بابتسامته الصادقة وخجله الجميل يطل علينا الفنان محمد رويشة خلال المناسبات القليلة التي تستضيفه فيها إحدى قنواتنا التلفزية ، حينها يلمس المشاهدون طابع التواضع الذي يحيط بشخصية هذا الفنان المتألق ،هكذا كانت معرفتي بطبيعة تفكير فنان استطاع بفضل إجادته العزف على الة الوتر ان يصنع لنفسه وللأغنية الأمازيغية مجدا فنيا يجد صرحه في مشوار غنائي امتد لأربعة عقود ، أنتج خلالها هذا المبدع مئات الأغاني التي تجد جذورها في تضاريس منطقة الأطلس المتوسط الهنيئة المطمئنة بطبيعة هي كالنبع السحري الذي تشرب منه عشرات الفنانين ، كانوا خير سفراء للثقافة الأمازيغية الممتدة في جذور التاريخ . وإذا كنا قد اقتصرنا في هذا المقال على النجم محمد رويشة، فإن ذلك لا يغني بحال عن ذكر أسماء أخرى تستحق كل التقدير المفتقد في زمن تشجيع الرداءة وبذل الجهد للرقي بها في افق جعلها قاعدة لا محيد عنها للحكم على الأشخاص وإبداعاتهم ، لكن اسماءا ك"حمو اليزيد" و "بناصر أخويا" و"مصطفى العكري" و "محمد مغني" هي جبال أطلسية عملاقة لا يهزها الريح رغم التعتيم الإعلامي والإقتصار على تبيان الطابع الفلكلوري للفن الأمازيغي دون محاولة التوغل عميقا في كنه هذا الفن الغني بالدلالات العميقة.
وفي هذا الصدد ، فقد شكلت أغاني محمد رويشة على الدوام أناشيد حزينة في الغالب ، تتغنى بالحب وتسمو به إلى أرقى ما يمكن للمشاعر الإنسانية أن تصله ، فالحب كتيمة فنية امتدت على طول المتن الفني لمحمد رويشة وعرضه ، وهكذا فقد أبدع عدة مقطوعات في نفس الصدد منها : ديخد أكاويخاوا / لانترحال أوراخيعذيل أكنزري أوا ، والتي تعني : أتيت لأخذك معي / أنا راحل وليس من اللائق أن أتركك وحدك ، وهي مقطوعة تنم عن عتاب دفين للمخاطب الجافي ، لكنه عتاب لم تسمح العاطفة الشجية للفنان بجعله سببا لهجران الحبيب والرحيل دونه ، وفي قطعة أخرى بعنوان : سال سال إيونا ديكان أكسار / اسأل ذلك القادم من المنحدر ، تتجسد شاعرية دفينة تنطلق من ذاتية الفنان مقتحمة المحيط الجغرافي الذي تنقله عينه متسائلة عن الغائب المتواري وعن سر جفائه معلنة عن الشوق الأزلي تجاه الحبيب في مقطع رائع من نفس الأغنية : اماركنون أواينحوبا أوسار يفيغ أول ، التي معناها أن الشوق إليك ايتها الحبيبة لن يفارق أبدا قلبي ، وفي قطعة أخرى يقول : كم إيتر وناريخ ثيفذنين / أذبيخ إيضارن أدكخ أحيزون وهي كسابقاتها تسمو بالتضحية والوفاء وترقى بهما إلى أسمى ما يمكن أن تبلغه العواطف الإنسانية فمعناها أن الحبيب إذا طلب مني أصابع رجلي فسأعطيه إياها ولو تطلب مني الأمر قضاء كل الباقي من عمري أعرجا ، وقد يقول قائل أن ترجمة هذه الأغاني تضخم المعنى وتحمله ما ليست تحمله في الواقع ، وفعلا كان ذلك رأي صديق قرأ هذه هذه الأسطر قبل نشرها في المدونة وعلق ساخرا : هذا أشبه بنشيد الإنشاد الذائع الصيت ، لكن للأمانة قلت أنه بالعكس ، فمهما كانت الترجمة قريبة من المعنى فإنها حتما لن توفيه حقه ، لأن اللغة الأمازيغية زاخرة إلى أقصى ما يمكن تصوره بالمعاني الجميلة الممزوجة بالدلالات الخصبة ، وذلك ما شكل رصيدا لغويا انتهل منه فناننا القدير العديد من القطع الغنائية التي بالإضافة إلى طابعها الشاعري الذي يحتفي بالمحبة الإنسانية الصافية ، فإن بعضها ضارب في النظرة المتسائلة عن معاني الوجود بكل ما قد يحمله ذلك من أسئلة سلاح الإجابة عنها جسدته الكلمات المنتقاة بعناية ، والمتوافقة مع الألحان العذبة والمقامات الموسيقية الرصينة التي توفرها الة الوتر ، وهكذا غنى محمد رويشة رائعته الفنية" أداميك أموتل أدونيث" التي تتساءل على لسان الفنان وأوتار الة الوتر عن معنى الحياة في ظل عدم التساوي بين أفرادها الذين يضحك بعضهم ملء فمه بينما يقاسي اخرون الشقاء والفاقة ، ربي ريخ أذاونينيخ إيد السعد كي ميايان القوم أوي ماذ إيلان ، أي : أريد أن اقول لكم هل الناس يفرق بينهم الحظ ، أم هي قسمة الحياة ؟ وفي أغنية أخرى يقول تبرم الساعث إيرعب أونا وريموثن أوا ،/ تغيرت الأحوال واصيب بالحيرة من لا يزال على قيد الحياة ، وهي اغنية كلها تساؤل عن الحاضر الغريب بعد أن تغير الناس بفعل تغير الزمن ، وفيها حنين إلى الماضي الجميل وغضب من الحاضر واتجاه بالأماني نحو المستقبل..
بالإضافة إلى المعاني الرمانسية الأخاذة لأغاني الفنان رويشة ، وتساؤلها الوجودي عن معاني الحياة ودلالاتها ، فإن قطعة ماتا زمان يتساكان / إيدا زمانإيغوذان ، كشفت عن انفتاح الفن الأمازيغي على مختلف القضايا الإنسانية ، ففي أحد المقاطع يقول أمقار أورتعني شا / إيكا العراق زيكون : رغم ان ذلك يحدث بعيدا عني / أو ليس العراق منكم ؟ ألا تروخ إصبيان لايتمثاثن ذيكون ، أبكي للصبايا الذين يموتون بينكم ، وفي ذلك استحضار للجانب الإنساني الكفيل لوحده بالتفكير الكوني لإيجاد حلول نهائية لمختلف الإشكالات التي يعانيها العالم ، بغض النظر عن الإنتماء العرقي أو الديني ، لأن أي مشكل يعاني من ويلاته الإنسان ،هو بالضرورة ،إشكالية إنسانية ، وجب النظر إليها من هذه الزاوية للقضاء عليها.
وإضافة إلى الريبرطوار الفني الزاخر للفنان رويشة باللغة الأمازيغية ، فإنه أيضا غنى باللغة العربية عدة أغاني أبرزها : شكون يفهمني ، حالي ، واش المحبوب كيلوموه الناس ، بنات الحومة ،يا بنادم خمم ، دارو الحدود... ، وغيرها كثير من الأغاني التي شكلت امتدادا لموهبة تحدت الهامش الضيق للغة الواحدة واخترقت فضاءات تعبيرية أخرى لتتجسد بشكل يدل على كون الفن الجميل لا تستوعبه اللغة الواحدة بفضل قدرته على إثبات الذات على مستويات متعددة ،فما دام الجوهر الإبداعي ثابتا في شخصية الفنان ، فإن الإنفتاح على لغة أخرى هو دليل التفوق وليس العكس.
وبعيدا عن الفن ، يحكي بعض المقربين من الفنان محمد رويشة واخرون سنحت لهم فرصة لقائه ، عن تواضع كبير يميز شخصيته ، فقد حكى لي صديق أنه لما قصد مدينة خنيفرة للقائه ، وجده جالسا على كرسي متواضع قرب دكان صغير لإصلاح وبيع أجزاء الدراجات الهوائية ، جلساؤه أناس بسطاء تقرب منهم فاحبوه مثلما أحبهم ، ويحكي البعض الاخر عن جوانب من شخصيته فقالوا أنها تتميز إضافة إلى صفة التواضع ونكران الذات بحساسية مفرطة ، هي في الواقع سمة أو بلاء ابتلى به الله الفنانين على حد تعبير الشاعر السوداني محمد الفيتوري في ذات قصيدة.
وعن اخر أخبار هذا الفنان ، فإنه أصدر ألبوما جديدا شكل تتويجا لمسار فني زاخر ، عنوان الألبوم : ما يريخ أذاسكخ إيزمان / ماذا يريد مني الزمان أن افعله ؟ وفيها يقول أيضا : ورخايسناقاص إيص خاس الجيب إيخوان ؟ لا ينتزع الضحك من محيا الإنسان ، إلا جيبه إذا كان خاليا..
متمنيانت لفريد الأطلس بطول العمر وبالمزيد من العطاء..
محمد الشاوي / مدونة بصدر رحب / يونيو 2010.
التعليقات (0)