لئلا نـَنـْسىَ أنَّ مُحاكـَمةَ مبارك عنْ قتلِ المــتـظــاهرين مصيدة لذاكرة الشعب، وإزدراءٌ لآلامِ وأوجاعِ المصريين طوال ثلاثين عاماً. فالمخلوعُ ارتكب آلافَ الجرائم خلال ثلاثةِ عقود، لذا فالمحاكمةُ بهذه الصورة العبثية مسرحية هزلية لا تنطلي إلا علىَ البـُـلـَهاء.
لئلا ننسـىَ أنَّ المشيرَ كان الساعـِدَ الأيــّمـَنَ للمخلوع لأكثر من عقدين، ويعرف أسرارَ وخفايا أحداث جـِسام، ورفضَ الإفصاحَ عنها، وجاءت شهادتـُه زوراًً بزعمِه أنه لا يــَعــْرف!
لئلا ننسىَ أنَّ رفضَ المجلس العسكري والحكومات المتعاقبة، صراحةً أو ضــمناً، صَمــْتاً أو تباطؤاً، العملَ علىَ استرداد الأموال المنهوبة والمــُهــَرّبــَة هو تعاطفٌ مع الطاغية المخلوع ونظام حــُكـْمــِه العـَفـِن!
لئلا ننسىَ أنَّ البلطجيةَ صناعةُ مبارك التـي التصقتْ به، ثم تـَســَلـَّمها المجلسُ العسكري الذي يعرفـهُم فــَرْداً .. فرداً. ويستطيع المشيرُ، لو أراد أو كانت لديه أدنىَ رغبة، أنْ يــُنــَظـِّف مصر كلــَّها منهم، لكنه زادهم عَدداً وعدّة وتوَحشـّاً وقسـّوة في ظل عدم المحاسبة.
لئلا ننسىَ أنَّ مبارك قام بتسليم الســُلطة التي لا يملكها للمجلس العسكري الذي لا يستحقها، وجاءتْ الموافقةُ الضــِمنية من شباب الثورة مشروطة بتحقيق مطالب ثورة 25 يناير، لكنه نكــَثَ العهدَ، وأخلف الوعدَ، وترك اللعين عدة أشهر في منتجع شرم الشيخ ليمحو مع زكريا عزمي آثارَ السرقات والصفقات والجرائم، ثم جاءت.. المحاكمة الصورية.
لئلا ننسى أنَّ الزاعمينَ بالتحدث باسم الإسلام هم الذين وقفوا مع الطاغية، وساندوا التوريثَ، واعترضوا على الاحتجاج والمظاهرات والاعتصام والعصيان المدني، وأكثرهم اعتبروا مطالبة الشعب لحقوقه من براثن حاكم مستبد مخالفة لأوامر الله بطاعة ولي الأمر ، فمدّوا في سنوات الظــُلم، وغدروا بالصمت نحو زملائهم الذين أذاقهم مبارك الويلات والظلم والتعذيب وإنتهاك الكرامة، وفي النهاية حسم الشعبُ من خلال صندوق الاقتراع الأمرَ مرة ثانية فأعطى صوتــَه للاستبداد الديني بعدما صـَمـَتَ علىَ الاستبدادِ السياسي، واستبدل سـَوّطاً بكرباجٍ، والخليفةَ بالطاغيةِ!
لئلا ننسى أن هناك آلافاً من الشباب المعتقلين ظلماً وبهتاناً في مقابل غض الطرف عن أصحاب السوابق والهاربين من السجون والمـُسـَجـَّلين خطراً على أمن الشعب، فكلُ الدلائل والقرائن تشير إلىَ تعاطف المجلس العسكري مع البلطجية، سواء برفض ملاحقتـِهم أو باعطائـِهم الأمان خلال ترويعـِهم للشعب.
لئلا ننسىَ أنَّ خـِطابَ المزايدة الدينية الذي جعل الجماهيرَ الساذجةَ والطيبةَ تظن أنَّ اللهَّ تعالىَ كان يدعم أطرافاً في الحملة الانتخابية، فدخلـتْ مصرُ في منعطفٍ خطير سيؤدي من خلال صمتـِنا إلى تمزيق الوطن.
لئلا ننسىَ أنَّ شرعية الحُكـْم هي للثورةِ وشبابــِها الذين قامتْ الســُلطة العسكرية بسرقتـِها منهم، واعطائها لقوىَ التطرف و.. فلول النظام.
لئلا ننسىَ أنَّ الجنرالات إذا دخلوا القصرَ في أيِّ مكان في العالم لا يخرجون منه إلا بعد تقطيع نسيج الوطن وتمزيق لـُحمته وإلحاق الهزائم به، فالتاريخُ يشهد أنَّ صناعة الديكتاتور تبدأ مع تصعيد العسكر، وعزل القوى الفكرية والثقافية والعلمية.
