مواضيع اليوم

إنه اعتراف فرنسي خطير

ممدوح الشيخ

2010-06-27 22:51:13

0



بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com

عندما يجلس الرؤساء على كرسي الاعتراف فيجب توقع سماع ما يثير، وعندما يكون الجالس على كرسي الاعتراف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي فيجب توقع ما هو أكثر إثارة، فالرجل منذ دخل الإليزيه يقوم بجهد تاريخي للتخلي عن ميراث "الديجولية"، وهي للأسف الشديد مصطلح له بريق في خطابنا التحليلي العربي، فيما الديجولية في الحقيقة صفحة سوداء من تاريخ فرنسا كونها رمز للإمبريالية الفرنسية!
وبسبب غلبة الصوت اليساري القومي والماركسي في منطقتنا اعتاد مثقفونا إلصاق تهمة الهيمنة بأمريكا وإسباغ أكثر الأوصاف فخامة على فرنسا كرمز لخيار ثقافي وسياسي. والاعتراف الفرنسي الذي نتحدث عنه طيرته وكالات الأنباء في سياق مواكبتها لقمة فرنسا/ أفريقيا، فالرئيس الفرنسي يريد إعلان تخليه عن "شبكات التأثير". والمصطلح يتم تداوله كما لو كان معناه واضحا في أذهان المتلقين.
ومصطلح "شبكات التأثير" بديل مهذب عن ظاهرة "اللوبي الفرنكفوني" في السياسة العربية – وله امتدادات أفريقية – وهذه الشبكات هي الحليف المحلي للديجولية الفرنسية، ويقصد بها في عالم الجنوب/ الشرق البنى التنظيمية لدولة المنظمة السرية التي تحدث عنها حسن العلوي في الحالة العراقية.
وقد تسببت هذه البنية السياسية التي ظلت خيارا فرنسيا مقدسا في نتائج كارثية عدة مرات. ففي 1994 فشلت دولة التنظيم السري الرواندية في الحفاظ على السلطة – ومعها المصالح الفرنسية – فأشعلت حربا أهلية راح ضحيتها مليون قتيل من المدنيين خلال 100 يوم لتفقد فرنسا واحدة من أهم مناطق نفوذها، وهي خسرت معها صورتها المصقولة كمنارة تنوير!
وبسبب الروابط – التي أرى أنها لم تزل غامضة – بين فرنسا والنظام البعثي العراقي المقبور بذلت فرنسا جهدا استثنائيا لمساعدة صدام على إنقاذ عرشه خلال الفترة السابقة على إطاحتها، فضلا عن الروابط الاقتصادية المميزة بين الطرفين حتى آخر صفحة من كتاب صدام حسين.
ومن الناحية التاريخية، تمثل الرابطة بين باريس وحركة القوميين العرب – وبخاصة البعثيين – صفحة تحتاج المزيد والمزيد من البحث والتوثيق والتحليل. فلم تكن مصادفة أن تولد حركة القوميين العرب في طبعتها الأكثر تشددا وعنصرية في باريس بانعقاد مؤتمرها الأول عام 1905، ولم تكن مصادفة أن تكون الأدبيات الأولى للقوميين العرب بالفرنسية!!!!
وإذا عدنا إلى قمة فرنسا أفريقيا وجدنا أنه حسب التقارير الإخبارية فإن فرنسا لم تعد تسعى للقيام بدور شرطي أفريقيا وهو دور سفكت بسببه دماء كثيرة دون أن تدفع فرنسا أي ثمن له، بينما اتجهت الإدانة دائما إلى دور أمريكا كشرطي، وكأن الهيمنة عندما تكون فرنسية فإنها تكون هيمنة حميدة أما الهيمنة الأمريكية فحدث عنها ولا حرج!!
وحسب المحللين فإن هذه القمة التي كانت في الماضي ملتقى هاما لرابطة "فرنسا أفريقيا" التي مثلت نظام استقطاب من قبل فرنسا لقادة مستعمراتها السابقة وللشبكات السرية وللاحتكارات التجارية.
لكن إذا سألت: ما حقيقة هذه الشبكات السرية؟ فلن يجيبك أحد. لكن النفوذ الواسع للفرنكفونيين في المشرق العربي ظاهرة خطيرة تمتد تحت السطح دون أن يدينها أحد، فرغم الصخب حول الهيمنة الأمريكية والنفوذ الأمريكي ......إلى آخر قاموس مصطلحات التضليل اليساري العربي فإن النفوذ الأكبر والأخطر في مشرقنا هو النفوذ الفرنسي.
ولولا حدوث كارثتي الحرب الأهلية الرواندية وسقوط نظام صدام لربما بقيت الشبكات السرية الفرنسية تحكم الكثير من دول الجنوب/ الشرق، وهذا هو السبب الحقيقي وراء الموقف الفرنسي الذي أسكرت نشوته عقولا يسهل الاستخفاف بها.
وكما وصف القرآن قوم فرعون في قوله تعالى "فاستخف قومه فأطاعوه"، فإن فرنسا كانت قادرة قبل إطاحة النظام البعثي العراقي على الاستخفاف، بكثيرين عبر تسويق نفسها خلال حكم شيراك الديجولي كـ "كعبة للقومية العربية".
ولأن من الخطر الشديد أن تحيا الأمم بـ "ذاكرة اليوم الواحد"، فإن الرغبة الفرنسية في التخلي عن ما تسميه تأدبا "شبكات التأثير السرية"، يحب أن تقابلها مطالبة واضحة بالكشف عن حقيقة هذه الشبكات وحقيقة الأدوار التي قامت بها في بلادنا – كل بلادنا – فالدماء التي سالت في رواندا بسبب الصراع بين الشبكات السرية الفرنسية وقوى التغيير الديموقراطي سالت دماء مثلها في دولنا وظلت المسئولية عنها تعلق في رقاب آخرين.
إن مساعدة المثقفين العرب على إعادة النظر في صورة فرنسا ليس مجرد ترف معرفي بل هو شرط موضوعي لوعي أفضل بالذات والعالم، فالتغيير الديموقراطي كمفتاح رئيس لتغيير حياة شعوبنا للأفضل كان دائما خارج أجندة السياسة الخارجية لفرنسا وبقيت لعقود تحمي بعض أكثر الأنظمة استبدادا في العالم، وكانت مقولة "الاستقرار" تحتل المكانة الأرفع في القاموس السياسي الفرنسي.
وعلى مذبح الاستقرار قدم ضحايا من الهوتو والتوتسي في رواندا والأكراد في كردستان العراق والطوارق في مالي والبربر في الجزائر والزنوج في موريتانيا.. .. ..وغيرهم. وإبقاء الذاكرة حية ضرورة لحماية المستقبل من أدران الماضي. ومن ذاقوا القمع الوحشي على يد شبكات صدام حسين السرية من المؤكد أنهم، عندما يقرأون عن هذه التحولات في الموقف الفرنسي بالتوجه نحو التخلص من الشبكات السرية، يشعرون بنشوة انتصار لو على البعد!




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !