لا يمكن إنكار تفوّق الحضارة الغربية الحديثة أو التقليل من أهميته وأثره البالغ في صياغة العالم المعاصر والسيطرة عليه فكريا وماديا،وكلّ مسعى لا يُقرّ بهذا التفوّق أو يتجاهله مستهينا باستحقاقاته يُعدّ بمثابة المعالجة المغشوشة التي تحجب الفهم الصحيح لطبيعة العلاقة القائمة بين المتفوّق والمتفوّق عليه أو بين المهيمن والمهيمن عليه،وبالتالي لا تساعد على التقليص من عيوبها والحدّ من الآثار السلبية التي تحكمها نتيجة الخلل في موازين القوى بينهما لصالح الأوّل على حساب الثاني...
والحقيقة أنّ ما سُمّيت بالنهضة العربية الحديثة كانت مقرّة بانحطاط العرب وتخلّفهم وبالمقابل بتفوّق الحضارة الغربية وسطوتها،بل إنّها انبهرت بهذه الأخيرة وأشادت بروّادها ومفكّريها وافتُتنت بمكاسبها التكنولوجية والمادية،ودوّنت أكثر من كتاب وخطاب ودليل لتتطوّع بالاعتراف أنّ "شمس الغرب تسطع على العرب"...لكنّ سوء تقديرها كان يكمن في سذاجة الاعتقاد بأنّ الغرب باعتناقه لقيمه "الجديدة" التي حقق بها تفوّقه يضع تجربته وإبداعاته وكلّ مقدراته لخدمة الإنسانية قاطبة،ويُبشّر بما بشرت به الثورة الفرنسية من عدل وأخوّة وحرية...
كان العديد من رواد "النهضة العربية" يؤمّلون فيما يُشبه "الهبة السماوية" من المدنية الغربية،أي منّا وسخاء وكرما أوروبيا بمجرّد اعترافهم بتخلّفهم وتقليد المتفوّق عليهم...ولم يكن العرب وحدهم يُخيّل لهم ذلك،بل كذلك غير العرب في القارة الإفريقية والآسيوية وكلّ أنحاء المعمورة ممن ينظرون بعين الإعجاب لإنجازات الغرب الباهرة...إلا أنّ العرب،ربّما،كانوا أكثر تطلّعا وتأميلا،بحكم مكامن قوتهم الذاتية وقربهم من الغرب وعلاقة الأخذ والعطاء التي ميّزت تاريخهم به في عصر تفوّقهم كما في عهد انحطاطهم...
اللافت أنّ الغرب روّج لهذا المفهوم القيمي الإنساني لحضارته وهي في أوج توهّجها حتى إن كانت غزواته الاستعمارية الاستبدادية تناقض رسالته التبشيرية "النبيلة"،وهي غزوات كان يُبرَّر لها على أنها تعمير للخراب وإنقاذ من التخلّف والبدائية و"فتح" لاعتناق عقيدة التنوير والحداثة والنهضة وتحرير العقل من الجمود والانغلاق...لكن،ثبت أنّ العقلية التفوّقية الغربية لها أحكامها غير المعلنة كما أثبته الواقع إلى اليوم، هي عقلية لا تهتمّ بما تعطيه للغير بقدر اهتمامها بما تأخذه منه بل بما تنهبه منه،إنها تعطي ما تُقرّر أن تُعطيه لتعزيز تفوّقها حتى على حساب القيم التي تُبشّر بها وتروّج لها...
في سياق متّصل يحاول الفيلسوف والاقتصادي الهندي تفسير ذلك بالقول :"هناك-على سبيل المثال-براهين كثيرة على أنّ الرأسمالية العالمية أكثر اهتماما بشكل نمطي بالأسواق منها بترسيخ الديمقراطية مثلا،أو توسيع دائرة التعليم العام،أو تحسين الفرص الاجتماعية بالنسبة للمستضعفين في المجتمع،ويمكن أن تمارس الشركات متعدّدة الجنسية نفوذا حقيقيا على أولويات التوسع العام في كثير من بلدان العالم الثالث،في اتجاه إعطاء الأولوية لمصلحة الطبقات الإدارية والعمالة المتميّزة على حساب القضاء على الأمية المنتشرة،والحرمان من الرعاية الطبية،وغير ذلك من المعوقات أمام الفقراء،هذه الصلات المناوئة،التي يمكن ملاحظتها في أمريكا اللاتينية وإفريقيا،وأيضا في أجزاء من آسيا،لا بدّ من مواجهتها ومعالجتها..."(1)
وبصرف النظر عن هذا التفسير وغيره الذي لا يعالج العلاقة بين المهيمن والمهيمن عليه،وما ذهب إليه الكاتب من تحليلات وتصوّرات تتصل بماهية "الهوية والعنف"،فإنّ الذي يعنينا فيما نرومه هو المأزق الذي آلت إليه الحضارة الغربية في علاقتها بالآخر الذي نهل من فكرها وراهن على أن تُمثّل الحلّ البديل من أجل عالم متضامن تسوده القيم الإنسانية الخالدة ويُوزّع الرفاهية على الجميع.ا..