لئلا ننسىَ أن المواطنَ المصريَّ غيرُ مسموح له بمعرفةِ ما يحدث في بلده، فالإتفاقات والصفقات والمواثيق والديون والقروض والمــِنــَحُ والدعم المالي الخارجي وحركة رأس المال الوطني والشروط المفروضة على مصر وغيرها تختص بها السلطة التنفيذية، وهذا أوشك أنْ يجعل مصرَ تـُشـهـِر إفلاســَها في عهد مبارك.
لئلا ننسى أنَّ المشيرَ لم يعتذر حتى الآن عن أعوام دعمــِه للطاغية، ولا يزال يحمل الولاءَ له، ويتلقى منه التهانى في المناسبات.
لئلا ننسىَ أنَّ الإعلامَ المصريَّ استبدل اسماً باسم، لكنه ظل نموذجاً متخلفاً، وبدائياً، ويمثل فضيحةً أخلاقية وفكرية ومهنية ولغوية لأكبر بلد عربي، ولا يزال يستقطب المعاقين ذهنياً، و الجهلاء إعلامياً والأميين معلوماتياً، والملــَوَّثين لسانياً، والمـُهرجين برامجياً!
لئلا ننسىَ أنَّ الرجلَ الوحيدَ الذي عثر عليه المجلسُ العسكري لينقذ الأمةَ من فاجعتـِها كان الساكتَ عن الظلم في عهد مبارك، واختبأ سنوات طويلة دون أن ينبس ببنت شفة أو يقول كلمة حق واحدة ولو على استحياء، وكان الدكتور الجنزوري يعرف تفاصيلَ جرائم تكفي أصغرها لارسال مبارك إلى حبل المشنقة، فكيف يتحول وهو يقترب من عامه الثمانين إلى المنقذ والمصلح والمـُطـَهـِّر والأمين و .. العبقري؟
لئلا ننسى أنَّ دمَ الشهداء ضاع هباءً في عهد المجلس العسكري، وداس عليه المشير في شهادته لصالح المتهم المخلوع، فكانت شهادته تبرئة للمجرم اللعين حسني مبارك من دماء سالت على جدران أقبية تحت الأرض في سجون خـَبـَرَها اليساريون والشيوعيون والإخوان المسلمون وقوى المعارضة، وأضحت النتيجة تلك الصفقة التي تقاسمتْ فيها اللحية واليونيفورم ومطواة قرن الغزال نتائج أطهر وأجمل وأعظم ثورات مصر في كل عصور أم الدنيا.
لئلا ننسى أنَّ صندوقَ الانتخاب بالطريقة التي حدثتْ عقب قلع عيون مئات الشباب من قنـّاصة محترفين في حماية الشرطة والعسكر والفلول وصمت الإسلاميين، ثم ترويع الشباب، ونظام الدوائر العقيم، وشراء المرشحين من قــِبـَل حيتان المال المنهوب، فضلا عن قوىَ التطرف الديني جعل المشهد المصري منذ نجاح ثورتنا الينايرية المباركة يستحق سرادق عزاء بدلا من عــُرس وطن تحرر من قبضة طاغية.
لئلا ننسى أن سوزان مبارك شريكةٌ في كل جرائم زوجـِها وولديهما، وكانت العقلَ المدبــِّر لنقل السلطة من الأب إلى الابن، وصمتتْ على نهب ثروات مصر، فافرجتْ عنها السلطة مقابل مبلغ زهيد لا يساوي جناح بعوضة من مليارات منهوبة، رغم أنه لا توجد جهة في مصر كلها تملك حق تبرئتها قبل محاكمتها.
لئلا ننسى أن مصرَ كبيرة، وعريقة، وبها كفاءات من البشر يمكن أن يجعلوها في مقدمة الأمم المتطورة في العالم الثالث، لكن القدرات الفكرية والعلمية والثقافية والسياسية والإدارية لأعضاء المجلس العسكري لا تستوعب مشهد أرض الكنانة، فمصر أكبر منهم جميعاً، وسيكون الحــُُكم العسكري كارثة على المدى البعيد يصعب على أيِّ مُصلح أو ثورة قادمة أن تــُخرج مصر من.. نقطة الصفر.
لئلا ننسى أن الخطرَ القادمَ في التطرف والتشدّد والمزايدة الدينية هو الضربة القاصمة لمصر، لا قـَدَّر اللهُ، فمهرجو الفضائيات باسم الإسلام، وموزعو صكوك الغفران، وخط الدفاع الديني الأول عن المجلس العسكري، وكارهو الإبداع والفن والموسيقى والجمال والمسرح وحرية النشر سيجعلون مخالفيهم أقليات تبحث عن حماية، وإذا استمر الساذجون وأنصاف الأميين في الدفاع عنهم فأخشى أن نكون بجهلنا وهبالتنا وعباطتنا وثقتنا العمياء قد أمسكنا جميعاً سلاحاً واحداً نــُطلقه في قلب مصر ونظن أننا .. نـُحـْســِن صــُنـْعاً!
