مواضيع اليوم

ابتكار عمره 25 قرنا أسمه ديمقراطية

د.هايل نصر

2009-02-26 08:43:32

0

قبل 25 قرنا ابتكر الإغريق الديمقراطية. وبعد 25 قرنا ( شهد فيها هذا الابتكار انتصارات, وازدهارا ونكسات, وحروب, وهزائم, وعرف تطورات باتجاهات متعددة ومتشعبة .. ) لم يشهد فتحا في دنيا العرب. وقف دون أبواب منطقتنا و لم يدخلها, ولن يدخلها, في المدى المنظور على الأقل, (مع انه دخل بعض الدول الإسلامية, غير العربية, بشكل أو بأخر ) إلا إذا سمينا, عنوة, أشياء أخرى سائدة في بعض أنحاء هذه المنطقة باسم الديمقراطية, وصدّقنا أن مسرح العرائس مسرح سياسة جادة. وان البهلوان يغير الواقع بحركاته وسكناته.

 سوف يسمي الكثير هذا تشاؤما. وسوف يثور العدد الكبير من المفكرين العرب, المتفائلين دائما, إذا قُدّر لهم أن يقرؤوا مثل هذا الكلام,  أو يسمعوا صدفة به أو بما يشبهه. (  وللإشارة فقط: أعداد مفكرينا في القطر العربي الواحد تفوق أعداد كل مفكري الغرب مجتمعين ) وسوف يسخر العلماء, علماؤنا, أو يشتموا, (والشتيمة أصبحت نقدا علميا موضوعيا, وأسلوب تفنيد راق وجاد للرأي الآخر ) أو يشمتوا, أو يقول بعضهم الحمد لله. أو يعتبره الكثير من المفكرين الأصلاء  المتخصصين في العلوم القومية والأصالة الأصيلة, بأنه دليل قاطع على عراقتنا, وعلى أننا  امة غير قابلة للاختراق, مقاومة لكل فكر وحضارة, بما فيها الحضارة العربية نفسها التي لا تتلاءم مع فهمهم الخاص جدا للحضارات. فالمقاومة كل المقاومة لكل ما هو متعلق بالديمقراطية الغربية, وذلك حماية لإنتاجنا المحلي "الديمقراطية العربية"!!. وحال العلماء العرب, من حيث العدد والعديد, مثل حال مفكرينا, مع بعض التفوق عليهم بالعلم. ومفهوم المفكر أو العالم في رحابنا واسع ومطلق, ومضياف, كالمضافات العربية لا يُسأل القادم إليها  كيف ومن أين جاء.

 لا يعني هذا أننا نغمز من جانب الفكر وأصحابه عندنا,  فذلك خطأ كبير. وتجني على الحقيقة. و لا يمكن لمن يحترم نفسه, أو يعتقد انه يحترمها, أن يقع فيه, أو يفكر بذلك. المقصود هنا المفكرين ممن أُغدق عليهم رسميا لقب مفكر, مع كل الامتيازات المحفوظة لهم!!, أو لقب عالم. وبكلمة: المفكرون أو العلماء الذين لا ينتجون فكرا أو علما إلا بناء على توصية, و بترخيص, ويختارون, أو تُختار لهم, مواضيع تفكيرهم وبحوثهم بموافقة, وترخيص. ولا ينشرون الفكر والبحوث إلا بعد استحسان وترخيص, ويُثبتون مواهبهم بالقدرة على البرهنة على شرعية وجدارة وقدرات والهام الحاكم الفاضل ـ الضرورة, مصدر كل ترخيص, وصولا منهم لترخيص كل المبادئ الأخلاقية والقيم, وكل ما هو قيّم  وثمين في حياتنا, وأثمنه بطبيعة الحال الفكر الحر. لأنه الإنسان الحر.

الديمقراطية المبتكرة قبل 25 قرنا لم تلق تلقائيا, في بداياتها, الترحيب وكان البعض يفضل نظام إسبارطة عليها, لأنها كانت هيمنة الشعب بعامته وفقرائه, وان النظام الأفضل يجب أن يقوم على الأفضل, أي على النخبة. وانتقد أفلاطون المساواة في الديمقراطية التي قادت إلى الحكم على سقراط بالموت. ولكن التاريخ انصف تلك الديمقراطية التي  حلمت وتحلم بها الشعوب إلى يومنا هذا, ولا يتطلع احد لإسبارطة.

