احجزوا مقابركم... الجنة في البقيع.
أثارت وفاة شيخ الأزهر " محمد سيد طنطاوي " - الذي مات اثر أزمة قلبية مفاجئة في مطار الرياض بالسعودية – جدلا جديدا في الأوساط الفقهية الاسلامية عندما اختارت أسرته دفن جثمانه في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة. فقد قال عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى السابق بالأزهر في تصريح لجريدة " القدس العربي " قبل دفن الشيخ طنطاوي : " ان ( الامام الأكبر ) كتب الله له حسن الخاتمة بدليل أنه سوف يدفن في البقيع. وهي درجة توجب له الجنة."...
لا بد أن أنوه أولا أن مضمون هذه الورقة لا يعني شخص شيخ الأزهر الراحل على التحديد، وذلك انسجاما مع مبدأ " أذكروا أمواتكم بخير ". وما أرمي اليه في هذا النقاش هو تسليط الضوء على بعض أشكال التفكير التي تسيطر على عقول المسلمين كما هي العادة. وهكذا كانت وفاة " سيد طنطاوي " مناسبة لأعرف شخصيا ( وما أوتيت من العلم الا قليلا ) أن أمر الدخول الى الجنة قد يكون محسوما من طبيعة مكان الدفن. وهي المرة الأولى التي أسمع فيها بأن ساكني مقبرة البقيع مع الصحابة والتابعين هم من أهل الجنة. و يبدو أن السند الذي يعتمد عليه القائلون بهذه المسألة هو القول الذي ينسب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقدم على أنه حديث نبوي (أو مامعناه) : " من استطاع أن يكون دفين المدينة فليفعل، فانهم أول بعثا وأول حسابا وأول الناس جوازا للصراط وأول الناس دخولا للجنة ". وقد بحثت في موسوعة الحديث الشريف لكني لم أجد له أثرا... وما ثبت عن رسول الله في ما روته عائشة أن رسول الله كان يخرج من آخر الليل الى البقيع، فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون، وان شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد. " ( رواه مسلم والنسائي ). ونقرأ في سنن الترمذي في الحديث الموضوع تحت رقم (4056) : ( حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا عبد الله بن نافع الصائغ، حدثنا عاصم بن عمر العمري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين. " قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وعاصم بن عمر العمري ليس بالحافظ عند أهل الحديث.). ومن الواضح أن الحديثين معا لا يمنحان للمدفونين في مقبرة البقيع أي امتياز. ودعوة رسول الله لهم بالمغفرة في الحديث الأول دليل على ذلك. فهم مثل سائر الناس في مواجهة يوم الحساب، لأن الأمر لا يتعلق سوى بسالف الأعمال كما نعلم جميعا. فمن عمل صالحا كانت له الجنة ومن أساء فله النار. ومعيار الصلاح والفساد متروك أمره الى الله... أما الحديث الثاني فلا يوجد ما يثبت صحته، وملاحظة عيسى على أحد رواته ( عاصم بن عمر العمري ) تضع الحديث موضع شك، مادام عاصم لم يكن حافظا للأحاديث، وهو ما يرفع من امكانية التصرف في نص الحديث المذكور. وحتى لو كان منطوق الحديث صحيحا فلا يبدو فيه ما يؤكد الربط بين الجنة و مقبرة البقيع، فالنص يتحدث عن لحظة الحشر والبعث وليس عن الحساب والجزاء.
ان المنطق السليم لا يمكن أن يستسيغ القول بأن أهل البقيع وجبت لهم الجنة. وعلى الرغم من المكانة التي يحتلها الصحابة المدفونون في هذا المكان، فان مسألة العقاب والحساب تخص أعمال الانسان في الدنيا وحدها، ولا فرق في ذلك بين من دفن في البقيع وبين من لم يجد مقبرة يدفن فيها أصلا. ولو كانت مسألة دخول الجنة مرتبطة بمكان الدفن لتهافت كل الناس على حجز المقابر بالبقيع كتأشيرة تضمن لهم الخلود في الفردوس.
محمد مغوتي.12/03/2010.
التعليقات (0)