ابراهيم عيسي يكتب: الخدعة
اعتراف غريب من الكاتب الكبير أنيس منصور، كتبه بمنتهي البساطة وكأنه لا يذيع سراً وربما بدون ما يشعر إنه بيخبطنا في دماغنا، فقد حكي قائلاً (اتفقنا إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وأنا، علي أن نساعد كاتبة مشهورة الآن. بأن نكتب لها رواية. كل واحد يكتب الثلث. وبدأها إحسان عبد القدوس ثم يوسف السباعي وختمت أنا هذه الرواية. وأكثر من ذلك.. فأنا الذي ربطت الأحداث. وغيرت وبدلت بعض العبارات. ولم يغضب أحد؛ لأن أسماءنا ليست مذكورة. والرواية من أولها لآخرها تحت اسم فلانة بنت فلان.وظهرت الرواية. وكتبنا نحن الثلاثة نبدي إعجابنا بها. وكل واحد أعجب جداً بما كتبه. ولا من شاف ولا من دري..وكتبت عنها الصحف العربية.. والنقاد تحدثوا عن مسار الأحداث ورسم الشخصيات.. وكيف أن الرواية بدأت بطيئة الوقع.. ثم أسرعت الخطي وانتهت بأن أبطالها يلهثون كأنهم تعبوا ويريدون أن يستريحوا.. أما الأسلوب وأما العقدة وأما الحل ففي النهاية.. ثم إن فيها فلسفة تدل علي أن الأديبة لها أعماق كانت تخفي علي الناس. ولكن هذه الرواية قد أظهرتها. وهي منذ الآن يمكن أن تجلس وأن تضع رجلاً علي رجل إلي جانب أي كاتبة أوروبية معاصرة).
هذا الكلام كتبه أنيس منصور أمس الأول في جريدة الشرق الأوسط، والمدهش أنه لم يدهشني، صحيح أن ثلاثة من أساتذة الكتابة الكبار (الذين يحب الناس استخدام تعبير الرموز حين الكلام عنهم) يتورطون في كذبة كبيرة ويتشاركون في عملية مريبة لا يشرح لنا مبرراتها أنيس منصور إلا أنها ربما نزوة أو غواية أو إغراء غامض، لكن ما المدهش في هذا، فالحياة العربية فخفخينا من الأكاذيب والأوهام!
هذه ليست الخدعة ولا الكذبة الوحيدة في حياتنا الفكرية والسياسية والأدبية، فالحقيقة أنك لا يمكن أن تطمئن إلي الحقيقة في عالم يعيش علي التضليل والتدليس.
لقد أزعجونا بالحكاية الفارغة أنك تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت لكن لا تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، لكن أصارحك بأنك تستطيع أن تخدع الناس كلها طول الوقت ولا فيه حد عارف ولا فاهم وكله شارب الوهم، هناك شخصيات نصابة ومع ذلك فهي موضع تقدير وإعجاب واحترام منذ ألف سنة ولا أحد يعرف حقيقتها، ومنذ أسابيع شهدت مصر حفل تكريم لذكري رجل هو خائن للأمة والشعب بكل المقاييس ومع ذلك كرموه كأنه شهيد، وهناك أبطال شعبيون يتغني بهم المصريون وتخرج عنهم المواويل والمسلسلات، وهم في الحقيقة حرامية وهجامة وأبطال فقط في فتح الخزن، ثم الآن في عالم السياسة والمعارضة والإعلام الخاص عدد لا بأس به من الشخصيات مقرطسة الجماهير التي تعتقد أنهم ناس محترمة بينما هؤلاء يشتغلون بالزمبلك، وإذا تأملت هذه الشجاعة التي يدعونها تجدها واخدة إذناً وختماً من أجهزة الأمن أو من الحكومة، ولو تمعنت في مواقفهم ستدرك أنها تمثيليات تنقلب إلي النقيض لو صدرت تعليمات وأوامر جديدة!
طبعاً ممكن تسألني: وما الذي يضمن لنا أنك لست من هؤلاء الذين يخدعون الناس؟
لا شيء يضمن لك علي الإطلاق، فقط أنت وعقلك ووعيك وحسك ثم أنت حر، المشكلة فعلا أن بوصلة الناس أصيبت منذ زمن بالعطب نتيجة ضغط القهر وتعلم الطاعة والمشي في القطيع!
المصدر ..الدستور
التعليقات (0)