قيل للبحتري: إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام, فقال: والله ما ينفعني هذا القول, و لا يضر أبا تمام...
لعل البحتري وهو الشاعر الشاب كان في حاجة إلى مثل هذه الشهادة يقوّي بها مركزه في الساحة الأدبية وقتها وتعطيه مشروعيته كشاعر مُعترف به غير انه كان مشغولا بأمر آخر أهم من إجراء المقارنة بينه وبين أستاذه الذي يتجاوزه بأكثر من عشرين سنة ’’ والله ما ينفعني هذا القول ! ماالذي سوف ينفع الوليد بن عبيد الله إذا ؟ الأكيد انه كان مدركا لحاله كشاعر في زمن تكاثر فيه الشعراء المجيدون ولهذا كان يعرف انه لن يفيده الجري وراء المقارنات بقدر ما عليه أن ينكب على تجويد نصه والاشتغال عما قد يجعله فعلا مميزا ومتفردا وذلك شأن الشاعر الحقيقي المسكون بهاجس الإبداع ؛ الشاعر الذي سوف يلتهب في أتون عزلته يجعل من نصوصه أزهارا برية تنبت في الحرائق .
وهو الشأن بالنسبة لشعراء الألفية الثالثة في تونس ؛ هؤلاء الفتية الذين لم يقعوا في فخ الجري وراء الشهرةو الانتشاء برؤية أسمائهم تذيل نصوصهم على أعمدة الصحف فما يشغلهم في الحقيقة ليس امتطاء الشعر للبروز كنجوم في زمن تأكد فيه إن النجوم رماد نار لم تكد تتقد .
المهم لدى هؤلاء الفتية مشاغل أخرى أهم بكثير لعل أوكدها البحث عن الذات في ركام نفايات عصر التكنولوجيا والتذرر النووي . هذه الذات الممزقة بين واقع مفروض عليها وممكن تتطلع اليه .
راحت الألفية الثانية وأخذت معها ما أنتجته من فلسفات وايديولوجيات ؛ انهارت الأفكار الكبرى وسقطت الشعارات وما فرضته من أشكال خطابية ومباشرتية تحريضية أوجبتها حاجات الشعوب المستعمرة للتحرر وهو ما أدى إلى توظيف الفنون لخدمة أغراض رجال السياسة مما نتج عنه طبعا ضياع الفرد داخل المجموعة وضياع الفن لحساب الايديلوجيا , ومع بدايات الثورة التكنولوجية بدأ عصر جديد يلوح في الأفق عصر العودة إلى الذات ليس من الجانب الرومنطيقي ولكن من جانب البحث عن دلالاتها وماهيتها وحاجاتها وهو ما شكل العصب الحيوي لأغلب الفنون منذ بداية أفول الألفية الثانية .
ولعل الشعر من أهم الفنون التي اتخذت من الذات تيمتها الجوهرية وهو ما سيظهر بالأساس عند الشعراء ورثة خيبات الروح ؛ هؤلاء الذين أنجبتهم عاطفة مزدهرة بالأماني متعلقة بآمال عصر يتحرر فيه الإنسان من القهر والاستعباد من اجل أن يحيا كريما ضمن مجتمع يكفل لأفراده ما هو مضمون بحق التشريعات السماوية والدساتير الوضعية من مبادئ المساواة والعدل والتكافل وما يشيعه من قيم الحب والجمال والأخوة وإذا به يستفيق على فواجع أقسى من فواجع قرون الإبادة والتطهير العرقي واستعمار الشعوب وبالتالي يلوذ بنفسه ويغوص في أعماق ذاته باحثا عن العناصر المضيئة في ذاكرته والتي هي في الأصل الذاكرة الجماعية يلوذ بها ليس فرارا من جحيم عصره ولكن في محاولات لإعادة تركيب هذا الواقع وفق معادلات أقل قسوة وأكثر تصالحا مع الكائن يعود صلاح بن عياد إلى أعماق التاريخ البشري ينبش فيه بحثا عن تلك اللحظات المضيئة فيستعيد جلال الدين الرومي ؛ الحلاج ؛ ابي العبر الهاشمي ؛ يستعيد ايضا أشيل يقول في قصيدة بعنوان:
’’ الراقص وحده’’
(للراقص لوحده فلسفة الذئاب.
له عربدة الشجرة التي تشدّ الرّيح من دبر.
والتي تشدّ الحطب اليابس لذاكرتها.
للرّاقص لوحده جبّة الحلاّج المتدلّية من حبل الغسيل.
له هامة أبي العبر الهاشمي المحذوف من المنجنيق.
له نظرة جلال الدين الرّومي المسمّرة على وردة حمراء.
له كعب "أيشيل" البرّاق بين الصّدف. )
قريبا من هذا سوف يذهب خالد الهداجي في توظيف الذاكرة والتراث الجمعي يقول في قصيدة بعنوان :
’’ بعيدا في الجبال’’
(
أيها الليل خذ أطفالك...
بعيدا عن قمر "لوركا".
أيها البحر خذ نوارسك...
بعيدا عن وردة"بوشكين".
أيتها الريح خذي كل هذا الليل...
... إلى الجحيم.
ستظلّ أصابع الوردة تكتب طوال الليل
سيرة من سقطوا – هناك – في القمم العالية.’’
أما أمامة الزاير فتضيء العتمة بإحداث تزاوج بين حكاية الجدة وحكاية أليس في قصيدة بعنوان:
’’ ميليشيات شارع بورقيبة’’
’’خرجت "أليس" يوما من علبة حكايا الجدة المليئة بالأسرار الغريبة .
لتعبث بالعناصر ,ثم تأتي المدينة بقبعات وببغاوات و سجائر و خمور مهربة سرا من حدود الميتافيزيقا.
خرجت "أليس" , وتجولت في الشارع الممتد كدعابة وقحة..
"أليس" الآن تمر أمام مقهى " l’univers "
شيخان متواطئان ضد نرجسية المكان.’’
هي محاولات لاعادة تركيب الواقع من خلال ما يحضر في الذاكرة من ظلال الماضي وتتم هذه الاستعادة بهدوء دونما صخب أو عنف ايقاعي ؛ دونما فائض انفعالي او إسهال عاطفي بما يدل على أن الشاعر واع بأدوات عمله وهو وان اشتغل عليها بكثير من الحميمية والذاتوية التي وان انتجب وجوبا مسافة بينه وبين المتلقي فإنها بما تتوفر عليه من قدرات هائلةعلى التخيل تُشرع أبواب التأويل على مصراعيها بما يحول النص من مسألة شخصية إلى شأن عام ؛ سوف يعزز هذا التوجه االحرص على الافلات من المعنى التقليدي وذلك من خلال استفزاز اللغة وتجريبها بإحداث الفوضى بين الدال والمدلول مما أدى إلى اللعب الحر بالدلالات وخلق متاهة متحركة لا تخلق طلاسمها من الأساطير أو الألغاز أو التهويمات الذاتية و اغواءات الجماليات الحلمية ؛ هي متاهة متحركة صنعتها أسئلة الذات وحيرتها مما أدى إلى تصميم سيناربوهات سوف تتكفل الصور الشعرية في طرق تشكيلها المبتكرة عند هؤلاء الشعراء بتأكيد امكانيات انجازها ؛ هي صور لا تتكئ على الأدوات المألوفة في تشكلها ؛ فسوف يعمد خالد الهداجي إلى التشبيه كتقنية لصناعة صوره كما هو الشأن هنا وفي أغلب قصائد مجموعته ’’ مجرد رائحة لا غير’’ :
مثلما تصبّ النّزل نِفَايَاتِهَا في البحر،
مثلما تصبّ المصانع نفاياتِها في البحر،
مثلما تصبّ القصور نفاياتِها في البحر،
مثلما تصبّ السفن الحربية نفاياتِها في البحر،
مثلما تصبّ المدن نفاياتِها في البحر،
تصبّ خياناتُ الآخرين في القلب.
