أثارت قضية الصورة المفبركة التي نشرتها مؤخرا صحيفة " الأهرام " المصرية. و التي ظهر فيها الرئيس حسني مبارك و هو يتقدم الرؤساء الذين حضروا بداية المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين و الإسرائيليين. أثارت ردود فعل مختلفة، وقيل بشأنها الكثير. لكني أحسب أن الأمر ليس مجرد " سقطة مهنية " للصحيفة المذكورة، بل إنه يندرج ضمن ما أسميه بوحي من هذه القضية ب" إيديولوجية الفوتوشوب " التي تؤطر العلاقة بين الدولة و المجتمع في المنطقة العربية.
يتحدث الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في تحليله لوظائف الإيديولوجيا عن ثلاثة استعمالات أساسية هي: التشويه و التبرير و الإدماج. و إذا كان مستوى التشويه يبدو واضحا لأنه يتحدد في إنتاج صورة مقلوبة عن الواقع. فإن تبرير هذه العملية هو الذي يستأثر بالإهتمام لأنه يتوجه بشكل مباشر إلى قلوب و عقول الناس من أجل إقناعهم بقيمة أفكار الطبقة المسيطرة و صدقيتها. و هي العملية التي من شأنها أن تحقق أكبر قدر من الإجماع. وهنا نصل إلى الوظيفة الأخيرة ( الإدماج ). وهي حتما تعد أكثر أهمية لأنها تتم بشكل يومي عبر مزيد من التضليل الذي يؤدي إلى مزيد من التنويم الذي يؤدي بدوره إلى إعادة إنتاج نفس الأفكار و ترسيخها من خلال الطقوس الإحتفالية و استغلال وسائل الإعلام و المدرسة و كل مؤسسات الدولة خدمة لمشروع الطبقة الحاكمة الذي يصبح عقيدة إيمانية مغروسة في وجدان الشعوب.
يقولون: إن السياسة هي فن الممكن، لكنها أيضا هي فن الضحك على الذقون وبيع الأوهام. لذلك تمثل وسائل الإعلام أداة أساسية لتحقيق أكبر قدر من التضليل وقلب الحقائق. و في العالم العربي تسخر هذه الوسائل أحسن تسخير لتلميع صورة الأنظمة و التغني بديموقراطيتها المزعومة. وهكذا تقدم وسائل الإعلام الحكومية بكل أشكالها جرعات إيديولوجية تشوه الواقع و تنوم المواطن. و الصورة التي نحن بصدد الحديث عنها تعبر عن هذه المغالطة التي يراد للرأي العام أن يؤمن بها كحقيقة ثابتة. و بالتالي فالمسألة لا تتوقف عند حدود الجدل الذي رافق الصورة المزورة ذاتها، بل ترتبط بنمط تفكير عام يعبر عن قدر هذه الشعوب التي لا يراد لها أن تفكر بل أن تستهلك فحسب. و دلالة الصورة في هذا الوقت بالتحديد لا يمكن القفز عليها في تحليلنا لخطاب التضليل الذي يرزح تحته الشارع العربي.
الصورة الأصلية.
الصورة المفبركة.
الرئيس المصري في الصورة الأصلية التي نشرتها و سائل الإعلام الدولية يبدو في أقصى اليسار و هو متأخر عن الزعماء الآخرين. لذلك وجد هواة التضليل في " الفوتوشوب "ضالتهم لتفادي الحرج الناتج هذا المظهر الذي يلفت الأنظار، و هكذا أصبح الرئيس بقدرة قادر في مقدمة الزعماء و كأنه في سباق مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما. لذلك فرسالة صورة الأهرام واضحة، ومفادها أن الرئيس مبارك هو قائد عملية السلام. و خلف هذا الدور الريادي لمصر على المستوى الدولي تختبئ رسالة أخرى لكنها أكثر أهمية لأنها تتعلق بالشأن الداخلي مباشرة. فالرئيس يتقدم باقي الرؤساء بنشاط وحيوية مما يثبت أنه يتمتع بصحة جيدة، و في ذلك رد على كل الذين يشككون في صحته و قدرته على أداء مهامه و خصوصا في ظل جدل الإستخلاف الذي يتصاعد منذ عودة البرادعي إلى مصر.
بهذا الشكل إذن يتم تضليل الرأي العام. و بهذه الطريقة يتم الإستخفاف بالمواطن المسكين الذي يصدق كل ما يراه و يسمعه في و سائل الإعلام الرسمية. لذلك لا يمكن أن تكون " صورة الأهرام " مجرد خطأ مهني. بل هي وسيلة من وسائل الدعاية و التجميل التي تفعل فعلها في القلوب. لكن المهم هو أن " الفوتوشوب " العربي ليس مجرد أداة للتلاعب بالصور الفوتوغرافية، بل هو رمز لخداع إيديولوجي يعبر عن ثقافة اجتماعية تؤمن بالواجهة. لذلك نجح هذا الخداع و ما يزال في التلاعب بمشاعر الشعوب و استغفالها. محمد مغوتي.28/09/2010.
التعليقات (0)