مواضيع اليوم

ابحار في الذاكرة

حنان بكير

2010-09-25 20:04:03

0

ابحار في الذاكرة

تعلو الطائرة و يعلو نشيج الروح معها.. إلى القاهرة و لو بعد ثلاثين سنة. غفا حلم تلك الزيارة في حنايا القلب بعد ان تاهت خطواتي في دروب بعيدة. و جاءت الفرصة من باريس. حيث حصلت و ابنتي التي كانت تدرس هناك على تأشيرة لدخول مصر، رغم حملنا لوثيقة سفر لبنانية لا تخولنا لأكثر من التنقل داخل بيوتنا. لم تكن التأشيرة مزورة.. كانت حقيقية و تحمل تزكية و توصية من السفير المصري تقول بأن حضرتي معروفة شخصيا من السفارة المصرية في باريس.
طوال الرحلة، أرهقت ابنتي بذكريات بدايات الوعي عندي، و لم اكن قد تجاوزت الثالثة عشرة من العمر. كانت بيروت آنذاك حاضنة الثقافة و حرية الرأي، و ملفى طلاب اللجوء من المثقفين و السياسيين. كنا نتظاهر بعد كل خطاب يلقيه المارد العربي جمال عبد الناصر، و لكل شهيد يسقط في الجزائر... الزلزال الذي ضرب أغادير، زلزل شيئا دفينا في داخلنا، فاندفعنا نجمع التبرعات... كنا لبنانيين و فلسطينيين ننشغل بهموم الوطن العربي الكبير و قد تجاوز شعور الانتماء اليه كل الحدود و المعابر..
. غنيت لابنتي اناشيد الثورة المصرية و التي استعادتها ذاكرتي بسرعة أدهشتني ، غنيت حتى حفظت ابنتي الأناشيد عن ظهر قلب ،شاركتني الغناء حتى بلغنا مرحلة النيرفانا..." وطني حبيبي الوطن الأكبر" و "دع سمائي فسمائي محرقة"و "أخي جاوز الظالمون المدى". مضى زمن طويل انشغلت به عن تلك الأغاني، التي ربما انقرضت الآن فهي من مخلفات الماضي الذي دسناه بالبساطير، فهذا زمن الواقعية التي تسمح بانتهاك كرامتك، أو الطالبانية التي تحولنا الى خيام سوداء متحركة، أو لحى تتدلى و تطول و جلابيب قصيرة.

