لم تعد الحياة على إيقاع واحد تحكمها رتابة قاتلة،كما كانت قبل اندلاع شرارة الثورة التونسية واتّساع رقعتها لتنتشر،تقريبا،في جلّ البلدان العربيّة وإن تعدّدت أوجه مشاهدها إخراجا وتقاطعت لمعانقة ذات الحلم في الحرّيّة والكرامة والانعتاق من ظلمات الاستبداد والفساد...نكاد لا نقدر على ملاحقة الأحداث المتسارعة عنفا دموياّ أو فكريا أو مسعى إصلاحيا في هذا البلد العربي أو ذاك،فما بالك باستيعابها والاعتبار منها والسيطرة عليها؟
في محاولة لتغطيّة مستجدّات "الثورة التونسية" المعنوة في راهنها بـ"تحقيق أهداف الثورة أو استحقاقاتها"،نقف على كمٍّ هائل من الأحداث تبدو:
- متشعّبة إلى حدّ أنّها تكاد تكون عصيّة عن فهم في دلالاتها.
- مُعيدة لتوزيع الأوراق بشكل مباغت إلى حدّ الاعتقاد أنّنا إزاء عبثيّةِ المراوحة في نفس المكان أو التعاطي مع "صخرة سيزيف".
- محكومة بالعنف والفوضى تارة،ومتحاملة على جراحها تروم اندمالها في وفاق منشود مفقود،تارة أخرى...
لقد تناسل أدعياء "حماة الثورة" بأسرع من تفريخ الدّجاج الاصطناعي وانتصبوا في أوج القلق الشعبي مبشّرين بـ"الجنّة الموعودة" مُلوِّحين بعصاهم الغليظة في وجه بعضهم البعض...أما الحكومة المؤقّتة التي ما كان يتوقّع أحد أن تكون بذات التركيبة المحيّرة والإخراج الطريف الذي بعثها للوجود،فهي تمسك بكلّ شيء ولا تمسك بشيء: من ناحية،تدّعي تأمين سير دواليب الدولة وتصريف الحياة العامّة وإشعار المواطنين والآخر الخارجي أنها تُمثّل سلطة البلاد المؤقّتة بل إنها،بفعل الأمر الواقع،تحتكر السلطتين التنفيذية والتشريعية بموجب قراءة تأويلية لدستورٍ أُلقيَ به في مزبلة التاريخ وبتفويض من مجلس نيابي تشريعي أحيل على التقاعد الوجوبي كرهًا،ومن ناحية أخرى لا حول ولا قوّة لها إزاء سلطاتٍ خفيّة أخرى تقفز على السطح،حينًا باسم شارع غاضبٍ وغير مُطْمَئِنٍّ أو شارع مهيَّجٍ بتأثير من قوى إغراء أو استعطاف أو محاولة استبلاه،وحينا آخر باسم سلطة فرّختْها،على عجل،الثورة فادّعت لنفسها الشرعية أو انتزاع سلطة القرار تحت مُسمَّى "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" فغدت تصول وتجول وتُجيزُ لنفسها تصنيفا للنّخب السياسية بين مَنْ هم "أنصار الثورة" وبين من هم "أعداؤها" وبين من يتقرّر بشأنهم الحرمان من حقّ الترشّح إلى عضويّة "المجلس الوطني التأسيسي" المُعّلن عن انتخابه يوم 23 أكتوبر 2011 بعد أن كان مقرّرًا ليوم 24 جويلية من نفس السنة.
هذه الهيئة العليا،بعد أن بدت متماسكة بعض الشيء لتمثّل فضاءً رسميّا أو شبه رسميّ "يتيما" تتحاور في رحابه النّخب السياسية والفكرية والجمعياتية وبالتالي الحسم في القواسم المشتركة وتطمين الشارع القلق الخائف من مجهول قد يكون كارثيا،قلتُ هذه الهيئة العليا شقّها الشقاق والنّفاق وأجندات سياسوية ضيّقة،فتبادل أعضاؤها "الموقَّرين" التخوين والسّباب وحتّى اللكمات وعرّى بعضهم البعض العيوب والنّدوب،وانتهى الأمر بفصيل "النهضة" الحزبي الإسلامي الذي يُصنَّف كأبرز طرف إلى مقاطعة أشغال ذات الهيئة احتجاجا عليها فيما اعتُبِر حشرا لأنفها في المحظورات والتّطاول على شرعيّة لا تمتلكها،واقتدى بها آخرون...
