بقلم/ مـمدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
هل هي لعبة تآمرية سياسية جديدة؟
ربما.
لكن المؤكد أنها لحظة نادرة تم فيها القبض على العقل الاستراتيجي الأهم في العالم متلبسا بالبحث عن "مخلص" والاتكاء على أسطورة لنزع فتيل مخاطر سمتها الرئيس السيولة والزئبقية، فالمخاطر الجديدة في عالم السياسة الدولية أقرب إلى خيط دخان، وكأنها خارجة من بين حروف قول نزار قباني في "قارئة الفنجان":
وستعرف بعد رحيل العمر
بأنك كنت تطارد خيط دخان
ولمطاردة الدخان خلص خبراء مؤسسة "مركز معلومات الإستراتيجية القومية" البحثية الأمريكية الذين تأخذ الإدارة الأمريكية برأيهم إلى استنتاج مفاجئ مؤداه أن الخطر الأكبر على الأمن الأمريكي في الأجل القريب سيشكله القراصنة الصوماليون ومهربو السلع المكسيكيون والإرهابيون الإسلاميون وليس الخصوم التقليديون: روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية ونظام هوجو تشافيز. ويعتقد هؤلاء الخبراء أن أفغانستان والعراق والصومال تمثل مصدرا رئيسا للخطر، كما أنهم لا يستبعدون إمكانية أن تتعاون دول ديكتاتورية مع المصادر الجديدة للخطر.
وبرأي الخبراء لا تستطيع الآلة العسكرية الأمريكية صد مخاطر من هذا النوع إلا عندما يبتعد البيت الأبيض عن فكر القرن العشرين ويكف عن اعتبار القوة العسكرية والاقتصادية الأداة الوحيدة للسياسة الخارجية. ولتنجح أمريكا في مقاومة المخاطر المستجدة يتعين عليها، حسب روي غودسون، أحد خبراء "مركز معلومات الإستراتيجية القومية" الذي سبق له العمل بجامعة جورجتاون المرموقة، فإن أمريكا في حاجة ماسة لمثيل معاصر لـ "لورنس العرب"، لأنها لا تستطيع حماية مصالحها العليا إلا بمساعدة أمثاله!.
ولورنس العرب هو ضابط المخابرات البريطاني العقيد توماس إدوارد لورنس المولود بشمال ويلز ببريطانيا في 1888، وجاءت شهرته الطاغية من تكليفه بمهام خلف خطوط "العدو" العثماني عبر تأليب القبائل العربية وزعمائها ضد الدولة العثمانية ودفعها للتمرد وقطع خطوط إمداد الجيش العثماني. ونجح لورنس في مهمته على نحو جعله يتحول لأسطورة. لكن نشوب الثورة البلشفية في روسيا وقيام الحكومة الجديدة بالكشف عن اتفاقية سايكس بيكو التي كانت سرا دفع بريطانيا لسحب لورنس من بلاد العرب.
وفي 1926 أرسلته بريطانيا لأفغانستان التي استعصت على بريطانيا في حربين مكلفتين. وما إن كشفت صحيفة "تايمز أوف انديا" أمره عام 1928 متسائلة عن مهمته، تبعتها صحيفة "برافدا" السوفيتية، حتى تم سحبه لينتهي دوره الأمني، وقد ترك الرجل الزئبقي كتابا شهيرا روى فيه تجربته هو "أعمدة الحكمة السبعة".
واستحضار لورنس العرب على هذا النحو المفاجئ يضفي أجواء أسطورية على صراع دموي طالما سيطرت على قاموسه مفردات القصف والكر والفر مستدعية لوازمها من قوائم الأسلحة الأشد فتكا: طائرات بلا طيار، وصواريخ ذكية، وقنابل خارقة للدروع، وأخرى قادرة على نسف الجبال.. .. .. ..
واستحضار ذكرى لورنس العرب يعني أيضا إحلال التغيير "من الداخل" محل المواجهة "من الخارج"، والتوجه ليس انقلابا جذريا في فهم حقيقة طبيعة الصراع، لكنها تحول في اختيار ساحة الصراع وآلياته، فالصراع هو بالفعل صراع أفكار، لكن الانتصار فيه مرهون بـ" الحوار" لا بـ "الاختراق"، والمفارقة أن "الخيار الجديد" يستحضر "صورة نمطية قديمة" لشعوب يمكن خداعها واقتيادها على يد سوبر مان من رجال الظل!.
والفكرة تفتح الباب من جانب آخر للتساؤل عن دلالات رؤية العالم عبر رجل واحد، حيث تختفي التفاصيل والتمايزات والفروق والعوامل المتعددة التي تسهم في حسم المعارك الكبرى، وقد تحول شخص مثل ميخائيل جورباتشوف الرئيس الذي انهار في عهده السوفيتي (وفي رواية لا تخلو من سوء نية انهار على يديه) إلى أسطورة ورمز لحل ممكن لتغيير أي دولة تصنف أمريكيا بوصفها "إمبراطورية الشر". وهناك من يبحث عن ستالين أو هتلر أو .. ..كرمز لمخلص – حقيقي أو متوهم – يملك قدرة سحرية على حسم المعضلات.
وقد سجل الكاتب السويسري المعروف فردريش دورينمات الظاهرة في مسرحية ممتعة هي "رومولوس العظيم" التي تصور الفصل الأخير من تاريخ الإمبراطورية الرومانية، لأنه مقتنع أنها يجب أن تسقط، وفي القضية الفلسطينية – مثلا – يبحث الأمريكيون منذ سنوات عن رومولوس فلسطيني يوقع على اتفاقية تسوية تعلم أمريكا جيدا أن التوقيع عليها انتحار مجاني.
وبدخول لورنس قائمة الحلول الأسطورية الأمريكية لمشاكل العالم نكون أمام نقلة قد يكون فيها ما يثير الخيال، لكن المؤكد أنها نقلة مثيرة للقلق، فالحل الأسطوري الذي ينصح به خبراء مؤسسة "مركز معلومات الإستراتيجية القومية" البحثية الأمريكية هو أقرب إلى القنفذ الذي سرعان ما سيشرع أشواكه لتدمي أيدي من يمسكون به. والتفتيش في دفاتر التاريخ ليس دائما مؤشرا على الوعي بأهميته والاستعداد للتعلم من دروسه، بل قد يكون علامة على الإفلاس والهروب إلى وهم "مخلص" يستطيع تحريك الجميع كقطع الشطرنج.
إن هذه النصحية التي طيرتها واحدة من أهم وكالات الأنباء في العالم (نوفوستي الروسية) في تقرير صغير (أقل من 300 كلمة) ستضاف إلى أدبيات كثيرة تغذي في العقل العربي ميله لرؤية العالم عبر التفسير التآمري، فلماذا يساهم مركز بحثي مرموق بسكب الوقود على حرائق يجاهد العقلاء في العالم العربي منذ عقود لإطفائها؟
التعليقات (0)