خيانات المثقفين
عبد الوهاب الملوح
..فرَّ الكلب وحلت الضباع تنهش من جسد الهواء
كل شيء جائز الآن
يسيل الدم غزيرا من الجسد الذي انتفض وقد تحررت أنفاسه تتمرَّد على أعضائه المحبوسة في قفص الغبن ..ينزف حتى الموت و بدل أن يرقص ذلك الجسد حرية فيصير لون الهواء أحمر وإيقاع النشيد أحمر وطعم التفاحة أحمر.... يتحول كأس الدم عند بعضهم كأس نبيذ لاستكمال سهرة على نخب ’’الثورة’’ ..
كل شيء جائز
بين ليلة وضحاها يصير الهواء الفاسد بدوره ثوريا ويطلع علينا باعة روبافيكيا الكلام بموديلادت حديثة من الصيغ المطرزة باستعارات وبلاغات وفق مصطلحات ثورية مشدودة إلى ربطات عنق تجهِّز القصيدة لاعتلاء مقصلة الإعدام الجمالي..؛ تتعملق ظلال المرابين القدامى تحت الأضواء الكاشفة تُبرز مؤخراتهم اللغوية وقد نال السوس من قماشهم الأبجدي المتآكل ؛ وهم يعدون من قدِّيد الكلام وليمة لأعراس معدة سلفا بطبال وزكرة ومشتقات عبارات الشكر والتصفيق الجار بحذف المجرور و استبعاد من لا يُجيد الضرب على الدفوف وإقصاء من تيقَّن إن الهامش هو الأصل مهما بلغت الثورة قممها واقتلعت جذور العفن من الأعماق ..
لا محالة ؛فكرة الإقصاء أصيلة في طبائع الفرد على اعتبار إن البطولة شأن شخصي لابد ان تدفع فواتيره المجموعة العامة أما الاحتفال ب’’ الثورة ’’ فهو لا يخصُّ إلا من اعتاد أن يخرج للعموم ببزة رسمية وقصيدة رسمية وموسيقى منضبطة لقواعد السلم الموسيقي ومتعهد حفلات معترف به حكوميا لإقامة الحفلات الثورية ..
هل هي ثقافة ما ’’بعد الثورة ’’؛أم ’’ثقافة ما بعد 14 جانفي’’ أم ’’سياسة وزارة الثقافة والمحافظة على التراث النوفمبري والبورقيبي’’ أم هي ثقافة «التيك أواى»، واللهاث وراء الموضة الثورية وما تستدعيه من عمليت السطو بما في ذلك السطو على حمار سانشو بانشو .
يؤكد إدوارد سعيد إن المثقف يتحول إلى خائن حين يتخلى عن دوره كناقد لذاته وللمرحلة التي يعايشها ويهرع إلى تمجيد المرحلة دونما تفحص أومقاربة نقدية خالية من الذاتوية والانطباعية ؛ يسقط في فخ اللحظة وما قد تتسم به من مظاهر التجاوز التي بدورها قد تنعكس على شخصية هذا المثقف ويعتقد انه وصل الى مرحلة الألوهة.. ليس الأمر معقدا إلى هذه الدرجة ؛ ثمّت من يجلس على كرسي في السماء الثامنة ويرى انه كان الهة منسية و جاء دوره يتخلى عن صورته التقدمية أو بُشرِّع لها باعتبارها الصورة الأمثل لينفذ شريعته ويبعث رسله فالسفينة قد ’’ استوت على الجودي ’’ ..
آلهة قديمة أنجبت وفقا لترتيب جيني مشوه آلهات لم تجد ما تفعله سوى التعويض عن دور الضحية باستمناء مستمر لكرامات أولياء خرجوا حفاة عراة بعد انتهاء صلوحية موتهم السريري ..
