئيسيين في توجههما السياسي نحو تركيا ، وهذا ما يمهد الطريق لأصحاب الهوى الإيراني في تحقيق الحلم الإيراني في انفصال الجنوب، ثم انضمامه لاحقاً الى إيران ، بأي شكل من أشكال الارتباط أو الارتهان السياسي والسيادي والطائفي.
وان هذه الكتل السياسية الشيعية ، والعراقية كذباً والعراق الأصيل هو أول ضحاياها قد مهدت بتلك التصريحات وهذه التوجهات الطريق للأتراك لإحياء حلمهم من جديد ، لاسيما أنهم يعتبرون ان تركيا هي المسؤولة عن حماية تركمان العراق ، وخاصة كركوك والموصل ، ولايغيب عن الذهن موقف الأتراك عندما قامت مايسمى الحكومة العراقية بقيادة الجعفري ، والجيش اللاعراقي المرتهن أمريكياً بقصف مدينة تلعفر ، حيث صرح وزير الخارجية التركي : ان تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي اذا لم تقف الحرب ضد تلعفر . ويضاف الى ذلك اعتبار تركيا مدينة كركوك خطاً احمر ، ولهم في ذلك تصريحات كثيرة .
والخلاصة ان انفصال الجنوب وانضمامه الى إيران ، بطريقة ما ، وانفصال شمال العراق وانضمامه الى تركيا ، بطريقة ما ، سيحقق حلم الدولتين تركيا وإيران ، ولكنه وهو الأخطر سيحقق الحلم الصهيوني الإسرائيلي ، والمشروع الأمريكي في تقسيم العراق ،لتدور الدائرة من جديد على باقي دول المنطقة .
وفي ظل هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العراق ، آن للعراقيين الأحرار جميعاً سنة وشيعة عرباً وأكرادا وتركمانيين ومسلمين ومسيحيين وكل أطياف الشعب العراقي الأصيل ، ان يرفعوا الغشاوة عن أعينهم ، وان يمدوا جسور الأصالة العراقية بينهم ويقطعوا كل يد تريد الشر بالعراق ، ويوحدوا صفوفهم تحت سعف نخيله ، وشم جباله ، من شماله الى جنوبه ، وينقذوا البلاد والعباد ، فان تحقق مشروع الطامعين وتمزق العراق لاسمح الله ، فعلى الدنيا السلام ، ولن يكون بعدها من عمل إلا ان نقوم لصلاة الجنازة على كل العرب والمسلمين .
التعليقات (0)