وما دام تشخيص الراهن أفضى بنا إلى دخول نفق المشهد الحزبي من باب تدافع كمّه الهائل الذي بلغ زهاء مائة حزب،فإنّ المشكلة في ذات المعضلة الإمعان في تعذيب المواطن البسيط بتحمّل ما طاقة له به تعدادا لها حزبا حزبا -"زنقة زنقة"- ،ومن التّعرّف على باعثيها و"مقاوليها" فردا فردا،ومن فرز المتشابه منها وهو الأوفر عددا،ومن تبيّن الخيط الرّفيع الذي يفصل بين الغثّ والسمين أو بين الافتراضيّ منها الذي لا يرتقي تأثيرا إلى مستوى مجموعة شباب عادية ناشطة على موقع اجتماعي في الشبكة العنكبوتية ،وبين أخرى تؤسّس لحضور جدّي في المشهد الحزبي المستقبلي للبلاد...المواطن العادي يطلب مع الحرّيّة "رغيفا لكلّ فم" فأغدقت عليه نخبه السياسية وتلك التي تدّعي ذلك دون أيّ وجاهة وبكرم حاتميّ لافت "حزبا لكلّ فم"،ولسان الحال يقول للشعب الثائر:"املأ فمك بما طاب لك من فواكه الأحزاب فقد تُنسيك كلّ صروف العذاب..."
اللافت في الجدل الحزبي الصاخب ظاهرة استقطاب ثنائي بين السياسي العلماني أو أللائكي وبين السياسي الديني أو المقدّس،ذات الجدل يجترّ أطروحات ترضع من "أثداء ميّته" وتستحضر رفات فكر محنّط من القبور ومن دهاليز عصور الانحطاط حتى وإن تجمّل دعاتها ومناضلوها بثياب النّفَس الثوري وتعطّروا بعطر الديمقراطية المستورد من آخر ما أفرزته الشعوب الثائرة من ابتكارات ديمقراطية إثر عهود استبداد حديثة كتلك التي عرفتها أوروبا الشرقية أو تلك التي أخرجت "حزب العدالة والتنمية" التركي الإسلامي من ضلوع دكتاتورية أتاتورك العلمانية المنقلب على الإسلام العثماني...
يبدو خطاب العلمانيين كما الإسلاميين في تونس الثورة مرتبكا وغير متماسك وغير مطمْئن،لا يلتقي على أرضيّة وفاق إلا ليؤسّس لهُوَّة شقاق،القائمون عليه هم نفس رموز الأمس الذين ساهموا بأدائهم غير الموفّق وشطحاتهم المذهبية وعدائهم الشرس لبعضهم البعض في تثبيت أركان سلطة الدكتاتور المطاح به ومكّنوه من التنكيل بهم ومن إحكام قبضته الحديدية على عامة الشعب وصفوة كفاءاته...شعبٌ اضطرّ تحت وابل قصفه بالصراخ الإيديولوجي المتشنّج لفصيلين متناحرين أن يُرغَم على الاحتماء بسقف طاغية،بعد أن عاين مغازلتهما له في السرّ كما في العلن...تُرى ألا يجوز القول أنّه حان الوقت لرموز الصّراع الأيديولوجي العتيقة المهترئة التي أنهكَت غيرها واستَهلكتْ رصيدها وتكلَّست أن تنزاح(حتى لا نقول:إرحل أو "ديجاج") عن المشهد السياسي بِرًّا بثورة أنجزها شباب مُتعلّم ومحبّ للحياة،يفور فتوّة وتوثّبا للأرقى ويُدرك تحدّيات عصره بحسّ مرهف،شباب نقيّ السريرة نفيس المعدن رحب الأفق؟...للشيوخ قادة الأحزاب الذين عمّروا طويلا في احتكار الزّعامة ألا يفعلوا ما يُعيبونه على غيرهم وألا يحيدوا بأهداف ثروة نبيلة راقية إلى حيث مستنقع الحسابات الضيّقة وأن يُردّدوا الحكمة القائلة:"على الإنسان ألاّ يكتفي بالاعتزاز بنفسه،بل عليه أن يستشعر كماله الإنسانيّ بحيث يخجل من لإتيان بالعمل القبيح."