هو تبادل للأدوار إذا وجني محاصيل الفوائض السنوية من سنوات إيداع الكلام في مصارف المكر السياسي وكل حسب قيمة تداول اسمه في بورصة المعارضة.. ليتكرر المشهد مجددا لكن من جهة كانت غائبة عن الأضواء وإذا المحنة اكبر من هروب ديكتاتور ولكنها نرجسية سيكوباثية و سكيزوفرانية ثقافية هو إذا تغيير المواقع ومن كان هناك أصبح هنا وحتى من كان هنا أصبح هنا يكفي ان يغير من اللوك الذي دأب الظهور به ليتحول وبعصا سحرية من حاكم إلى اكبر ثوري...ومن ثوري إلى منظر في الشفافية الانتهازية
هؤلاء الذين هم هنا وهم هناك ؛ هؤلاء الذين يجيدون دور الجلاد ودور الضحية في نفس الوقت هؤلاء الذين لهم القدرة على أن يكون لهم ألف وجه في اللحظة الواحدة؛ هرلاء’’الذين يبيعون القرد ويضحكون من شاريه’’ هم في كل مكان ولا مكان يسعهم وهم أصحاب الحقيقة دائما ومنهم ذلك الذي قبل ساعة واحدة كان يدافع عن الوهم ويضرب الطاولة من اجل استتباب الصمت ويراهن على إن نظام بن علي هو النظام الأقوى والأوفى والأجمل في الدنيا قاطبة ؛ يدافع بشراسة المحتضر عن حياة ذهب في ظنه انه سيخلد فيها ؛ طبعا وقد طال انحناؤه إلى درجة انه ما عاد يرى غير الحذاء والغبار من حوله وما يلقيه له السلطان وأتباعه ليثمِّن (عاليا) ؛يزكي ؛يبارك ويهتف ’’ألا كل ما خلا الرئيس باطل ’’ ثم ينقض بكل شراسة على من يعارضه الرأي حتى بالصمت...
منذ أيام والقتلى يسقطون بالعشرات برصاص بوليس النظام السابق أعدت إحدى المجلات المشهورة عند أتباع النظام طبعا ملفا عن أحداث تونس وملخص هذا الملف إدانة لما يحدث من جهة الملثمين والعصابة المناوئة لتونس و’’ الإرهابيين ’’ وتثمين لقرارت الرئيس الرائدة والتاريخية – والمقصود هناك الكلمة الأولى التي ألقاها الديكتاتورعشية يوم 3/جانفي /2011 والتي اتهم فيها شعبه انه إرهابي وضمن هذا العدد كانت هناك كلمة لصحافي يشتغل بوزارة الثقافة يدين فيها الصمت البشع للمثقفين التونسيين وكيف لا يدينون ما يجري ويقفون كلمة واحدة ضد الانتفاضة مع نضام بن علي الذي .. وشرع بدوره يعدد ويحصي المبادرات الرئاسية من اجل المثقفين والانجازات والكرامات التي تكرَّم بها الرئيس للمثقفين وهو ما يستدعي طبعا أن يهبوا ويدينوا انتفاضة الشعب ويستنكرون ما يحدث من احتجاجات ويدعون الناس من مواقعهم كمسرحيين وسينمائيين وشعراء وكتاب أن يوقفوا تضامنهم مع المحتجين واعتبر المثقفين التونسيين ناكرين للجميل لأنهم التزموا الصمت ولم يقوموا برد الجميل لمن أكرمهم وأسعدهم ووهبهم رغد العيش على أن اللحظة التاريخية تستدعيهم أن يقوموا بدورهم العرفاني غير انه و يا لمفاجأة ما إن تم الإعلان عن خطاب مساء يوم 13/01/11حتى طلع الصحفي صاحب المجلة المشهورة ليردد ’’ غلطوني ’’ أيضا وشرع في دورالضحية مجدد ا ؛ ينادي بمحاسبة كل المسؤولين وينادي بحرية الإعلام وهو واحد من مهندسي إعلام الفترة الكابوسية دونما إن يتوقف عن دوره الببغائي في تكرار ما قاله ’’عرْفه’’ ؛ وغير مستبعد إن ينقلب مجددا على نفسه ويدعي انه ابن الشارع وانه من أبناء الشعب وهو كذلك من أبناء الشعب لكنه عمل على حبس هذا الشعب وكبته بجميع الأشكال؛ انه الان يحاول ان يكون هنا ويركب الحدث ايضا ولكنه لا يعرف ان لكل فترة قوانينها وانه لما طلع على الفضائيات العربية يمدح ويزكي ويثمن ويبارك نسي ’’ اذا الشعب يوما اراد الحياة’’ ويا للوقاحة مازال يعتقد انه من اراد الحياة الكريمة ... أمثال هؤلاء المهرولين هم هناك الآن فقط وافتضحت أساليبهم وما عاد بامكانهم ان يستغبوا هدا الشعب الكريم ولا مكان لهم في أي مركز من مراكز القيادة الآن ولا صدقية لمهنتهم الاعلامية لابد من القطع معهم..
..فرَّ الكلب وحلت الضباع تنهش من جسد الهواء
كل شيء جاهز للتبدل والانقلاب على كل شيء طالما إن الكراسي الفارغة تنتظر من يجلس عليها وهوزمن الغنائم التي تركها الفارون لتعود إلى خزائن الشعب المقهور والشعب المقهور هو تحديدا الذي يمارس وصايته الثورية وهو وقت للصعود إلى الأعلى وزمن قبض المنح على سنوات الحبس وسنوات النفي ..زمن للنهب ..النهب السياسي و العاطفي وزمن النهب الإيديولوجي و النهب الثقافي بما سيعمل على تنفيذه من سياسات الوصاية على كل ما هو إبداع والسطو على الحلم وامتلاك الأحقية في كل شيء بما في ذلك كتابة رواية عن شهيد أو إعداد مسرحية عن حرية لا تلبس الحجاب أو ترتيب لقاء بين عاشقين في قصيدة وهو بشكل آخر استكمال مشروع التصحر الثقافي وتجفيف منابع المعرفة وتأكيد مبدأ بطولة الشاعر الأوحد وزعامة الممثل الأقدر ونجومية الفنان ألأوسع انتشارا بما يعني أن الغايات الكبرى من الثقافة هى في جانب منه الترفيه وفي جانب أخر توفير المنح للظواهر الاجتماعية التي تجيد لعب دور الضحية في كل وقت ولعلها من البنود التي ستكون بارزة في الدستور الجديد في الفصول المتعلقة بالثقافة هذا إذا كان في الدستور فصب يتعلق بالشأن الثقافي طالما وانه لا أحد يعنيه المجال الثقافي لا الأحزاب الجديدة و لا المثقفون في شتى قطاعاتهم ولا الحكومة المؤقتة التي أبقت على نفس السياسة القديمة لوزارة الثقافة التي لم يتغير فيها شيء بل وصارت نهبا لمن هب ودب وقال اني ثوري يغني الالتزام ويكتب شعر الالتزام ويرقص الالتزام أيضا ؟
قال ابو القاسم الشابي حين تركه أصدقاؤه المثقفون وحده:
’’ يئست من المشاريع التونسية’’
ما يحدث الآن مجرد تبادل أدوار بشكل رسمي تبادل مواقع بين من كان قريبا من هنا وبين من كان هناك ليأخذ كل واحد حظه وينال من غنائم بن خيبر وبني قينقاع حتى ولو لم يؤمن ولكل واحد الحق في خراج ثروة الثورة لكأن الفن الثوري برز بعد 14 جانفي فقط وكأن كل الشعر الذي قيل قبل هذا التاريخ لم يكن معنيا بشكل من الإشكال بكفاح الشعوب ومسيرة النضالات مهما كانت ؟
فجأة هكذا وبجرة قلم يصبح من كان مداحا ثوريا ويتحول من غنى للحاكم المخلوع تقدميا ويصبح من كان مقاولا لنشر الأعمال الممجدة للنظام الديكتاتوري ناشرا مناضلا ؛ يطبع كتبا أقل ما يقال عنها كلام مؤقت يؤبّد جكومة مؤقتة هي بدورها تؤبد نظاما لايريد له أهل السياسة ان ينحلَّ ..هكذا سوف يكون المثقفون في الفيلق الأول للثورة المضادة .. وهو أمر جائز طالما انه وأثناء سقوط الضحايا برصاص الطاغية كان هؤلاء يراقبون سير الأمور من شرفاتهم او من خلال استعاراتهم التي لم تكن ثورية ولن تخرج عن الصق العائلي والحال ان الثقافة هي الهامش الخارج عن القطيع دائما
قال ناظم حكمت ذا ت مرة :
’’ إن لم تحترق أنت / إن لم أحترق أنا/ إن لم يحترق هو / إن لم تحترق هي / من سيضيء هذه العتمة’’
