في غمرة المدّ الثوري العربي الذي نعيش على وقعه،كتب لي صديق مازحا فيما معناه:"أخشى ما نخشاه أن يصدر قرار بحذف يوم الجمعة من أيام الأسبوع قطعا لطريق إطاحته بالحكّام العرب"...
فهمتُ من ذات القول الساخر أنّه ثمّة من يُعوّل على أنّ طغاةً عربا سيسْلمون من لعنة يوم الجمعة وسيستمرّون في ممارسة سلطاتهم التّسلطية بطريقة أو بأخرى...وعليه سيُبادرون بعقد قمة استثنائية في إطار "جامعة جبهة التصدي والجمود" العربية يُعلنون فيها بالإجماع،تحت مظلة مشروع نهضة جديد،ابتكارهم الفريد لخطّة إصلاح تعتمد،أساسا،على أنّ الأسبوع العربي في عهدهم القادم المجيد أصبح يتكوّن من أيام ستة لا سبعة تسريعا لعجلة الزمن والتاريخ...
لقد اكتشفوا أنّ الخطر الذي يتهدّد ملكهم ليس العدوّ الخارجي ولا الإرهاب ولا النخب السياسية مهما كانت مشاربها وانتماءاتها المذهبية،إنما هو "جمعة الغضب"...يوم الجمعة أطاح بسلطان زين العابدين بن علي في تونس،وفعل نفس الشيء بحكم حسني مبارك في مصر،وهو يخطّط لدكّ صرح عروش أخرى كانت لوقت قريب في منأى عن الهزات والانتفاضات...لقد تفطّن رئيس حكومة العراق النوري المالكي لمَا أصبح يعنيه التظاهر الشعبي يوم الجمعة من نحس على الحكام يظلّ يُطاردهم إلى أن يتهاووا أمام مشيئته التي لا تُردّ،لذلك جاء بيانه المرتبك يوم الخميس 24-2-2011 –على عجل-ليُذكّر بحقّ العراقيين في التظاهر وحرّيّة التعبير شريطة ألا يكون يوم جمعة،إذ التظاهر في ذات اليوم مريب: "لأنها تظاهرات مريبة وفيها إحياء لصوت الذين دمروا العراق وأسقطوا سيادته ودمروا مؤسساته...هذا لا يعني حرمانكم مرة أخرى من حق التظاهر المعبر عن المطالب الحقة والمشروعة، ويمكنكم إخراج هذه التظاهرات في أي مكان أو زمان تريدون خارج مكان وزمان هذه التظاهرة."...
وإن اشترك المالكي مع معمّر القذافي في اتهام دعاة الفوضى من الإرهابيين والقاعدة،فإنّه أضاف "الصّدّاميّون" اقتداء بطويل العمر والعرش القذافي الذي ادّعى أنّ الثائرين من شعبه يتعاطون حبوب الهلوسة ويخرجون من الجحور كالجرذان"...
لكن لماذا أضحى الطاغية العربي يرفض تجمّع شعبه للتظاهر يوم الجمعة؟
يُفيدنا "لسان العرب" لابن منظور:"..الجمعة هو يوم العروبة،سمّي بذلك لاجتماع الناس فيه،وفي الحديث: أول جمُعة جمّعت بالمدينة..أي صلّيت...يوم الجمعة:يوم القيامة.."
إذن،من المعاني التي يشملها تعريف يوم الجمعة أنه عروبة بكلّ دلالاتها...وأنه تجمّع من أجل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر...وأنه،أيضا،يعني يوم القيامة...وأحسب أنها قيامة ساعة الحكام العرب في هذا الظرف بالذات.ا..
إذْ تحوّل يوم الجمعة في عهد ثورة الشعوب العربية على الاستبداد والفساد إلى نذير شؤم على كراسي الحكام،فإنه بات لزاما التحرّك سريعا لحذفه من أيام الأسبوع،وذلك في إطار قمة عربية استثنائية عاجلة تُعلن مشروع إصلاح يستهدف الإطاحة بذات يوم ملغوم قبل أن ينسف ما تبقّى من منظومة الحكم العربية المهتزّة...وإضافةً،لماذا لا يبادر الأمراء والسلاطين ورؤساء جمهوريات التوريث،في إطار إصلاح مزعوم،إلى حذف صلاة الجمعة التي كانت تُخَصَّص،بإذن منهم،إلى التسبيح بحمدهم والابتهال لهم بطول العمر والخلود في الجمود...إنّها الصلاة التي تأسست على "يد الله مع الجماعة" فجعلوها "يدهم على الجماعة" لتجتمع من أجل الدعاء لهم...فإذا هي،فجأة،تتمرّد على تعاليم "أولي الأمر" وتتحوّل إلى الدعاء عليهم مكوّنة حشودا ضخمة من الجماهير الهادرة المتآمرة عليهم؟...
إضافة،لماذا لا تُصبح الراحة الأسبوعية،بعد حذف الجمعة ،يوم السبت تكريما لبني إسرائيل؟..
هكذا تكتمل ملامح مشروع نهضوي تتفتّق عليه مواهب الخوف الخلاقة لدى حكّامنا من يوم الجمعة...ستكون الفكرة مغرية،سيمرّ الأسبوع بانسياب أيسر ووتيرة ألطف،وكذا الأشهر والسنون...سيُحْدث الحكّام العرب،بذلك ولأوّل مرّة في تاريخ استبدادهم الطويل،ثورة حقيقية عميقة تطال الزمن والتاريخ متجاوزة بأثرها الثوري أطروحات الثورات الأخرى التي اهتمّت بمغازلة الشعوب من أجل حرية تقليدية لا تحرّرها من إيقاع رتيب يستعبده أسبوع طويل وجب اختصاره بحذف اليوم الذي أصبح رمزا لعلاقة عدائية بين الحاكم والمحكوم...إنّه التّثوير للشيء المعتاد والتسريع لنسق الفعل في التاريخ من أجل الرأي السديد والبناء والتشييد في مأمن من غوائل عصر "الجمعة" المتآمر على عرش السلاطين وبذخهم وطاعة رعاياهم لتعاليمهم التي هي من تعاليم التسليم بالقدر المحتوم من أجل جنّة يعيشها الحكام في حياتهم في سبيل أن تنعم بها شعوبهم في مماتهم...
تلك هي الإيديولوجيا البديلة الممكنة لسلطة عربية متهالكة تيبّست شرايين الحياة في عروق شيوخها وتعطّل تدفّق الفكر في عقول جلاديها وعجزت عن إيجاد مخرج لمأزقها عجْز أيّ طاغية مستكبر عن فهم تطلّعات شعبه وبالتالي الصمود أمام ثورات "جمعة الغضب" التي ابتدعها شباب النهضة العربية الجديدة بعزم من حديد...
أما الطغاة الذين استشعروا الخطر يُداهمهم،فراحوا يستبلهون شعوبهم بالنقد الذاتي والوعد بالإصلاح، فإنّ الكاتب الثائر عبدالله القسيمي يقول في شأنهم:"إنّ أعلى مراحل الطغيان للدكتاتور وأطغى مظاهراته البذيئة،أن يصل في فحشه إلى المرحلة التي يجرؤ فيها على أن يُعلن فيها نقده لذاته...إنه لا يوجد شعب يقتات بالهوان مثل شعب يمنّ عليه حاكمه بنقده لذاته،بتظاهره بذلك... إنّ أبشع طغيان في العالم أن يقول الحاكم عن نفسه شيئا،يرفض بل يُعاقب أن يقوله عنه الآخرون...إنه اعتراف يعني أوقح أساليب الإنكار."
التعليقات (0)