يعترف الغرب, والاعتراف تواضع صادق ومن شروط التعلم, بان الفكر الإغريقي لم يزل منذ 25 قرنا  يوضح أشياء كثيرة ويغنيها. ( Claude Weill, le nouvel observateur, hors-série, juillet août 2008 ). وبان أثينا التي كانت مدرسة اليونان, أصبحت لاحقا بفضل التوسع الروماني مدرسة أوروبا كاملة. وان سيسرون  كان محقا حين اعتبر أن صناعة الثقافة الإغريقية سمحت بمعرفة أفضل للذات, وبإيجاد الطريق الناجعة للإنسان لتكوين هويته الخاصة به. ولهذا سماها ثقافة إنسانية, ف"بعالميتها وشموليتها كانت مثالا أعلى صالح لكل الناس في كل العصور". ويضيفون على ما قاله سيسرون أن هذا المثال معلم من المعالم الثابتة والصالحة إلى يومنا هذا( Sabrine   Hubaut, المرجع السابق ).

  الديمقراطية الإغريقية, التي يُعجب بها الغرب ويقدرها, كانت بناءا غير قوي, ولم تدم طويلا. وكانت أكثر ضيقا (رغم إصلاحات عام 208 ق.م لتوسيع الجسم المدني وإصباغ صفة مواطن على بعض المعتقين من العبودية أو الأجانب المعترف لهم بكفأتهم) من الديمقراطية الغربية الحالية , ولكنها أكثر جذرية منها. (المرجع المذكور).

 الحداثة أبعدت الديمقراطية عن المعنى الأساسي التي تضمنتها هذه الكلمة. ومع ذلك لم ينقطع الفلاسفة والمؤرخون والسياسيون عن العودة من وقت لآخر لإعادة اكتشاف الأساسي فيها, الذي ساد الديمقراطية في المنشأ, في مهدها الأصلي. وازداد هذه التوجه, بشكل خاص, بعد الحرب العالمية الثانية ( أصول الفكر الإغريقي 1962 Vernant ).

ويدرك هؤلاء بان الإغريق لم يقدموا, بطبيعة الحال, حلولا تصلح لزمننا الحالي وللمشاكل المعاصرة, ولكنهم تركوا دروسا ومعالم مفيدة, على سبيل المثال, لمعرفة أسباب ظاهرة التراجع المستمر بالثقة بالممثلين المنتخبين, وما ينتج عنه من عدم الإقبال على صناديق الاقتراع, و في البحث عن علاج ذلك, يرجعون للنظر في العبر الإغريقية, حيث كانت الديمقراطية, في عملها, تتطلب جهدا جماعيا ومتواصلا في البناء. والعمل قبل كل شيء على جعل المجتمع يكتشف نفسه بنفسه, ويخلق فعالياته بنفسه, وويعطي معنى وشكلا لعالم يجد فيه الإفراد صعوبات متزايدة لمعرفة توجهاتهم.(la cité et la loi, ce qui fait la Grées, Cornelieu Castoriadis, Seuil, 2008  ). وان المواطن الأثيني كان يكرس , طواعية, وقتا كبيرا لواجباته المدنية  civiques .

وحتى قبل ابتكار الديمقراطية كان الإغريق, مؤسسو الحاضرات cités , قادرين على بناء تجمعات سياسية ذات سيادة, تنتج بنفسها قوانينها وتطبقها بنفسها على نفسها.

من وجهة نظر أثينا, وعكس ما تدعيه النظرية السياسية " الوظائف الثلاثة للسلطة السياسية هي التشريع, والقضاء, والحكومة, وليس التنفيذ" هذه الأخيرة بمعنى الإدارة ليست وظيفة سلطة, وإنما فاعلية مرؤوسة. وهو ما يبدو غريبا في يومنا هذا حيث الآلة الإدارية تختلط بالدولة.

من المبادئ الأساسية للديمقراطية الإغريقية التي يتم النظر فيها,  بين حين وحين, أكثر من غيرها:

ـ المساواة أمام القانون, والمساواة في الحقوق. في المعنى الأساسي لا تعني بالضبط عبارة المساواة المساواة أمام القانون, ولكن المساواة في التقاسم والتوزيع. الديمقراطية الأثينية التي لم تكن تمثيلية ولكن مباشرة,  لا تقتصر على الانتخابات ولكنها تتضمن ممارسة السلطة من قبل المواطنين المتمتعين بحقوق المواطنة. وهو مبدأ توزيع سلطة الشعب بالتساوي .

ـ مساواة في التعبير. فكل مواطن له الحق المساوي لحق غيره في التحدث أمام الجمعيات العامة. وتنظم مدد حق التعبير هذا بواسطة ساعة مائية. لكل مواطن الحق في اخذ الكلمة ليقترح قانون, أو تقديم مشروع قرار, أو اتهام رجل سياسة. أو مواطن آخر... وفي كل المسائل القابلة للنقاش أمام الجمعيات. ولكن هذا الحق يتضمن مسؤولية صاحبه, حيث يتعرض للمساءلة في حالة تقديم اقتراح مخالف للقانون, أو للمصلحة العامة, أو اعتبر خطر على الديمقراطية.

المساواة أمام السلطة. كل المواطنين سواسية أمام السلطة. يملكون المساواة في القوة, والمساواة في السلطة. أي إنها صيغة من الحكم يكون فيه المواطنين متساوين في الحقوق السياسية.

المساواة في التصويت. لكل شخص صوت في المجالس. و عليه واجب الاشتراك في الحكومة,  والوصول لهيئة القضاء. وحق التصويت على القرارات التي تطبق, في أكثر الحالات, فورا ودون مهلة.

المساواة في الدرجة . يتقاسم المواطنون المساواة  في الدرجة, وفي الكرامة, وفي الاعتبار. وقد تميز الشعب في ظل الديمقراطية الإغريقية بأنه ينتج قوانينه مباشرة بنفسه ولنفسه. وباستقلاله, وامتلاكه لمصيره دون واسطة. وإنتاج حقوقه الخاصة به. ( الونوس تورديسيلاس. المرجع المشار إليه أعلاه).

ليس هدفنا هنا هو البحث في الديمقراطية المبتكرة من قبل الإغريق. ولا في تطور أو اختلاف, أو الاتجار, أو تحريف المفاهيم الديمقراطية خلال 25 قرنا. ولا التجارب الديمقراطية, ما فشل منها وما نجح.  ولا في إعلان غالبية  دول العالم, بعد انهيار المعسكر الاشتراكي, بأنها أصبحت ديمقراطية, أو أنها في طريق البحث عنها. وإنما نريد فقط الإشارة, في ضوء ما تقدم, لموقفنا العربي بطرح سؤالين مختصرين, حتى لا نثقل على القارئ, وخاصة صاحب الاهتمامات الأخرى, المرخص له بها, ومع ذلك تتشعب عن هذين السؤالين أسئلة أخرى لا تحصى, ولا تبحث عن أجوبة, على الأقل في واقعنا الحالي :

ـ لماذا, نحن بالذات ودون غيرنا, نغلق أبوابنا في وجه الديمقراطية التي تحمل بعض ما اشرنا إليه من أفكار ومعان, ومبادئ وقيم, ومنذ القدم. ونكفرها, أو نرى فيها ما ليس فيها, ونُسّخفها عن طريق ربطها مرة بالاستعمار وأخرى بالكفار, أو ببوش, الذي على ما نعتقد, وقد نكون جازمين, انه لم يكن قد ولد بعد عند ابتكار الإغريق لها, ونراها ليست لنا لأنها ليست منا ؟. (مع أن كل الابتكارات ليست لنا, وليست منا, ولم نسهم بأي شكل في صنعها, أو صنع الأشياء المادية التي نتهافت على اقتنائها. لماذا الديمقراطية هي المرفوضة وحدها. ووحده المنبوذ هو الفكرالحر؟).

ـ هل لدى عالمنا العربي إحساس بالزمن و بمرور القرون ؟. هل يمكنه دخول عصره, أو يسعى لدخوله بفعله أو بالمواكبة ؟. هل لمن يبقى خارج الزمن مكان أو مكانة في مسيرة الزمن؟ هل نحن حالة خاصة؟.

 د.هايل نصر.

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات