فيما يلي موضوع شيق ومفيد ومن اجمل القراءت التي قراتها مؤخرا وهي للكاتب السعودي الرائع محمد بن حامد الاسمري 00 وهي يضع قراءة ودراسة صحيحة
مدعومة بالحقائق والشواهد على مايكتبه ويستدعي التاريخ لاثبات صحة نظريته وتعليقه خاصة فيمايتعلق بالفتنة بين الشيعة والسنة وكيف يتم التلاعب واستغلال
النزعات بواسطة البعض خاصة بعض رجال الدين لاذكاء روح الشر والفتنة بين المسلمين 000 اتمنى لكم قراءة شيقة وممتعة 000
ابن سبأ الحاجة إليه أكبر من حقيقته
التاريخ سلاح يقفز ولا يحبو، فها نحن نقفز أربعة عشر قرنا نبحث عن أسلحة للفتنة، وعن حجة للعاجزين، فالنقاش المستميت حول ابن سبأ دعت إليه الحاجة السياسية، وليست المصلحة العامة، ولا حرفة المؤرخ، ولا الحاجة للارتفاع فوق متاعب الماضي، فالذي يدور اليوم هو استخدام التاريخ، وليس التاريخ.
وقد كنت منذ عام 1986 من الساخطين على إعادة نزاع التاريخ وبعث ابن سبأ واجترار الماضي للإضرار أو الاقتصاص من المعاصرين، واستهلاك عقولنا وعواطفنا فيما يضرنا ولا ينفعنا، وكان طرف من تلك المناقشات مع الشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله، وكنت مغضبا من استخدام صدّام لأبحاثه، ثم أحاديث مع المؤرخ الدكتور سليمان العودة، الذي كتب رسالة الماجستير عن ابن سبأ، وكان بحثه منشورا، ومع المؤرخ المغربي الدكتور آمحزون، وقد رأيتهم في بريطانيا في العام نفسه، فحولت بعض النقاش إلى سخرية على غير عادتي، في مواجهة علماء متخصصين في الموضوع أقدرهم وأخالفهم.
ولكني رأيت السياسة تعبث بالعلم، ورأيت آنذاك كيف بعث ابن سبأ عند السنة، ثم قرأت رد الدكتور الهلابي في كتيب على المبالغة في قصة ابن سبأ، ثم قرأت نقاشا قديما لعلي الوردي في الموضوع، فقد ادعى بأنه شخصية وهمية، ثم زعم أن ابن سبأ هو الصحابي عمار بن ياسر نفسه!
ثالوث السياسة والعقيدة والتاريخ، كثالوث المسيحية لا تكاد تنفصم عناصرها؛ قامت الثورة وأنا في السنة الأولى في الجامعة، وكانت نقاشات الثورة طعام يومنا الفكري والسياسي، وكان من أبعد القضايا في نقاشنا مسألة “شيعة وسنة”، فلم تكن مهمة فيما كنا بصدده، وفسر موقفنا هذا بأنه غفلة، ولعلي سايرت ذلك الاعتراض زمنا على غير ثقة، أو ربما بسبب أن منطقتنا كانت بعيدة عن قضايا الصراع المذهبي، فلا مع ولا ضد، ولا نناقش ولا نهتم، وكانت السلفية أيضا ضعيفة الحضور، فنبهتها الثورة، فقامت الحاجة لمواجهتها باستغفال السنة وغمرهم بالتاريخ، ومع الزمن والقراءة ثارت نقاشات وخاصة بين المدرسة السلفية والإخوانية المتهاودة ـ في البداية ـ مع الشيعة.
وفي يوم من الأيام كنت مع أستاذ جامعي سلفي وآخر من مستواه سوري كان يدرس التفسير في أبها، تعرض كل منهما لنقد التطرف في لوم الشيعة، والسلفي النجدي انتقد كلام ابن عبد الوهاب عن الشيعة، وحينها كنا نجمع كثيرا القراءة المتضادة، وكثرة التناقض ألحت على السؤال.
ثم زادت النقاشات في الثمانينيات عن الحرب الأمريكية الروسية في أفغانستان، والحرب الأمريكية الإيرانية بين العراق وإيران، وقد تمت أغلب المناقشات في أمريكا وأوروبا، ومع بعض العائدين لأمريكا، وكان الشيخ عزام يمر على المسلمين في أمريكا يجند ويجمع المال، فكانت بعض آرائي تصدم عددا من أصدقائي، وبخاصة لما كنت أكرر عليهم إنها حرب بريجنسكي (مسؤول الأمن القومي في حكومة كارتر)، وليست حرب يونس خالص (أبرز المجاهدين في وقته، والذي قابل بريجنسكي واتفق معه على تسليح الأفغان، وآنذاك منع بريجنسكي وصفهم بـ”المتمردين الأفغان” وتسميتهم بـ”المجاهدين”، وخاصة في العالم الإسلامي، حيث يأمل في النصرة. وكان سلاح التسمية ولم يزل من الصناعة المتقدمة للأمريكان، لأنهم يدركون قيمة اللغة في السياسة، عندها غيرت الحكومات العربية التسمية.
ثم جرى بعد ذلك تتبع للكثير من المكتوب، وبخاصة بعد معرفة الانجليزية والتمكن من القراءة بها، حيث حسمت عندي قضايا كان حولها غبش كثير، وكان منها مذكرات “كيسي رئيس السي آي آيه” وغيره، حيث أصبح النقاش بلا أهمية.