تحتفظ قصيدة النثر دائما بحق الرد في جميع الحالات ؛ لا تنتظر تأشيرة عبور إلى جهات ممنوعة هي خط الدفاع الأول عن أسباب الإبداع الأدبي بما تتسم به من طابع إشكالي وما تمتلكه من قدرات أختراقية تنهض أساسا على رفض ما هو ثابت ومقاومة قوى الجذب إلى الخلف ونسف ما تهرأ مما تقادم وتآكل ولأنها وجه من وجوه الإبداع بالكلمة وهو ما لن يعني إنها تعبير جمالي فقط على قدر ما لهذه الجمالية من أهمية وفاعلية في الارتقاء بفنية الأثر وتحويله إلى حالة إبداعية استثنائية تهجس بجمالية مبتكرة خلاقة فهي أيضا تعمل على التصدي لعمليات نهب القيم الإنسانية العليا وما ترسخ من مبادئ تكرس جوهر الحياة في أقدس معانيها . لقد دأب الشعر منذ الأزل باعتباره عملا فنيا على حراسة هذه المبادئ من خلال التغني بهذه القيم على اعتبار إنها جوهر كينونة الإنسان ؛ مجّد الحرية دائما ؛ عدّد مزايا احترام وتقديس كرامة الفرد على اعتبار ان الموجود الذي به يكتمل هذا الوجود وأعلى منزلته فتنبأَ بمصير الظالم وحارب نزعات الاستبداد وكان دائما الضدُّ الأول بل إن جودة الشعر كانت تُقاس بمقدار تغنيه بالعزة والكرامة والحرية والمساواة مقابل تصديه لكل من يحاول إهدار هذه القيم والنيل منها حاكما أو محكوما مهما كان وهو شأن أشعار كل الأمم وعلى مر التاريخ منذ نشيد الأنشاد إلى أخرر قصائد القرن الواحد والعشرين مرورا بإلياذة هوميروس وانياذة فرجيل و معلقات الشعر الجاهلي تلك مهمة الشعر الحقيقية :الالتحاق بصفوف الناس البسطاء والوعي بهموم المقهورين والمعذبين بما يؤدي إلى التمترس جنبا إلى جنب مع المناضلين والمقاومين والأمر لايتعلق بالتقدمية والأدب الملتزم بقدر ما إنه الوفاء للأصل والأصل في الشعر هو تمجيد القيم الإنسانية العليا النبيلة شراسة الدفاع عنها لذلك عانى الشعراء الحقيقون من انتمائهم إلى هذا الأصل عانوا السجون والتعذيب والتغييب والإقصاء والنفي والقتل و كما لا يكاد يخلو زمن من طاغية فلا يخلو زمن من شاعر قتيل أو مسجون أو منفي بل انهم هؤلاء من يصنعون التاريخ الحقيقي للأمم.
ذلك الشعر في جوهره مقاومة وثورة مستمرة وهو ما لا يعني عدم وجود شعر السلطان وشعر الدولة هذه الدولة التي سوف تعمل على تبيض وجهها وتجميل صورتها بتعبئة جماهير الشعراء الذين وان استطاعوا إن يمتلكوا قدرات فنية وطاقات جمالية هائلة استطاعوا من خلالها تجميل وجه الحاكم وإظهاره في صورة العادل المتفرد الذي لم يأت التاريخ له بمثيل في محاولة فاشلة لتخليده فإنهم خسروا مرتين خسروا أن يكونوا أوفياء للشعر وخسروا حب الناس لهم بل إن الشعر عانى منهم بما إنهم اعتدوا عليه بتحويل وجهته من لحظة إبداعية متحررة إلى مؤسسة تابعة للحاكم الذي يُملي عليها ما يجب أن تقوله بل وما يجب أن تكونه.
والشعر طائر متحرر متمرد لا يصغي إلا لخفق أجنحته هذه الأجنحة التي إنما يدفعها هواء نظيف متجدد لا يمكن لها إلا أن تطير خفاقة عابرة لكل الحدود أعلى من كل السماوات.
غير إن القصيدة لا تقول فقط إنها تكون وكينونتها تكمن في اكتشاف أسباب ابتكارها وسبل تشكل مداراتها
الشعر غير مدعو للاكتفاء بصياغة المعنى ولو إن من مهامه الأولى ابتكار ه والإتيان بما لم يأت به السابقون كما ينبه ابن رشيق في عمدته وتحقيق ابستيمية على مستوى الفكرة ولن يتحقق هذا الابتكار وهذه الابستيمية إلا حينما يتعهد الشاعر أدواته الفنية بالتجديد والتحديث و بالحفر في الوسائل التي من شأنها تحقيق مراقي جمالية ذلك إن القصيدة لا تقول فقط ولكنها تكون بوصفها كائنا جماليا وكلما كانت أقوى وأجرأ في اختبار أدواتها الجمالية كانت أكثر ثورية تقطع مع السائد المتكرر وتأتي بما هو مختلف ومغاير . المعاني مطروحة في الطريق هذا ما قاله الجاحظ بقى كيف يمكن ان يتم تجديد هذه المعاني ومداهمتها بوسائل تقنية مختلفة .