لئلا ننسى أن كل مطالب الثورة لم تتحقق، وأن المجلس العسكري يحتقر شبابنا وثورتنا وجماهير شعبنا، وأن المخلوع الذي يسدد له دافع الضرائب المصري المسكين نفقات المستشفى والهليكوبتر وأجهزة الترفيه والإسكواش لأكثر من عام لا تزال قبضته واضحة المعالم لمن ليس أعمى البصيرة.
لئلا ننسى أنه لا توجد في مصر كلها أي جهة قادرة على الثورة ضد الظلم والطغيان غير شباب الثورة، فالقوى السياسية والعسكرية والثقافية والإعلامية والدينية وأعضاء مجلسي الشعب والشورى والنقابات والمجلس الاستشارى والمرشحون للرئاسة أعجز من أن يحركوا نجمة أو نسراً فوق كتف عضو في المجلس العسكري.
لئلا ننسى أن أكثر المرشحين للرئاسة خرجوا من عباءة النظام، فعمرو موسى هو التلميذ الأنجب لمبارك، وأحمد شفيق الأقرب له، والدكتور العوا المفضل لدى المجلس العسكري، فهو ليس سباقا على رئاسة مصر، إنما مسابقة للأكثر طاعة وولاء وخدمة لأعضاء المجلس العسكري حتى لو عادوا، ظاهريا، إلى ثكناتهم.
لئلا ننسى أن الثورة تــُجـِبّ ما قبلها، وأنها الحقيقة الوحيدة في مصر المعاصرة، وأن محاكمة مبارك عن جرائم عدة ايام فقط باطلة، والمجلس العسكري الذي سلمه مخلوع من شعبه باطل، وانتخابات مجلس الشعب باطلة، ومجلس الشورى باطل، وانتخابات الرئاسة القادمة باطلة فمتسابقوها ينحصرون ما بين خدم للمخلوع و .. خدم للمشير.
ليس أمامنا غير انتظار اكتشاف شعبنا أن كل الأطراف خدعته، وأن الطائفية والكراهية والتكفير وصغائر الأمور وعالم الفتاوى الفجة وعودة إعلام التفاهة إلى دوره في تأهيل الطغاة قد فضحت الدور الخسيس والحقير والدنيء في سرقة ثورة شبابنا وبيع دماء زملائهم الشهداء في ( طره ) وفي ( ماسبيرو ) و في ( مستشفى المخلوع ذي الخمس نجوم) ، وحينئذ تكون الظروف مــُعــَبــَّدة لتجديد الثورة، والدعوة للعصيان المدني.
ولن تنجح الثورة في تكملة دورها الطاهر والتحرري والعظيم قبل أن يكتشف شعبنا أن شباب 25 يناير فقط هم الأطهار، وأن الجماهير المصرية دخلت المصيدة طواعية، وعرَّت أقفيتــَها لكف المشير بسعادة بالغة، وأعطت ظهرها العاري بنشوة عارمة لكرباج خصوم الوطن.
ولن تنجح الثورة في تحريض الشعب للوقوف معها قبل أن تصرخ البطون الخاوية، ولا يستطيع مصري أن يخرج من بيته قبل دفع إتاوة لفتوة أو مسجل خطر، وتسري الطائفية والاستعلاء المقيت والفوقية والخيلاء في كيان أبناء الوطن، ثم نسمع الصوت العالي لدعاة تقسيم مصر.
المصريون الآن يضعون أصابعهم في آذانهم، فهم يرفضون معرفة الاسم الحقيقي للمجرم خشية أن يكون منهم أو مــَثــَلـَهم الأعلى!
لن يسمعنا أحد الآن لو دعونا للعصيان المدني أو جمعة مليونية فالناس تلعن، وتسبّ المتسببين في جحيم الوطن، لكنهم يشيرون إلى الجهة الخطأ.
إن من حرروا مصر للمرة الأولى في 25 يناير هم وحدهم القادرون على تحريرها نهائيا من كل آثار المخلوع، لكن شعبنا يمر بلحظات عرفتها شعوب أخرى، فهو يتلذذ بالعبودية للعسكر ورجال الدين والقضاء غير النزيه وسيرك البرلمان، وعندما يستيقظ شعب مصر العظيم من غفوته، فسيعرف قــَدْر وعظمة وطهارة شباب الثورة.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 4 مارس 2012
التعليقات (0)