ويهمّنا اليوم ملاحظة انحسار حماسة العرب نخبا فكرية وشعوبا إلى القيم التي انبنت عليها الحضارة الغربية لا لاقتناعهم بفسادها وانعدام مفعولها وتأثيرها،إنما لتأكّدهم أنها ليست في خدمتهم وأنها لا تعود بالنفع إلا على شعوبها،وأنّ العرب لم يجنوا منها إلا الكوارث والمهانة والوهن...بما آل إلى فقدان الثقة في أن تمثل الحل لتحقيق نهضتهم المنشودة بل إلى التوجس منها...
إنّ نظرة العرب إلى الغرب تحوّلت إلى ما يشبه ذلك الواقع تحت تأثير صدمة المغرّر به المدعوّ إلى وليمة فاخرة فإذا به لا يستمتع منها إلا بقدر لا يفي بالحاجة مقابل إجباره على دفع ثمن مشطّ من رصيده الذي هو في أشدّ الحاجة إليه...
ومع ذلك لم يبلغ الأمر إلى ما يدّعيه غربيون كثيرون بكراهية العرب لهم،وإن كان ثمة ما يدلّل على ذلك،وهي أدلّة تعتمد الاستثناء قاعدة.ا..استثناء تمثّله جماعات عربية محدودة عددا وعدّة تُصنّف ضمن الفكر السلفي المتطرّف...
أما القرائن التي تدحض ادّعاء هذه الكراهية المزعومة فهي كثيرة نجدها في استمرار التواصل مع الغرب فكرا وبضاعة ونمط عيش ،استمرار لا يزال محكوما بتبعية العرب للغرب وتهافتهم على ما يبدعه ويسوّقه من جيّد ورديء،ولعلّ التهافت على الرديء والفاسد أوفر حظا في إتيانه لأنه،غالبا،لا يستوجب جهدا ولا مشقّة ويساعد على الانبتات والتيه والخمول،والعرب بحاجة لتعاطي مثل هذه الآفات لأنهم مرهقون حضاريا،محبطون نفسانيا...إنهم بحاجة إلى أيّ مخدّر يتعاطونه،وإلى أي لهو ينشغلون به في تقليعات الموضة التي لا يُعترفون بها إلا إذا أنتجها أو زكاها الغرب،وفي الرغبة في الإقامة والنقاهة والتزحلق والاستمتاع هناك حيث صخب مدن الضباب الأوروبية-ومن لم يستطع لذلك سبيلا،غامر بحياته في قوارب الموت ليعبر البحر إلى "الجنة الموعودة"...
العرب،طوعا،يتعلمون لغات الغرب إنكليزية وفرنسية وإسبانية ويفاخرون بالتحاور بها،ومع ذلك اشتُرط عليهم حذقها لمن اختار منهم أن يستقرّ في دول غربية ويتجنّس بجنسيتها،وهو ما لم تتجرّأ،بالمقابل، دول عربية على اشتراطه...
العرب قلّدوا،طوعا،الغربيين في تقليعات اللباس والقبعات والماكياج والعطور،دون أن يشترطوا على المقلَّدين أن يلبسوا جلبابهم الرجالي ولا حجابهم النسائي ولا أن يؤمّوا جوامعهم،بل الذي حدث هو أن حرّمت دول غربية في بلدانها على العرب الحجاب والنقاب وبناء الصومعة وحتى المطالبة بلحم حيوانات مذبوحة...
العرب لم يفرضوا على الغربيين تأشيرات دخول لبلدانهم وخصصوا لهم ممرات عبور واستقبال أفضل من تلك التي يخصصونها لأنفسهم وأشقائهم،ومكّنوهم من كلّ إغراءات الاستثمار والسياحة وحتى من القواعد العسكرية،وبالمقابل ُتفرض تأشيرة الدخول إلى أميركا ودول غربية على الوافد العربي،ويُستراب منه كما يُستراب من المسعور ويُفتّش تفتيشا مهينا ويُلاحق في كلّ تحرّكاته...وبذريعة مقاومة الإرهاب يُعتبر كلّ عربي متهم إلى أن يثبت عكس ذلك...
تزدحم الذاكرة العربية بما يبوح بالعشق للغرب والتواصل معه،وهي ذات الذاكرة التي تحتفظ له بما يُدلّل على جشعه وأنانيته وخداعه،ومع ذلك فالعرب،واليوم قبل أيّ وقت مضى بعد انهيار الإيديولوجية الشيوعية،ما تزال آمالهم معلّقة عليه،وأميركا تتزعّمه،من أجل التحالف معه لعالم أكثر إنصافا وعدلا تسوده الديمقراطية والتسامح والتضامن الإنساني والرفاهية...
أما إذا استمرّ إصرار الغرب على التقوقع على ذاته بتعلّة "حماية الهوية" ودرء مخاطر الإرهاب،والتحالف مع أنظمة القمع والفساد من أجل تأمين نهبه لثروات العالم،واحتكار الديمقراطية والقنبلة الذرية والفيتو،وفرض نمطه في الحياة على غيره،وتنامي العنصرية لدى ساسته ومفكريه وشعوبه،فإنه بذلك يُعلن كراهيته لنفسه بتحويل غيره المفتونين به إلى أعدائه..._ومن الحبّ ما قتل_ولا غرابة أن يكون حلّ العرب،كلّ العرب،في الإسلام عقيدة ثم نمط سلوك يُدركونه بعد بعض التعثّر...
كأني بالمفكر الجزائري "مالك بالنبي" الذي نهل من الثقافة الغربية وعلومها وكتب بلغتها في قولته الآتية لم يقلها في بداية خمسينات القرن الماضي بل قالها للتوّ:"...لعلّ في ضمير الغيب مصيرا محزنا ينتظر هذه الإنسانية،إذ عساها تعود إلى عهود الكهوف،وقد توحي لنا القنابل الذرية في الغد بفنّ جديد من فنون العمارة،عمارة الحياة في جوف الأرض،ويومئذ تعيش الإنسانية في أعشاش هائلة تشبه أعشاش القوارض،أعشاش عجيبة تتفق وخصائص إنسانية استعاضت عن العقل بالآلة،وعن المبادئ الأخلاقية بالرقم،وعن الله بما ابتدعته من أساطير.
أية كانت وجهة الأمر،فإنّ العالم الإسلامي لا يستطيع في غمرة هذه الفوضى أن يجد هداه خارج حدوده،بل لا يمكنه في كلّ حال أن يتلمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته."(2)
أما جوف الأرض فهو غير آمن من الهلاك بعد ما طاله من تلوّث وهيجان في حين أنّ القنبلة الذرية معرّضة لتكون لعبة للتخويف لا من أقوياء العالم فحسب بل حتى من ضعفائه،وربما لتفجير دمار هائل في لحظة يأس أو عربدة وطيش...
وليس للعرب إزاء كراهية الغرب لنفسه بما هو مسترسل فيه من إصرار على احتكار الحقيقة وامتهانه لغيره إلا أن ينخرط مع من ادّعوا بأنّ "الإسلام هو الحلّ"...والحقيقة أنّ الإسلام قابل ليكون الحلّ بنموذج "أردوغاني" مثلا قد يتعزّز ويتطوّر وينتشر برواد آخرين لا نعدم إمكانية بروز عرب منهم سواء لبسوا الجلباب أو الكسوة الإفرنجية أو تحجّبوا بحجا ب إسلامي أو بحجاب يمنع المنكر والبغي...
---------------------------
1)الهوية والعنف (عالم المعرفة 352-) تأليف:أمارتيا ص،ترجمة سحر توفيق-ص 141،142.
2)وجهة العام الإسلامي-مالك بن نبي،ترجمة عبد الصبور شاهين_ص 138
التعليقات (0)