أليس من الحكمة أن يثوب شيوخ الوعظ السياسي- يمينا ويسارا- إلى رشدهم وأن يُكفّروا عن ذنوب الأمس التي أفضت إلى حكم فردي تسلُّطي أسهموا في تعزيز أركانه بالتزلُّف إليه لغاية التماس دعمه للإطاحة بـ"العدوّ الإيديولوجي" لكلّ منهما،فإذا به ينتهي إلى الإطاحة بهما بشكل ممنهج وساحق،فلا يجدون من حلٍّ سوى الهروب بجلدهم خارج الوطن أو الاستسلام لإمعانه في إذلالهم أو "التوبة" عن امتهان حرفة المعارضة بمقابل رخيص؟...يجب أن نُسجّل- أيضا- أنّ الفرقاء المذهبيين ما كانت لهم قدرة على الوحدة والوفاق إلاّ لمّا طفح كيل السلطة الباغية جشعا وفسادا متزايديْن وإمعانا في إيذائهم وتحقيرا لهم بشكل استفزازيّ فجّ...هكذا آل الحال:سلطة تمعن في الاستبداد فيضطرّ الفرقاء المتنافرون إلى الاتّحاد دون حسم في قضاياهم الخلافية المزمنة،إتّحاد شبيه بزيجة غير شرعيّة سرعان ما عرّت حقيقتها وعيوبها رياحُ ثورة 14 جانفي 2011 الميمونة.
يبدو أنه ثمّة قصور في استيعاب دروس الماضي لربح الوقت واقتناص اللحظة التاريخية الراهنة التي لا تقبل بالتعامل مع "طاحونة الشيء المعتاد"...ليست هناك قضيّة هويّة تستوجب الهرْولة لتنازعها ذات اليمين وذات الشمال،ليس هناك خصام بين الشعب وعقيدته الدّينيّة وليس من حقّ أيّ طرف أن ينتصب وصيّا أو وسيطا في علاقة العبد بخالقه،ولا يقبل العقلاء تصديق مُدَّعٍ للنبوّة اليوم،إنّما القضية الجوهرية هي ذاك الجرح النّازف المزمن التونسي والعربي،جرح نازف مردّه فقدان حرّيّةٍ ثبت أنّ تدفّقها لا يكون إلا بالاحتكام إلى نظام ديمقراطي لم تبتكر آلياته،كما هي مشاعة،عقيدة دينيّة،مهما كانت هذه العقيدة ومهما كانت مرجعيّتها...
الحرّيّة كلّ لا يتجزّأ تنحاز لأيّ عقيدة تُعزّز حضورها وتَسْنُد أيّ فكرٍ يجعل من الإنسان سيّدا على نفسه وخليفة لربّه على الأرض...ثمّ إنّ الديمقراطية ليست ترفا حضاريا ننشده تقليدا للمتفوّق إنّما نُريده أداة تفوّق،لا نُريد لهويّتنا وعقيدتنا الإسلاميّة أن يُوَجَّه إليها إصبع الاتّهام من جديد بأنها فوّتت علينا فرصتنا التاريخية الرّاهنة في التطلّع إلى الأفضل بسبب أنّ المنتصبين أوصياء على الإسلام أساؤوا الأداء أو احتكروا المقدَّس لأهوائهم أو ألبسوه اجتهاداتهم فتحوَّلت تلكم الاجتهادات بنقائص عطائها إلى مقدَّس يتحمّل الإسلام وزره...ثمّة قصور في استيعاب دروس الماضي،أيضا، حين يعلو الصراخ استفزازيا يُجاهر بالإلحاد،كما كان الشأن في الفيلم التونسي "لا ربّي ولا سيدي" ،أو يتباهى بعلمانيّة تنتهك حُرْمة الهويّة والمعتقد الديني بتعلّة دخول عهد الثورة والحريّة...لا الإلحاد بتطاوله وعربدته ولا العلمانيّة بأطروحاتها المراوغة بقادريْن على إنجاز الاستحقاق الديمقراطي بمجرّد التّشيّع لهما،وعلى المغالين في اعتناقهما التّنبّه،فيما وجب التّفطّن له،إلى أنهم يسيئون لقناعاتهم الشخصية إن ادّعوا أنّ النّظام الديمقراطي لا يقوم إلا على أساس الترويج للإطاحة بالمقدّس واجتثاث هويّة الشعب...الديمقراطيّة،في حدّ ذاتها،عقيدة محايدة ترفض الزّجّ بها في شعاب المعتقد أكان دينيا أو وضعيا،وهي لا تتناقض معه،بل تقبل إثراءه بقدر قدرته على الإسهام في ضمان حسن آدائها...
في السياق نفسه،وفي غمرة نخوة التعاطي مع الحرّيّة التي جاءت بها الثورة التونسية توفّقت مؤسسة إعلامية محلّية إلى استدراج عَلَميْن بارزين لمناظرة حول "تحديث الفكر الإسلامي" في مسعى لتخليصه من عجزه على الإقلاع بالأمة الإسلامية إلى مراتب القوى المهيمنة على العالم ...يهمّنا في هذا الحوار،ليس ثراء محتواه وعمقه،فحسب،من حيث طرحه لوجهتي نظر تشبّث فيها المفكر "محمد الطالبي" بدفاعه عن طرحٍ يُؤسّس لاعتماد القرآن كمصدر وحيد للإسلام وبالتالي للاجتهاد والتشريع،في حين دافع الشيخ عبد الفتاح مورو "الناشط السياسي" ومؤسس حركة النهضة ذات المرجعية الدينيّة على فكر سلفيّ ٍ يعتمد القرآن والسنّة وتراث الفقهاء في تطوير الفكر الإسلامي،ما نُريد التّوقُّف عند دلالته العميقة في هذه المناظرة هو بروز عدم تكافؤ في سيرها لا لعيْبٍ له علاقة بكفاءة الرّجلين العلمية أو قمع أحدهما للآخر،إنما لأنّ الأوّل الدكتور محمد الطالبي هو مجرّد رجل فكر بارز مستقلّ ويجاهر بإسلامه في حين أنّ الثاني الشيخ عبد الفتاح مورو هو،فضلا عن اشتراكه مع الأول في كونه رجل فكر مسلم، مؤسس رئيسي لحركة النهضة (الإسلامية) وداعية وحاضر بقوّة في المشهد الديني والسياسي والإعلامي ممّا أهّله ليكون نجما له أنصار من كلّ شرائح المجتمع خصوصا بعد أن تحرّر من كبتٍ عن الفعل والكلام المباح لأكثر من عقدين،ركب للتّوّ موج الثورة المغري متحصّنا بحذقه لفنون "العَوْم" الديني والسياسي ومستفيدا من كونه شخصيّة حاضرة واقعا في نشاط حزبه (حبيبه الأوّل) الذي اشترك في تأسيسه منذ عقود وغائبة عن وثائق هيئة قيادته الرسمية المعلنة حاليا...هنا اختلط الفكر الديني بالسياسي فبرزت العلّة في أنّ رجلاً أكاديميًّا رفيعَ المستوى العلمي-محمد الطالبي- لا يشتغل بالشأن السياسي وليس له من سند شعبيّ إلاّ نخب قليلة تنشغل بكتاباته وبالشأن الفكري،عموما،في حين أنّ الشيخ عبد الفتاح مورو يُوظّف الإسلام في السياسة اعتمادا على قاعدته الحزبية...ولنا أن نتصوّر كيف يصل الأمر إلى اعتبار جرأة الدكتور محمّد الطالبي الفكرية- بصرف النّظر عن الاختلاف المشروع في تقييمها-أقرب ما تكون إلى الكفر والمروق على تعاليم الدّين الإسلامي،بل إنه ليس ادّعاء ظالما للرّجل إن ذهبنا إلى القول أنّ ما حازه من متابعة واسعة لآرائه في هذه المناظرة يعود فيه الفضل لشعبية رجل الدين والسياسة عبد الفتاح مورو...
الخلاصة أنّه وجب التّنبيه إلى ضرورة القطع مع الوقوع في نفس الأخطاء التي أطالت زمن معاناة الشعوب العربية وفي نفس الفخاخ التي فوّتت علينا فرصا كثيرة للنهوض بأمّتنا،والأمل لا يزال معقودا على الثورة التي كان لها شرف السّبق أن تتدارك أمرها وتتجاوز الارتباك الذي وقعت فيه بترك ما يُفرّق والتشبّث بما يجمع وبحقن الفكر الذي يسوسها بالدّماء الجديدة الشابّة التي فجّرتها إرادةَ حياة من أجل الأفضل اتّساقا مع ذات الأمل الذي يحدونا في تعزيز جهد البناء العربي الشامخ وتحصينه بثورة مصر وبالمخاض العسير الدّامي لثورات ليبيا واليمن وسوريا وبجهود الإصلاح غير العنيفة التي تلتقي فيها إرادة الخير بين الحاكم والمحكوم من أجل الإصلاح المحتوم والذي لم يعد بالإمكان تأجيله في أيّ قطر عربيّ.
التعليقات (0)