.... ومع هذا يظلّ البحر أزرقَ
أما يسرى فراوس فسوف تتوسل التصادم بين المتنافرات لتحدث مسافة التوتر حسب رأي كما ابو ديب وتشكل صورها تقول :
طِرْ بي يا حصانَ الصّمتِ… طِرْ
أسرِ بي
ولا تَعرُجْ على قناديلِ الغضبِ المطْفأة
لا ضفّة تتّسِعُ لحُلمِنا
لا التّكويرُ أعجزَهم
لا سماءَ تعْلو سماءَهم
وحدَها…
غربانُهم تُبشّرُ الكائناتِ بريشٍ أبيض
تكتسح الصورة الشعرية هنا مساحة النص دونما ان تتخذ لها شكلا مكتملا في كل مرة ؛ انها صورة مبتورة منقوصة لكن غير معطوبة .أماصلاح بن عياد فهو أكثر مغامرة وأجرأ في تشكيل صوره فهو اذ يعمل على بناءصورةكلية تتخلها صور مبثوثة بشكل تلقائي عشوائي تنطبع في شكل زوم ؛هي تقنية يتعمدها الشاعر لتمرير العديد من الرؤى داخل طيات النص دون تعطيب تناسقه الداخلي رغم انه سوف يعمل بذكاء على إدراج بعض الصور التلقائية من هنا وهناك وهو مدرك لعدم تناغمها مع السياق العام غير إن هذه الالتقاطات لن تعرقل النمو الطبيعي للصورة بل سوف تحقق ما يطمح إليه من توريط المتلقي معه في تشكيل المعنى يقول في قصيدة بعنوان ’’ شعر من أجل قصيدة النثر ’’:
ألاعبُ لطخة برّاقة من الجنون
ألاعبُ ما اندلع منها في الهواء
......
أمشي في العصافير المتوتّرة
الضّاربة بأعصابها
أمشي في الدّمعة الزرقاء المباركة
أمشي بين أصابعها
أمشي فيما يتجاوزني منها
أمشي...
قريبا من هذا أيضا سوف تعمل أمامة الزاير على توظيف نفس التقنية تقنية تشكيل الصورة الكلية لكنها سوف تغذيها بعناصر سريالية بما سيضفي على النص عنصر جديد تتميز به قصيدة النثر دون سواها الا وهو النص المثقف / النص الميتا شعري تقول في قصيدة بعنوان ’’فيلم للنقاش’’:
هنا والآن
يتجرد الواقع من ملابسه , يعدل مشيته ويقفز.
يحول إلى رصيده البنكي :
- أنف" بينوكيو"
- عصا سحرية للضرب على الطاولات...
- ثور جلجامش للمرح الأرضي
- بعض الصحون الطائرة..
- وقفازات لئلا تظهر بصماته ..
هنا والآن
أدباشنا الداخلية, والقيل والقال .. ديكور للمشهد السريالي .
ما الذي سوف ينفع البحتري وكل شاعر أصابته حُرفة الشعر غير الانكباب على تجويد نصه والبحث عن سبل الارتقاء به جماليا وأمام هؤلاء الفتية مهمة ليست باليسيرة انهم يتعاملون مع نوع شعري مرفوض وغير معترف به وأولى الادعاءات عليه انه يفتقد أهم عنصر من عناصر الشعر ألا وهي الإيقاعية وبالتالي سوف يعملون على تحدي هذا الرهان من خلال إثبات انه بالإمكان إيجاد صيغ إيقاعية أخرى لا تقوم كبديل للتفعيلة ولكنها من صميم جمالية الشعرية النثرية ولعلهم عثروا في التكرار على ضالتهم التقنية وفعلا لا يكاد يخلو نص من نصوص هؤلاء الشعراء من التكرار وهو التكرار الموظَّف بذكاء وبشيء من الحرفية فأمامة الزاير تقول :
الرجل الذي ارتدى ستين عاما , وعلق في وجهه دمعه..
الرجل الذي قفز سهوا من حكاية الأجراس البعيدة , و من كومات التبن المحترقة..
الرجل الذي تحدث كثيرا في مقهى "الكورنيش"..
لم يكن سوى "نيكوس"يخيط العمر مرتين , و يلعق دمع "هيلين".
ويعمد خالد الهداجي الى المبالغة في توظيفه فيقول :
أناقةٌ
الرّجل الهادئ الأنيق،
- وهو يخرج إلى الشارع صباحا -
يبتسم لوجه العانس الحالمة.
يبتسم لوجه طالبةٍ مسرعةٍ
يبتسم لوجه الموظّّف الباهتِ.
يبتسم لوجه المدير العابِسِ.
يبتسم لوجه العاطل اللاّمُبَالِي.
يبتسم لوجه المتسوّل البَاكِي.
يبتسم لوجه الله.
نفس الشيء مع صلاح بن عياد:
الرّاقص لوحده خنثى وقد حمل النصّ بعيدا.
الرّاقص لوحده أنثى تضع عينا على التفّاحة الكبرى.
الرّاقص لوحده مذكّر يطفق في العراء.
الرّاقص لوحده كلاهما وقد اصفرّ الورق فوق عورتهما.
الرّاقص لوحده إله مصفرّ الوجه
غيرر ان يسرى فراواس تتفرد عن ابناء جيلها بتكرار السؤال كلازمة ايقاعية دلالية ايضا :
من الذّي أعدمَ جدّه؟
ومن أضاعَ ظهره في الدروب؟
ومن الذي يُرجى من توقيعِ اللغة
وكلُّ الطّبولِ دُقّت للحروب…
إن التقنيات المستخدمة في تشكيل الصور الشعرية وصنع الايقاع لن تحقق جمالية قصيدة النثر كنوع أدبي مختلف اذا لم يتعزز ذلك بتفجير ما لايظهر في اللغة والتعويل على اللفظ اليومي الملتقط من الاستعمال الدارج بعيدا عن اللغة البلاغية في تركيبتها النحوية الصارمة بحيث تصبح اللغةهنا مختبر علاج :
شاعر جالس إلى أشعة الشمس الأولى فى مقهى" بن جمعة".
يطالع الرغوة البحرية المنتشية في فنجانه الصباحي .
يمر القط كعادته مبللا بصخب الليل وضوضاء السكارى في نهج مرسيليا.
يتثاءب القط..
لا يضع يده على فمه..
يتورط الشاعر في لعبة المجاز..
تقول أمامةالزاير في نصها شيزوفرينيا وعنوان النص دال هنا بينما يذهب خالد الهداجي إلى ابعد من ذلك في توظيف اللغة السطحية يستفز دواخلها باللعب عليهافي مواضع مختلفة :
الدفاتر والأقلام والكتب والأوراق
في المكتب
المكتب في الغرفة
العناكب في زوايا السقف،
الملابس في الخزانة
الخزانة في غرفة النوم،
غرفة النوم في المنزل،
أشياء الحلاقة والعطور في غرفة الحمّام
الزوجة في المطبخ
الأطفال في الحديقة
وهو ما سينفذه بنعياد ايضا :
هذا معطفها الأسود وتلك دمعتي على أكمامه.
تلك يداها وتلكم الأشياء تتماوج في الشكّ.
ذاك وجهها الرّاقص،
تلك بنايتها المتمايلة في اللغة.
لقد أدت العزلة المضروبة على قصيدة النثر إلى ولادة وعي متمرد لدى شعرائها فاندفعوا بقوة لتأكيد مشروعيتها وأحقيتها من خلال ما تتوفر عليه من حمالية وقوة بيان عجزت بقية الأنواع الأدبية على تحقيقه يبقى الأمر رهين المستقبل ومدى قدرة هؤلاء الشباب الذين حولوا خيبات الروح الى حرائق مضيئة في عتمة مداخل هذه الألفية مدى قدرتهم على الاستمرار في نفس الطريق والاستجابة للمتغيرات التي سوف تفرضها قصيدة النثر كنص متفلت غير متحجر قابل للتمرد على نفسه في كل مرة بما سيؤكد صدق البحتري لما أثنى عليه ابوتمام بنفسه هو وشهد له بشاعريته وعدم ايفاء الناس لحقه فقال له : ظلموك والله ما وفوك حقك .. وهو ما أرجوان لا يتكرر مع هؤلاء الفتية فيأخذوا حقهم ليصلوا إلى القارئ .
عبد الوهاب الملوح
خريف قفصة 2010
التعليقات (0)