تحط الطائرة، و تتسارع نبضات القلب. ينتظرنا شابان حال دخولنا قاعة الوصول، لاستقبالنا و تسهيل امورنا. أجلسونا في غرفة الاستقبال ، و ذهبا بوثائق سفرنا لختمها. أن تشعر للحظات بأنك مهما أو مميزا، شعور جميل، لا بأس به. جلسنا نرقب المسافرين في الطوابير، بينما نحن جلوس في الصالون المخصص للناس" المحترمين". لم يطل الوقت و عاد الشابان و قد اكفهر وجهيهما و قال احدهما" انتما ممنوعتان من دخول القاهرة" لماذا؟ تساءلت ! ربما هناك خطأ ما، قال احدهما
.سوف نعود بسرعة و انطلقا.
نصف ساعة مرت، و لم يعودا! تجددت طوابير المسافرين، و نحن "المحترمات" ننتظر في الصالون. جاء عسكري ببذلة بيضاء و قال لنا بحدة أدهشنا صدورها عن مصري" بتعملوا إيه هنا؟" و لكن اين نذهب؟ انتظرا خارجا. أوكي بس ما تزعل..وقفنا حيث اشار لنا ربما نصف ساعة أو أكثر.. جاء عسكري آخر و نهرنا، بتعملوا إيه هنا؟ أعدنا عليه قص حكايتنا. قال ممنوع الوقوف هنا! حاضر ، أين علينا أن نقف حتى لا نزعج أحدا؟ أشار لنا الى مكان بجانب الطوابير، قرأنا الاعلانات، طابور للأجانب، و آخر للعرب و آخر للمصريين. وقفنا في طابور العرب ظنا منا اننا عربا و لكن بدون وثائق سفرنا. سألنا المراقب عن جنسيتنا، أخبرناه قصتنا فقال "فلسطينية"! انتظرا هناك... انتظرنا و انتظرنا، تجددت طوابير المسافرين مرات و مرات. جاء عسكري و صاح بعالي الصوت " بتوع الشجرة يوقفوا هناك" و حالا توجه بعض الشباب الى المكان المشار اليه! عجبت و قلت لابنتي التي انشغلت بلعبتها الالكترونية، هل يوجد في العالم العربي من يعامل مثلنا؟ و قد كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها تلك التسمية! ذهبت للاستطلاع و كانت جوازات سفر لبنانية ! قلت لابنتي " نحن أكلناها مرتين ،" فلسطينية و بتوع شجرة".
في وقفة الانتظار، بدأنا نراقب الناس، و نخمن جنسياتهم، تقدم رجل ضخم الجثة، يرتدي رداء اسلاميا و يحمل حقيبة يد سامسونيات، سمعنا صوتا يسأل، مين فلسطيني؟ أجاب الرجل الضخم ، نعم أنا فلسطيني! فصاح الصوت ثانية انتظر هناك! يعني الى جانبنا، تجادلا بدون فائدة، الى ان شهر الرجل الضخم جواز سفره الأمريكي، و صاح باللغة الانكليزية" أريد ان اتصل بسفارتي!" ارتبك الموظفون و العسكريون المنتشرون في القاعة، و لم يكن بينهم من يتكلم الانكليزية..يرجوه ان يتكلم باللغة العربية وهو ينكر انه يتكلمها... يا بيه الله يخليك ما انت كنت بتتكلم عربي دلوقت! و هو يصر على طلب الاتصال بسفارته.. تدخلت و قمت بدور المترجمة الى ان انفض الاشكال باعتذار. كان الاعتذار في الواقع لجواز السفر الذي أهين و ليس لحامله. و بفضل جواز سفر محترم مضى الرجل في حال سبيله و هو يسمع كلمات الاعتذار، فيما اقتادنا عسكريان الى غرفة التحقيق الذي استمر حوالي الساعة، انتقلنا بعدها أو نقلنا و نحن نجرجر حقائبنا ، الى غرفة اخرى و انتظرنا حتى كان التحقيق الثاني ثم الثالث و الرابع.....و بلغنا بقرار منع دخولنا الى القاهرة، و تسفيرنا بأول طائرة عائدة الى باريس..نفد صبري و غادرني الهدوء فصرخت من حرقة، لماذا؟ لماذا؟؟ و كان الجواب.. فلسطينية! لقد قتلني مرتين، ربما كانت هي من المرات النادرة التي أخرج فيها عن طوري و هدوئي... التفتت اليّ، ابنتي التي لاذت بلعبتها الالكترونية، و قالت بهدوء دون ان تلتفت لأي منا " ماما، لماذا كل هذه العصبية ؟ أليس هذا هو وطنك حبيبك الوطن الأكبر؟ الله يبارك لك بهالوطن أما انا فعائدة الى باريس!!

اقتادنا الحرس هذه المرة الى غرفة في طابق سفلي، سرنا في دهاليز، أدركنا من الروائح المنبعثة من بعيد و خمنا كيفية حال المكان الذي سوف نكون فيه. فتح الحارس بابا حديديا قذرا، و أشبه بأبواب السجون، و أشار إلينا بالدخول..دخلنا و اغلق الباب خلفنا بسرعة. صرخت للعسكري و قلت له " أنا عندي فوبيا الأماكن المغلقة ، اترك الباب مفتوحا، نحن لسنا سجناء!! لكن ليس من مجيب. تأملنا الغرفة الصغيرة، مكتب حديدي قديم صدىء يحتل معظم حيز الغرفة و تعلوه تلة من البطانيات السوداء برائحة العفن.. البرغش المتطاير بأعداد كبيرة كان كبير الحجم، يشي بوفرة الغذاء من دم نزلاء هذه الغرفة. انفجرنا في نوبة ضحك هستيري، غير مصدقتين ما يحدث معنا! ربما هو كابوس أفلت من هلوسات فلسطيني أدمن مواجهة الأبواب المغلقة!
جلسنا على حقائب سفرنا لعدم وجود أي كرسي في الغرفة تبادلنا الصمت، و جعلنا نغزل خيوط التكهنات و الاحتمالات لما يمكن ان يحدث ، حين تحركت كتلة البطانيات السوداء، جمد الدم في عروقنا و حملقنا نفرك أعيننا ، لم نستطع حتى الصراخ ، أطل من تحت الكومة وجه أسمر طويل و نحيل بلحية طويلة، ثم ظهر الرأس كله ، كان الشعر طويلا يتدلى على الكتفين، أدركنا انه رجل. سألته " أأنت انسي أم جني؟_كما في حكايا جدتي_ قال باللغة الانكليزية انه لا يتكلم العربية. كان من جنوب افريقية. جاء الى مصر و احتجز في هذا المكان منذ سبعة أشهر لم ير ضوء الشمس أو الهواء النقي. كان طويلا و نحيلا ، دائم كش البرغش، و الحك برأسه و جسده، و قد سارت طوابير القمل على ملابسه.
و في ذروة الارتباك و الحيرة، أعلنت القرقعة فتح الباب و بسرعة دخل شاب ربما كان في أواخر العشرينيات من العمر، و أغلق الباب خلفه بسرعة. لم ينطق الشاب بكلمة أو تحية ، توجه الى حصيرة من القش كانت ملفوفة في احدى الزوايا، تناولها بسرعة، مدّها على الأرض، اتخذ من حقيبة اليد وسادة و نام بأمان و كأنه في بيته.
للحظات كنا غير قادرتين على الكلام أو التفكير و ربما تعطلت بعض حواسنا. بسرعة علا شخير الشاب. أما الرجل الآخر فقد أخذ يسير في المسافة القصيرة المتبقية متأرجحا كبندول الساعة ، مكررا لنا حكايته.
قلت لابنتي " أكيد هذا الشاب فلسطيني " أجابتني باستهزاء: تشرفنا! كان جوابها لئيما ينبىء بعمق الصدمة و الاحباط. اقتربت من الشاب و قلت له .. هالو هالو.. لكنه استمر في الشخير، نكزته قليلا بكتفه، فتح عينا و أغمض أخرى، و كان بادي الاعياء، أجاب نعم؟ أنت فلسطيني؟ نعم! لماذا انت هنا؟ نفخ متذمرا، و أغمض عينيه ثانية. قلت بصرامة و جدية..أجبني عن بعض الاسئلة، حتى أدعك تنام. استغرب لهجتي و اصراري، فاستسلم بغير رغبة . احكي لي لماذا انت هنا ؟ دخلت بطريقة و كأنك معتاد لهذا المكان أو تعرفه!!

كان الشاب يعمل في السعودية، و جاء لزيارة أهله في غزة، و بما أن للمعبر أوقات محددة يفتح فيها لمرور الباص الذي ينقل القادمين من السفر لزيارة أهلهم، و على الواصلين أن ينتظروا حتى يمتلىء الباص بالركاب، و قد ينتظر المسافر يومين او ثلاثة أو حتى اسبوعا كاملا ليأخذ الباص و يجتاز معبر رفح الى غزة ! ويعني قضاء جزء من الاجازة في حجز لا مبرر له، الاّ الاهانة والاذلال...
قطع الحديث بيننا ، فتح الباب و دخول عسكري ، يأمرنا بأن نتبعه، و اكتفى بالاشارة لنا. سرنا خلفه الى تحقيق جديد، حيث أبلغنا بقرار التسفير صباح اليوم التالي الى باريس. لكني قررت شراء تذكرة جديدة و العودة الى بيروت، فقد كنت خجلة من ابنتي التي كنت أتلو عليها ألف باء العروبة و القومية و الأمة الواحدة، و شعرت بحاجة للانعزال.
و أين سنقضي الليلة؟ سألت العسكري. في ذات الغرفة التي جئتما منها!! عضضت على جرحي و قلت بهدوء" لدينا غرفة محجوزة في الشيراتون و سنقضي الليلة هناك" . ممنوع عليكما مغادرة المطار! أوكي سوف ندفع أجرة حارس على باب الغرفة في الفندق حتى صباح الغد، أيضا ممنوع.
و افترقنا..أخذت ابنتي الى مطار آخر، لأن طائرتها سوف تقلع بعد منتصف الليل بقلبل، أما أنا فعلي الانتظار حتى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.... كان المحقق سمحا و متسامحا و سمح لي بالبقاء في قاعة المطار و ليس في تلك الغرفة/ الكابوس. قضيت الليل أتجول حينا و أجلس حينا آخر و أنا أجرجر حقيبتي. لفتني أثناء تجوالي، جلوس رجل و امرأة على بنك خشبي. المرأة الحامل انتفخت قدماها حتى أصبحتا مثل عمودين اغريقيين ضخمين، و طفلان غفوا على ذات المقعد. تحدثت الى المرأة.. هي ايضا فلسطينية /مصرية، و من حملة الوثائق المصرية، و تعيش مع زوجها الذي يعمل في السعودية، و في كل مرة تأتي لزيارة الأهل في مصر كان عليها الانتظار في المطار حتى تستكمل مباحث أمن الدولة اجراءاتها، و يوم التقيتها كان قد مضى على وجود العائلة في المطار ثلاثة أيام!!!

حان وقت الرحيل، و لكن من مطار آخر. رافقني عسكريان مع سائق الباص الصغير . حمدت الله أني لم أنقل بسيارة السجن الذي يسمونه"البوكس" سألت عن وثيقة سفري الملعونة، فأخبرت بأني سوف أتسلمها في الطائرة. ثلاثة من العسكر رافقنني حتى درج الطائرة، حيث كانت مجموعة من العسكر منتشرة في المكان ... ما خلت نفسي يوما انني شخصا مرهوب الجانب الى هذه الدرجة! نظرت الى أقرب عسكري لي، و قلت له" هل تعتقدون أنكم قبضتم على كارلوس؟" و لم يكن قد قبض عليه آنذاك.
انتظر عسكريان على مقربة من سلم الطائرة، و صعد معي عسكري واحد. كنت آخر راكب يدخل الطائرة ، سرنا في الممر حتى وصلت الى المقعد الذي بقي شاغرا ينتظرني، ترافقني عيون المسافرين بفضول، سرت بكبرياء متجاهلة النظرات و الهمس ، لكن روحي كانت تتمزق. جلست في مقعدي و ثبت حزام الأمان، أخرج العسكري وثيقة سفري من جيبه ، سلمني اياها و انصرف بدون حتى ان يتمنى لي رحلة سعيدة. اشرأبت الأعناق و امتدت الرؤوس و حاصرتني العيون علها تعثر على ما يشفي غليلها، أخرجت كتابا من حقيبة يدي لأهرب اليه من تلك العيون التي تحاصرني.... أردت أن أقف و أصرخ بهم بأني ما اقترفت اثما، لكن خطيئتي هي أن أرضي قد اغتصبت ، وجريمتي ان هويتي مختلف عليها.. وان انتمائي غير محدد بعد.. لم يسمع أحد من الركاب صراخي، لأنه ظل حبيسا في حلقي الذي جف مثل أرض نسيها المطر!

أعتذر من شعبي المصري، لكن الأحداث الجارية تفتح ألف جرح وجرح في الروح

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !