بعد «تحرر» تونس ومصر وليبيا التي أوشكت؛ وبعد غضب اليمن والبحرين والأردن وعُمان... لم يعد السؤال هل سيثور البلد الفلاني أم لا؛ بل متى؟ المسألة تتعلق بالوقت، والأمر هنا لا يتعلق بالظروف الموضوعية المتشابهة والمهيأة منذ عقود، ولا بقبضة أمنية أشد وأخرى متراخية فقد قدمت ليبيا درساً باهراُ في القدرة على الصمود بوجه أشد الأنظمة انحطاطا وقمعية في المنطقة؛ إنه الدرس الأشد إبهاراً والأكثر معاناة و«دموية» في الطريق إلى الحرية، فقد واجه الشعب الأعزل ليس فقط كل أجهزة القذافي القمعية وجيشه؛ بل واجه ببسالة الإرادة؛ المرتزقة الذين لم يتورع هذا النظام عن استقدامهم بأموال الشعب المنهوبة لقتله. بغض النظر عن مآلات التسلح اللاحق لمواجهة القتل الذي لا شيء يردع القذافي ومرتزقته على القيام به.
سوريا متى؟
منذ انتصار الثورة التونسية بدأت راية الأمل تخفق فوق المنطقة، فقد أعادت تونس الشعب إلى ساحة الفعل في «تقرير مصيره»، وكانت الصفعة الأولى لليائسين من قدرة الشعوب على ذلك، ثم توالت الشعوب التي تناولت الراية.. لتنتشر رائحة الياسمين في المنطقة كما قالت لافتة رفعتها متظاهرة في الاسكندرية.
وعلى إثر انتصار كل ثورة أو بدئها كان السوريون يسألون أنفسهم متى؟ هذا السؤال المرتجف والمشوب بالحذر. حتى بعد اندلاع الثورات والاحتجاجات في اليمن والبحرين وعُمان والعراق والدعوة لها في السعودية، ظل هناك من يتحدث عن اختلاف «الظروف السورية».
والمقصود المضمر بهذه «التركيبة المختلفة» يدور حول معادلات «الجيش» و«الطوائف» و«الأعراق»، لكن بعد ليبيا [ولنترك البحرين واليمن وعُمان جانباً الآن رغم ما تقدمه من «حلول»] اختلف الأمر سورياً وبدا أن طريق الحرية أصبح سالكاً أمام شعبها.. ورغم المآلات الحالية للثورة الليبية التي ينتظر نتائجها السوريون على قلق، فإن ما حدث هناك قدم لنا طاقة أوسع من الأمل.
في التركيبة الطائفية والعرقية والدينية
وعي الوحدة
كثيرون أولئك الذين يكررون أن سوريا ذات تركيبة «معقدة» إثنياً ودينياً وطائفياً، ويتم التركيز بشكل مباشر أو خفي على التركيبة الطائفية، لكن الشعوب التي سبقت السوريين إلى الحرية قدمت درساً مثيراً في الوحدة والتلاحم حول هدف واحد ووحيد [إسقاط النظام]؛ بتنويعات مختلفة؛ فلم يكن هناك سوى الشعارات الوطنية الجامعة، فلم ترفع أي شعارات فئوية، أو دينية... وفي المرات النادرة التي رفعت فيها شعارات إسلامية [في مصر] بتصرف فردي من أحد المتظاهرين، كانت سرعان ما تختفي بمجرد التنبيه؛ بما لا يثبت إصراراً من الجميع على الوحدة فقط، بل يثبت أيضا نضوجاً سياسياً «موحداً» لدى الجميع؛ لأن نقيض ذلك هو ما يريده النظام الذي يهتف الجميع بإسقاطه.
بعبع الإخوان
وفي سياق استلهام التجربة المصرية في الثورة، فقد لعب الإخوان المسلمون في مصر في ميدان المواجهة دوراً فريداً في تنحيهم عن الواجهة إعلامياً وشعبياً، ولم يدعوا في أي وقت «نسبتها» كلياً أو جزئياً لهم، وظل الحديث عن دورهم كأفراد من هذا الشعب، رغم فاعليتهم التي ظهرت في أيام «الفتور» لوصل الأيام «المليونية» ببعضها، بعدم إخلاء الشوارع من المتظاهرين. حدث شيء شبيه في تونس على مستوى الخطاب على الأقل [مع عدم معرفتنا بدورهم ميدانيا].
وإذا كان إخوان مصر متواجدين في الساحة في ظل النظام وهم الأكثر تنظيماً من كل الأحزاب الأخرى فإنهم في تونس واجهوا فيما يخص التواجد في الشارع ظروفا شبيهة بإخوان سوريا؛ لكنهم قدموا تطمينات قاطعة في الحفاظ على مكتسبات الدولة المدنية.
إذاً، ورغم أن المأمول أن تكون الثورة شعبية؛ وسيكونون جزءا من كل إلا أن على إخوان سوريا أن يشددوا على خطاب الوحدة، وأن يشددوا على مدنية الدولة، وأن يبتعدوا عن الواجهة كذلك.
ولظروف سوريا التي تتعلق بالإرث الثقيل لأحداث الثمانينات إبان المواجهة بينهم وبين السلطة يبدو أن عليهم دورا مضاعفاً في الارتقاء بخطابهم إلى المشترك الوطني، بل وفي تقديم خطاب «ضامن» ومطمئن لبقية المكونات السورية سواء المختلفة دينيا أو طائفياً، بل ربما على «إعلامهم» أن يعمل منذ الآن على بث هذه الروح وعلى تقديم ضمانات «أمنية» لبقية طوائف سوريا [حتى مع عدم إمكانية ذلك واقعياً وهو ما سيقوم به الناس بتلقائية] بأنهم سيكونون حراساً للجميع في ظل أي فراغ أمني سيحدث. ذلك ما قام به «شباب الإخوان» بشكل رمزي في مصر حين بادروا إلى حراسة الكنائس مع الأهالي لإثبات زيف ادعاءات النظام، الذي بث حملة تخويف داخلية وخارجية مستخدماً إياهم كفزاعة، فعل الإخوان ذلك حتى مع وقوف الكنيسة إلى جانب النظام، ومحاولة التأثير على أتباعها كي لا يشاركوا في الاحتجاجات، لكنهم كانوا [رغم الحذر لدى بعضهم] جزءا من الشعب المصري وأقاموا قداسهم يوم الجمعة مع صلاة الجمعة ليبدوا للنظام [والعالم الذي اقنعه بذلك] أن للإخوان فرعاً قبطياً نزل إلى الميدان.
العلويون
ليست المشكلة في سوريا مع المسيحيين هكذا يرى كثيرون، بل إنها المعضلة «العلوية» التي أصبح يرددها الجميع همسا وعلناً منذ أن خاض الأخوان حربهم مع النظام تحت شعارات طائفية، ورغم محاربة النظام علناً لهذه الشعارات وتقديم كم من الادعاءات الوطنية والعلمانية فإنه لم يكف عن تطييف الطائفة العلوية لجعلها تربط مصيرها به.
إن انتشار الخشية والخوف من التغيير لدى قسم مهما كان بسيطا لدى «العلويين» يعني أن النظام نجح في ترويج «فزاعته» الخاصة، الربط بين الطائفة والنظام ليس صحيحا، فهي لم توجد في ظله ولن تنتهي بذهابه ومرة أخرى تقدم لنا ليبيا درساً في هذا السياق فقد انشق كثيرون من قبيلة القذاذفة عنه [في الايام الأولى للثورة] ولم يبق معه سوى المرتبطين به «عضويا»، وهذا الارتباط ليس أساسه طائفيا بل نفعياً وقطعا سترتبط به أقلية الفساد بغض النظر عن دينها أو مذهبها.
نحن أمام سياقين متصلين حول «المشكلة» أولهما أن الطائفة العلوية لا يمكن أن تتحمل أوزار النظام كبرت تلك الأوزار أم صغرت، كثر عدد المشاركين له منها أم قلوا، بل المسؤولية هنا فردية وكل فاسد أو مجرم سيعلق من «عرقوبه» والتأكيد المتواصل على ذلك من قبل الجميع مطلوب، وخصوصا من منبع الخوف الذي يعتريهم أي «الإخوان». وثانيهما على أبناء هذه الطائفة أن يؤكدوا كذلك على فك الارتباط هذا، وعدم الإنجرار خلف النظام في حرب خاسرة لهم حتى لو ربحها النظام هذه المرة، والتأكيد على ذلك يأتي من أن النظام لن يتورع عن استخدام أحط الغرائز و«الترهات» في دفاعه عن بقائه، ـذلك كان واضحا مع شقيقه القذافي، ولا شيء يجعلنا نعتقد أن أداءه سيكون مختلفاً.
الأكراد
مامن شك أن «انتفاضة القامشلي» قد أعطت درساً مستفاداً للسوريين، فلأسباب عديدة [ما من مجال لإعادتها] لم يتشكل لتلك الانتفاضة إجماعاً وطنياً كان قادراً في حينها لو حصل على الإطاحة بالنظام، ولا بد من الافادة من الأخطاء التي ارتكبها المنتفضون الأكراد [والعرب غير المنتفضين] والتي استفاد منها النظام لإخماد تلك الانتفاضة بتصويرها أنها معادية للعرب أولا وإنفصالية ثانياً وبالتالي على الأكراد أن «ينحّوا» المطالب القومية المحقة لهم في ظل أي انتفاضة يقومون بها والإنخراط في المشترك الوطني، وسيسعي النظام إلى تكرار مافعله سابقاً، لأن الانظمة عادة لديها وصفة مكررة تستخدمها جميعا في كل مرة، لأن ليس لديها غيرها.
الامر يتطلب مشاورات فور بداية أي حراك سوري في المناطق المختلطة بينهم وبين بقية الأثنيات للتأكيد على المشترك الوطني السوري وتنحية كل ما هو عالق من المشاكل [الحقيقية] التي صنعها هذا النظام ولعب عليها لإطالة أمد إحكام قبضته الأمنية على جميع السوريين، فهو قد انتهك حقوق الجميع ولا يخص الأمر كرداً أو عرباً أو آثوريين... وكما هو واضح من الأداء الحزبي والفردي و«الفيس بوكي» للناشطين الأكراد فإن التجربة التي مروا بها قد شكلت لديهم وعياً سياسياً قادراً على الأفلات من الأفخاخ التي نصبها وسينصبها النظام للجميع.
على الأرجح فإن العشائر العربية التي استخدمها النظام في مواجهة الأكراد لتصوير الأمر حرباً أهلية تبرر انفضاض الناس عن التوحد ضده قد وعت الدرس، وما من شك أنها باتت تدرك أنها وظفت في حرب لم يكن لها ناقة أو جمل فيها.
رغم أنه وبشكل شخصي أعتقد أن سوريا وبعيداً عن هذا النظام الطغياني، لا تعاني من مشكلة طائفية أو عرقية، وأن هذا الذي حدث أو ما قد يحدث هو بأدوات النظام نفسه ينفذه الناس «مكرهون».
أذرع الحماية المتوفرة:
الاجهزة القمعية
في بث حي ومباشر شاهد العالم كيف انهارت أجهزة الأمن المركزي العصب الرئيسي للقمع في «مصر»؛ وبالنسبة لي وقد شاهدت ذلك بعيني، الأمر كان أسرع من مخاوف الجميع، البريق الحاد في عيون الشباب والإرادة التي تشبه السحر التي حلت في أرواحهم ودفعتهم للمواجهة بأجسادهم كانت كافية؛ فكلما اشتدت وتيرة القمع بما في ذلك الرصاص الحي كلما تقدموا وازداد إصرارهم، ومنذ أن شاهدت النساء في الشرفات ترمي البصل [لمقاومة الغازات المسيلة للدموع] والماء للمتظاهرين أيقنت أن هذه المرة الأمر مختلف [فقد شهدتُ احتجاجات سابقة لم تكن كذلك] لكن بالرغم من ذلك ما كان يصل بي الخيال أن يحسم الأمر خلال ساعتين ونصف تقريباً في مدينة كالاسكندرية تميز جهازها الأمني بأنه الأشد قمعاً في مصر.
إذن ومع عدم الشك بأن النظام السوري لن يتورع في استخدام أجهزة القمع المعتادة مثل أشقائه «الساقطين والذبن على وشك» فإن السوريين الذين تسلحوا بالدروس التي سبقتهم سيكون عليهم تقليل الخسائر بالإفادة من تلك الدروس، الذي يتمثل عصبها الاساسي بالنزول إلى الشارع بروح المواجهة وأن الأمر ليس مظاهرة ستفض ليطارد الأفراد المشتركين فيها بشكل فردي، عبر حشود متراصة؛ ذلك ما أجاده المصريون في مواجهتهم الحاسمة في جمعة الغضب.
إن بدء المواجهة فوراً والاشتباك الجسدي لتحييد الرصاص الحي وتعطيل الآليات بكل السبل، حتى عبر حرقها، والدعوة المكثفة لجنود الأمن المركزي للانضمام للمتظاهرين قبل التظاهر وأثنائه وحث الأهالي على ثني أبنائهم المجندين عن مواجهة أهلهم وأخوتهم كل ذلك سيقلل الخسائر ويقصر أيام المواجهة الحاسمة.
الجيش
مامن عاقل سيتصور أن النظام سيسلم السلطة دون أن يستخدم كل أوراقه وبالتأكيد لن يتورع عن زج الجيش في مواجهة المحتجين، وإذا كانت التجربة التونسية قدمت الجيش بما شكل «حلما» لكل الشعوب التي تحلم بالتغيير، فقد جاءت التجربة المصرية لتزيد الحسرة في صدور السوريين على الدور المحتمل للجيش، ورغم التقدير الواسع الذي يحظى به الجيش لدى المصريين، إلا أنهم أحرقوا في اليوم الأول لنزوله بعض الآليات التابعة في السويس، التي كانت تشتعل بالغضب الذي جذر الثورة، وفي القاهرة حينما اكتشف متظاهرون أنها تابعة للحرس الجمهوري، لكن رد فعل الجيش المطمئن أخمد المسألة فورا وحال دون اتساعها، ليصبح دور الجيش «حياديا» في معركتهم مع النظام.
لكن الجيش الليبي قدم تجربة مغايرة ففي حين لم يتورع القذافي عن استخدامه وزجه في مواجهة المحتجين فإن هذا الجيش سرعان ما تفكك وانتهى دوره في معركتهم مع النظام، وانحاز جنوده وقادته للشعب فلم يبق للنظام سوى أقلية مقربة منه والمرتزقة «المستوردين» سابقاً، أو أولئك الذين «استوردهم» على عجل.
إذن لا مصير آخر ينتظر الجيش السوري في حال نزل إلى المواجهة، وكما هو معلوم فإن عماد هذا الجيش هو المجندين، الذين سيكونون في مواجهة مع أهاليهم، وإذا كانت لعبة النظام في إبعاد المجندين عن مناطق ولادتهم ليخدموا في مناطق بعيدة قد تعزز التخوف، فإن انتشار المواجهات على نطاق سوريا كلها سيجعل الجندي الذي يقصف في مدينة ما من سوريا موقنا أن هناك جندي آخر يقصف أهاليه، ومع ازدياد وعي الشعوب؛ عموما فقد سقط الحشو «العقائدي» الذي تقوم به الأنظمة بأن المحتجين مجرد أعداء ومخربين ومندسين، سقط على الشاشات وأمام الجميع؛ ومع انتشار وسائل الاتصال الحديثة فإن اتصال قصير من الأهل [لا تضرب أهلك] كافية لتجعل هذا الجيش ينتهي دوره، بل ويتحول إلى جزء من المحتجين على النظام، ذلك يتوقف على تجذير فكرة أن لاعودة قبل اسقاط النظام لإسقاط فكرة الخوف من العقاب اللاحق لعدم تنفيذ الأوامر لدى العسكريين، وما من شك أن العقاب سيطال الجميع حينها جيشا وشعباً، وبالتالي ما من فرق في نيل العقاب، إن تعزيز هذه الفكرة لدى الجنود سيشكل عاملا حاسما في سرعة انحيازهم لأهلهم.
المليشيات المسلحة
تشكل تجربة الثمانينات فكرة عن "تشكيلات" القمع الاخرى التي يمكن أن يلجأ لها النظام، كالكتائب البعثية المسلحة.. واتحادات الطلبة.. لا يمكن الإطالة في الحديث عن هذا الأمر فالوضع تغير ولم يعد هناك بعث ولا كتائب ولا اتحادات.. بل هؤلاء سيكونوا جزءا من الحركة الاحتجاجية بعد أن تثبت تجذرها.
العامل الدولي
قدمت لنا ليبيا أيضاً فرصة لنعرف دور المجتمع الدولي، من حرب «الإبادة» المحتملة التي قد يقوم بها النظام متشبثا بكرسيه، فهذا النظام المكروه من قبل المجتمع الدولي، لن يجد من يدافع عنه، وإذا كانت الدول المؤثرة قد تريثت في حالات مصر وتونس وحتى ليبيا لتصدر مواقفاً واضحة، لأسباب عديدة لا يحوزها النظام السوري، فإن رد الفعل الدولي سيكون سريعا وحاداً وواضحا منذ البداية، ولن ينجو بكل تأكيد من مصير القذافي [ الذي تضيق عليه الكماشة] مع المجتمع الدولي، وستعود لنا مع حريتنا أموالنا المنهوبة.
ان احتجاجات متزامنة في مناطق سورية متعددة ستجعل سوريا تحقق رقما قياسياً في انهيار نظامها، وستجعلنا نكتشف مثلما اكتشفت شعوب أخرى كم هذه الانظمة المنحطة هشة وتافهة، وأنها حكمتنا طوال عقود بالخوف والشائعات وقليل من البلطجية.
خلف علي الخلف
تابعوني على تويتر
التعليقات (0)