كل الرّجاء أن يكفّ المولعون باستعراض عظلاتهم البلاغيّة والبدنيّة عن التّمعّش من مقابلة كرة قدم بين فريقين لبلدين شقيقين عربيين(مصر/الجزائر)..."فاللعب" هنا لا يحتمل الجدّ الذي يحذقه المهووسون بعظمتهم أيّا كانت هذه العظمة حتى إن تتجمّلت بمساحيق الموعظة...
إنّ مسارح استعراض العظلات في وطننا العربي كثيرة وهي تشغلنا صباحا مساء وميادين صراع الدّيكة مغطاة بدمائنا المسفوكة هدرا و"عنتريّة"... وإحساسنا بالغمّ والهمّ يُنغّص علينا ما يقتطفه جهدنا من نجاحات ومتع...
لقد شاءت أقدار الشعب السوداني المضياف أن تمنح القرعة لأرضه احتضان تصفيات كروية بين أخوين،وهي أقدار يُثني عليها ويُباركها لأنها أتاحت له تدفّق عشرات الآلاف من أشقّائه عليه في بلده الجريح الذي فتكت به،وماتزال،صراعات عرقية مدمّرة ونهشته أنياب كلاب مسعورة من الداخل والخارج تواصل سعيها لتمزيقه إربا إربا...إنّ السودان وهي تستنفر قواها المنهكة لاستقبال جماهير غفيرة من رحم وطنها الكبير في تدفّق قياسي زمنا وعددا وحماسة لهي سعيدة بابتسامة الحظ لها،ولو عن طريق قرعة "لميدان محايد" هو في الأصل منحاز للطرفين المتنافسين،يعبق بمزيج من دمائهم الفوّارة وبعطر من وداعة أهل البلد وطيبتهم ورحابة صدرهم...
يأبى ملعب "أم درمان" أن يحتضن شيئا آخرغير فرجة كروية،فهو لا يحتمل الفواجع ولا تنساب مياه النّيل على ضفّته إلا لتروي عطشا من جرّاء الجفاء والفرقة..."أم درأمان" تراهن على تركيبة حروفها لتكون تلميحا بليغا في معاني "أمّ" حنونة و"درّ" لوحات فنية استعراضية راقية جديرة بأمجاد مصر والجزائر،و"أمان" على أرض التاعت بويلات غدر الغادرين تشكو لوعتها لهذه الجماهير التي يُخيّل لبعضها النصر ثأر وتعصّب وهيجان،وما النّصر إلا مرح وحبور وبهجة وسرور وكبح للنزوة الطائشة وتضميد لجرح السودان النازف...
إنها مقابلة كرة قدم ليس إلا...تُباح فيها الأهازيج والرّقص على إيقاعات سودانية من وحي إنشاد صوفي للخشوع ونغم إفريقي للمرح...وهي مباراة لا تُقاس بشباك ميدانها همّة الشعوب وكبريائها ولا يصحّ نعتها بالمصيرية أو بأمّ المعارك...فلنا،نحن العرب،من أمّهات المعارك ما نخجل من تقزيمها في لعبة "إمتاع ومؤانسة"...
اتركونا،رحمكم الله،على المستطيل الأخضر نلهو مع شبابنا في لعبة لم يتبقّ لنا في غيرها مجال "للّهو المباح"...
إنّ كرة القدم فضاؤنا الرّحب الذي "ندّعي فيه فلسفة" فلا يُصادرقرارنا مصادر ولا تقوى أيّ دار افتاء على تحريم ما ندّعيه...في"الهزل لا في الجدّ"...أوليست لعبةً للهزل والفرجة والاستمتاع؟.ا.. اتركوها،إذن،لعبة هزل تُخفف عنّا عناءنا وتتّسع لجنوننا وتُشبعنا تشويقا وتُلهب أكفّنا تصفيقا وحناجرنا هتافا وصياحا...ا
شجّعوا الأولاد إنّهم يلعبون...واللعب بهجة وانشراح وترويح عن النفس...
يتنافس الشباب وهم يلعبون،يلعبون ليس إلاّ...وإذْ يلعبون يُبدعون عرضا فُرجويا نحتاجه لنُفرغ في جماله شُحنات من التُوتُر والهيجان،لا شيء أقدر من الأداء الفنّي الرّاقي الجميل على امتصاص سموم الهموم...أوليس أفضل أن نتخلّص من حالة احتقان في عرض لعبة تُرفع فيها أعلام أوطاننا وتُعزف فيها أناشيدها الرّسميّة وليس أمامنا في حلبة التّباري غير لياقة بدنية ومهارات كرويّة وقذف ليس تجريحا إلا لشباك ليست شراكا إلا لكرة لا غاية لها إلا الإمتاع ...
على عشب الملعب أبناؤنا يمرحون وهم يركضون ويّراوغون ويتقاذفون قطعةً مدوّرة من الجلد...لا شيء آخر غير قطعة من الجلد عجيبة بسحرها،مطواعة لأقدام وهامات وصدور لاعبيها الذين ليسوا إلاّ عزفا لمقطوعة فنّية،يُفسد روعتها النّشاز ويُربك إيقاعها التّهوّر...
إنّ لعبة كرة القدم متسامحة تقبل الرّكل وتُبيح "التّفقه" في علومها لكلّ الناس: الفقيه والأرستقراطي والعامّة...ولذلك وقع في غرامها الصّغير والكبير وعشقها الجميع لعبةً شعبية جماهيرية دون حاجة إلى إجماع"أهل الذّكر"...هي لعبة نهرب إليها من ضغط أوجاعنا فلنُبْق على ملاذّها رمزَ تنافس شريف نملك حقّ صياغته ينبوعَ محبّة وبذور خير تزهر في أعماقنا انسجاما مع روح رياضية تطرح الرّهان اختبارا لقدرة الإنسان على مغالبة الوحش الذي يسكنه...
ولأنّ كرة القدم فتوّة شباب،والشباب إكسير حياة وتدفّق عطاء وإبداع وإبهار فلنحقنْه بما يجمع لا بما يُفرّق ولْنُحصّنْه من رذيلة التعصّب والغضب الأحمق ولُنتفهّم نزق دمائه الفوّارة البريئة الطاهرة ولْتتّسع صدورنا لما نقبله منه في كلّ عرس يصنع فيه فرحته على طريقته...وللعرس الكرويّ طقوسه التي لا يُنغّص عليها إلا التهويل واعتبار أيّ رقصة مروق وكفر وذنب لا يُغتفر...الشباب حركة وحماسة وهزل وجد وكرة القدم لعبة ليس إلا...
وهنيئا للجزائر ومصر على انتصار الأخوّة بينهما...
التعليقات (0)