ثورية الشعر في انقلابه على اشتراطات تشكله ليجيء في كل مرة مدهشا متوهجا وجديدا ؛من هنا سوف تظهر الحاجة إلى قوانين مختلفة وأساليب مغايرة في القول الشعري ومن هنا أيضا سوف تشتد الحاجة إلى المغامرة والتجريب في الكتابة وذلك بعدم تكرار نفس الأصوات ونفس الإيقاعات وهو ما سيظهر فشل من يعملون على التعبير عن الثورات العربية اليوم بأساليب متقادمة ومتآكلة ففي الوقت الذي يحقق فيه الشباب والشعب العربي ثورته عبر وسائل تعبر عن فهم ذكي لثورات وتمردات الأمم السابقة بدءا من سبارتاكوس الى الزنج الى غاندي إلى شارع بورقيبة متطورة على مستوى الأرض بالاحتجاجات السلمية والعصيان المدني والاعتصامات والمناورت السياسية أو في قاعات العمليات الإعلامية بتوظيف آخر التقنيات التكنولوجية من الفايسبوك و طلعاته التقنية الأخيرة وتويتر واليوتيب و الرسائل النصية لقصيرة عبر الهاتف بلغات بسيطو مشفرة أكدت مدى قراء لغة الشارع وقدرتها على المناورة والمدونات واختراق مواقع الحاكم الرسمية ف الوقت الذي يناضل فيه الشباب والشعب بهذه الوسائل الحديثة مازال ثمة من الشعراء من يكتب قصيدته مستعملا قاموسا بلاغيا كلاسيكيا بلغة فجة جافة تفتقد لماء الحياة اليومي وباعتماد أساليب تركيبية صارمة هي أشد صرامة وانضباطا من حاكم لا يعرف ألا لغة التهديد والانضباط ويطالب بالشرعية الدكتاتورية وهو ما يعبر عن الفهم الخطأ لحقيقة الشعر الذي يجب أن يكون في صف الجماهير قبل أن يمتثل لسيادة العرف الشعري وبوليس الفقه اللغوي هذا الفهم الذي تأسس على إن الشعر تعبئة وتجييش للناس بما انه صادر عن لحظة انفعالية لم يستطع الشاعر أن يحولها إلى لحظة إبداعية بل غلب عليها الطابع المناسباتي الاحتفالي أو الجنائزي سيان والمهم جلب التصفيق وإسالة لعاب المتلقي بعيدا عن فكرة تشريكه بدوره في كتابة النص الشعري فالمسألة ليست ماذا يمكن أن يقول الشاعر ولكن كيف يقوله وهذه الكيف ليس الشاعر فقط مسؤول عنها بل للمتلقي دور فيها.
فالقصيدة مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى لمراجعة أدواتها إن لم يكن نسفها وإعادة ابتكارها من انسجاما مع التطورات المتسارعة على جميع الأصعدة فالشاعر مدعو لاعتماد قاموس لغوي جديد يأتي به من الشارع واليومي ومما يتخاطب به الناس من هذا القاموس الذي اسقط نظاما وأطاح بديكتاتوريات عظمى ويعمل على عدم عودتها والشاعر مطالب من حيث موقعه الطلائعي إن يكون من السباقين ليهتف بالجميل والأجدر وأن يُنوع على هدا القاموس ويحوله بدوره إلى مرقى جمالي إن عبارة ديغاج السحرية التي أذهلت العالم وأدهشته وأطاحت بإمبراطورية البوليس هي عبارة مركبة من حروف لاتينية وهي إشارة مهمة لحاجة اللغة للتجديد من الداخل وأول من يعنيه الأمر هو الشاعر باعتباره كائنا لغويا وليس في الأمر دعوة للتخلي عن مقومات اللغة العربية ولكن المحافظة على هذه اللغة تستدعي تطعيمها وتغذيتها وضخها من الداخل بإمكانية حديثة تجعلها مواكبة للعصر ومنسجمة مع إيقاعه؛ ولذلك سوف يتوجب على القصيدة أن تنتظم ضمن ا ولذلك سوف يتوجب على القصيدة أن تنتظم ضمن إيقاع يهجس بهذا الواقع المتغير ولا يكتفي بمجرد الانسجام معه بل وسوف يستبقه ويستجيب لنداءاته الخفية.
هل مازال ثمة ضفتان في القصيدة واحدة للرأس وأخرى للساق أم أن الشعر ليس ثوريا .
كيف يمكن للقصيدة العمودية بقوانينها الصارمة أن تهتف بتحولات شارع متقلب ُطالب بالتحرر فقط ويطالب بذلك بشكل جمالي راق من خلال فوضى خلاقة تكسر ريتم الحياة اليومية الرتيب وتوجد إيقاعا من فراغ في شارع بورقيبة ؛ في القصبة ؛ في ميدان التحرير ؛ في ساحة التغيير في دوار اللؤلؤة هذه الفضاءات التي كان لإيقاعها المعماري دور في تحقيق مطالب المعتصمين فيها .إن إيقاعا تؤلفه وحدات متقايسة العدد ضمن خلايا موسيقية متجانسة لن يكون بمقدوره تلبية حاجيات المضربين عن الطعام والنوم والصمت الذاهبين للموت عراة يتهددون حياتهم بأنفسهم حرقا أو اغتيالا برصاص القناصة والشاعر مدعو ان يُكسب نصه هذه اللهفة ؛ أن يودعه هذا النبض لينهض مشغولا بمصائر الصاعدين عتمة المجهول بحثا عن ضوء في جهة ما ؛ قصيدة النثر تتوفر على هذه الإمكانيات وهي قادرة على رفع هذا التحدي من حيث انها نص قام منذ بداياته على استلهام حركة الشارع يقرأ مفرداته ويهجس بظلاله ويقتفي منعطفاته ويستنطق أرصفته ولأنها نص متردد غير ثابت قلق ومرد قلقه مداهمته للمجهول لذلك من المؤكد أن يجيء متناغما مع ما يحدث دونما يقينية جاهزة وعقيدة مسبقة سواء من حيث الايقاع ان من حيث الحقل اللغوي الذي عملت قصيدة النثر منذ بدايتها على تطويره وتغذيته دونما الركون إلى عصبية لغوية لا ترى من نبوءة للغة خارج الفصحى القاموسية وتكفّّر كل من يشق عصا طاعة البلاغة القديمة ويعمل على تثوير اللغة بضخها بمفردات مستحدثة وعبارات معربة من لغات أخرى .
لقد برهنت الثورات العربية على انه لا شيء ثابت في زمن ذهب في ظن الكل إن النظام مستتب في كل مكان وان التغيير حتى وان حدث لن يأتي بجديد ولكن تأكد ان تسونامي الشعوب أعظم من تسونامي الطبيعة والشعر العربي قادر ايضا على ان يثبت انه ليس مجرد أداة للترفيه او التعبئة وانه ليس نجرد مؤسسة عند الحاكم ولكنه أيضا ثورة متجددة وكذلك كان جبران والشابي وكان السياب وخليل حاوي وكان نزارر قباني ومحمود درويش وكان الماغوط وأنسي الحاج وكان عباس بيضون وأمجد ناصر وكل هؤلاء كانوا ثوريين في كتاباتهم الشعرية طلائعين في شعوبهم بما امتلكوه من حدس إبداعي سباق هدم المؤسسة وقطع مع فكرة الشاعر المهيِّج وانتهج سبيل الإضافة بما يفيد إن الشاعر هو سارق النار يضيء يها الطريق للآخرين
هذه النار التي وان كان الشاعر فقط يمتلك موهبة سرقتها فهو في حاجة لموهبة اخرى تستدعي ذكاء إبداعيا يجعله يُشرك الاخرين في ديمومة هدا اللهب واستمراره وضمان عدم انطفائه وذلك حين لا يقدم نصه جاهزا للقارئ وانما يدفع بهذا القارئ ليكون شريكا في كتابة هذا النص ولعل هذا من اهم علامات ثورية قصيدة النثر فزمن الشاعر البطل والشاعر الفحل انتهى طالما انه لم يعد ثمة من بطل سوى الشارع .
التعليقات (0)