أما ابن سبأ، فالخلاصة التي توصلت إليها أنه غالبا شخصية حقيقية، ولكن الحاجة الماسة إلى شخصيته كانت أكبر منه ومما فعل، فهناك حاجة السلفيين لإدعاء صفاء النفوس وتنقية الصفوف، فالصورة رائعة فلا لبس ولا خلاف إلا ما أحدثه هذا اليهودي من شر، أصبح ـ لاحقا ـ التشيع، ثم زادت حاجة المتأخرين أيضا لتعيير الشيعة به، فرد الشيعة بنفي وجوده، ولا بد لهم من نقض القصة، فعندما ينفون دور اليهودي في صناعة موقفهم، فإنهم ينقون بذلك صفهم من الهوى والميول والانحراف، وإني أحترم الرأي الذي يقول إن التشيع والخروج [والتسلف في هذه القصة] حاجة نفسية سياسية أكثر من كونها قضايا علمية، وكذا قصة ابن سبأ، فالتاريخ فيها صغير ويحمل عللا كثيرة، والتوثيق والتضخيم والتأريخ له، يشف عن حالة نفسية وحاجة تبريرية أكثر من كونه تاريخا.
ولما توافقت الحاجة السلفية للإثبات والحاجة الشيعية للنفي ولدت الأسطورة؛ والأساطير لا تُنقد، فهي فوق التاريخ أو دونه، لا تصدق ولا تكذب، وأصبحت سلاحا في حرب العقائديين أهم من التحقيق في الشخص والحدث، فالمهم وجود أسطورة كسلاح، ولدى الشيعة والسنة الكثير الموقد للتاريخ المضر كرأس الحسين وكربلاء وشمر بن ذي الجوشن والعلقمي، فما ألحقته الحاجة العقائدية بالتاريخ أضعافه، ولم تزل الحاجات تجري على التاريخ بالزيادة والتهويل لتدوم الحياة للأسطورة المؤثرة تلك الأساطير الممتعة (رواية) الجامعة (للأولياء) المانعة (للأعداء).
وأنهي بأن هناك عقدة قد لا يلتفت لها المهوّلون لدور ابن سبأ، وهم يشهرونه سلاحا، فإذا كان هذا اليهودي قادرا على سوق الجموع من الصحابة والتابعين للفتنة أو لقتل الخليفة، ولتدمير الوحدة، وبث الأفكار القاتلة في أساس فكرهم في زمن تأسيسه، فأي نقد وإساءة للصحابة وللسلف هذا القول؟ نعم إنهم ناس كالناس معرضون للفتن، ولكن هذه المبالغة المصطنعة غير موفقة، فهي بندقية تنفجر على حاملها.
وبما أن الكثير من التاريخ هو “حيلة الأحياء على الأموات”، فإن بعث ابن سبأ يصلح لقضايا الحروب النفسية لا التاريخية، وللدعاية الحزبية والطائفية، لأن قصته عند المؤرخين عليلة، والمراد منها الحرب النفسية والشتم، وإن كانت لها علاقة بالتاريخ، فهي علاقة في باب غرائبه مما لا فائدة علمية له، وبعث قصة (السبئية) والتأريخ لها، يضر بناشريها اليوم أكثر مما يخطر ببالهم، فهل يريدون ضبط مواقف اليوم على الماضي؟ وأي الجبهات مع اليهود (سبئية) وأيها (عثمانية)، إنه مزاج مريض ساذج يشتغل بالتعيير بالماضي السحيق ويغفل عما أمام العين، إنهم يروونه ولا يعقلونه.
وبما أن التاريخ لا يهم منه إلا حسن استخدامه أو سوء استخدامه، وهو في زماننا من المعارف والآداب الخطرة التي يثيرها أو يتمرن عليها المتخاصمون قبل تنفيذها في الميدان، فالأجدر بنا هو البحث في هل نحتاج ابن سبأ أم لا، وإن كان لا بد من بعثه أو إيجاده، فمن هو “ابن سبأ معاصرنا”، وما هو الدور الذي يقوم به، وكيف يساعدنا لتنفيذ حيل الأحياء على الموتى لنحارب الأعداء.
والذي أخشاه أننا نبعث الموتى لنقتل أنفسنا، فقد يكون ابن سبأ يستخدمنا لقتل خصومه، ولتدمير من قيل لنا إنهم الأعداء، قد يستخدمنا أذكياء يحتالون علينا وعلى الموتى، ويتعاملون معنا بالطريقة نفسها، لأننا نستهلك الأفكار المصدرة إلينا، ولا نعي حقها وباطلها، ولا نفعها وضرها.
لقد أفهمنا الغَفَلة أن التفكير ضد التشريع، فأصبح للغزاة والسلف فقط الحق في التفكير والتصدير لعقول خاملة، لا تدرك مخاطر الفكر السلفي ولا الخلفي ولا الغربي ولا الشيعي، فلجميع الغرباء حق التفكير والتسيير.
أقول: دعوه يموت لا تبعثوا سموما تفتك بكم ولا دواء لها عندكم، فإن أبيتم، فإن يهوديا قويا عند الباب يصنع الأدوية، وهو الدولة الوحيدة في المنطقة، والتي عندها “كلية التاريخ”، لصناعته واستخدامه!
التعليقات (0)