إنشقاقات الحركات بسبب الإتفاق الإطاري
مصعب المشرّف
25 يناير 2023
طفت إلى السطح مؤخراً بوادر إنشقاقات خطيرة داخل أبرز الحركات المسلحة التي تحالفت مع الإنقلاب العسكري الذي جرى في 25 نوفمبر 2021م. وقد طفت هذه الخلاقات مؤخراًعلى خلفية توقيع الإتفاق الإطاري . وعلى ضوء حسابات وتوقعات الأرباح والخسائر .
وفي الوقت الذي سبقت الحركة الشعبية شمال الجميع وبادرت إلى الإنقسام. وعاد عرمان بنصفها غير الأعرج إلى مراحه . فإن مالك عقار الذي أفقدته الحرب 90% من أهله وتقدم في عمره وأنهكه الدهر الذي لا يصلحه العطّار. لم يعد يبدي رغبة في العودة إلى الحرب مع الحكومة . لاسيما وأنه بات على قناعة بأن إتفاق سلام جوبا قد تم إختطافه بواسطة جبريل إبراهيم إختطاف الصقر للكتكوت.
وعليه تظل أبرز بوادر الخلاف هذه تعاني منها كل من حركتي العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم ، وحركة تحرير السودان بقيادة أركو مناوي.
والجميع الآن في الحركات التي جاءت بقوات مسلحة إلى الخرطوم تدرك أن الإعتراض على الإتفاق الإطاري برمته سيعني الخروج النهائي من المشهد السياسي، والعودة إلى مربع التمرد والحرب والشتات والتيه الذي كان قبل نجاح ثورة ديمسبر.
ولكن المشكلة التي ستواجه أعداداً كثيرة من هؤلاء أن للسلام "إدمان" ومكاسب تتراكم . ويصبح من الصعب التخلي عنها هكذا لمجرد الرغبة في تحقيق أحلام بعيدة المنال غير ممكنة حتى لو كلفتهم حياتهم.
هناك اليوم رجال أعمال من مجموعتي العدل والمساواة وحركة تحرير السودان حققوا مكاسب مالية لا يستهان بها خلال الفترة التي أعقبت نجاح ثورة ديسمبر . وهؤلاء أسسوا في الخرطوم مؤسسات تجارية وتملكوا أراضي سكنية وعقارات .. إلخ. ليس من البساطة هكذا التخلي عنها والعودة صفر اليدين مرة أخرى إلى الخلاء والحال الذي كانوا عليه قبل مساهمة ثورة ديسمبر في إعادتهم إلى الجياة المدنية المثمرة الآمنة.
وكل ذي عقل في البلاد اليوم يدرك أن تخلي البرهان وحميدتي عن البقاء ركيزة لحركات دارفور الرئيسية المسلحة التي باعت الغث والسمين وتحالفت معهما بعد إنقلاب 35 أكتوبر الفاشل . هذا التخلي يعني أن أي محاولة من جانب هذه الحركات لتنفيذ تهديد ووعيد بحرق الخرطوم من داخلها سيكون بمثابة إنتحار كاميكازي.
وفي الوقت الذي تبدأ فيه المناقشات والحوار ومراجعات إتفاق سرم جوبا المثير للجدل. بوصف ذلك بنداً رئيسياً من بنود الإتفاق الإطاري الخمسة. فلا مناص من القول أن مخرجات هذا الحوار والمراجعات ستكون بمثابة اليوم الفصل في علاقة معظم الحركات المسلحة الموقعة عليه بهذا الإتفاق الإطاري.
ولكن الذي ينصح به كل عاقل هو ضرورة أن تضع هذه الحركات المسلحة في الإعتبار أن الليلة ليست كالبارحة. وأن مشروعيتة حملها للسلاح في عهد عمر البشير المخلوع ؛ ليست بمثل حمله في ظل ثورة ديسمبر. وأن الإتفاق الإطاري قد تم التوصل إليه برعاية وموافقة مجلي الأمن وآليات الإتحادين الأفريقي والأوروبي . وباركته أكثر من دولة عظمى على رأسها الولايات المتحدة ، وأم العروس التاريخية بريطانيا.
مدى فهم وأسلوب جبريل إبراهيم غير الواقعي لمتى وكيفية تطبيق إتفاق سلام جوبا هو الذي أدى إلى ضياع ملامح هذا الإتفاق ووصوله إلى طريق مسدود. ورفض الغالبية العظمى من الشعب له بعد أن إكتووا بلهيبه ناهيك عن ناره المتوقعة طالما ظل تطبيقه قائماً على هوى وطموحات جبريل..
إتفاق سلام جوبا حين صمم ملامحه العامة دكتور حمدوك. ووعد بتحقيق التوافق عليه وتوقيع الأطراف عليه خلال ستة شهور. كان هذا الإتفاق قد أخذ في الإعتبار تمويل 90% من تكلفته عبر الإعانات الخارجية التي وعدت الخارجية الألمانية حمدوك آنذاك بتدبيرها من شركائها في الإتحاد الأوروبي ، ومن الولايات المتجدة والدول المانحة الأخرى.
ولكن بعدها دب الخلاف حول إنتاقال السلطة للمدنيين وفق الوثيقة الدستورية بين المكون العسكري والمكون المدني و "حدس ما حدس" على النحو المعروف والذي لا حاجة لإعادة سرده . فحدث إنقلاب 25 نوفمبر المشئوم.
بعد إتضاح ملامح فشل الإنقلاب الأولى . لم يكن للبرهان من بد سوى الرضاء بالتحالف مع أي يد تمتد إليه . وتنازل عن الكثير لمجرد الحصول على حاضنة سياسية ومشروعية لإنقلابه على ثورة ديسمبر . فكان أن قبل بمحاصصات على الطريقة اللبنانية . ورضخ لإلحاح وطموح جبريل إبراهيم بتعيينه (حصرياً) وزيراً للمالية. بمبرر الإشراف على تنفيذ بنود إتفاق سلام جوبا.
ثم شيئاً قشيئأ تبين للبرهان أن وجود جبريل إبراهيم وزيراً للمالية لم يفيد إنقلابه في إعادة تلك المكتسبات التي حققها د.حمدوك على مستوى الدعم العالمي والتدفقات النقدية من الخارج قبل الإنقلاب... وتبين على وجه اليقين بعد رفض مدبر البنك الدولي إستقبال جبريل إبراهيم في مكتبه أو حتى مكتب مدير مكتبه وسكرتيرته . بل وتم صرفه من أمام كاونتر مقر البنك . تبين للبرهان أن لا فائدة ترتجى من جبريل إبراهيم وحركته . وأن جبريل ليس بصاحب إتصالات وعلاقات إدعى له أنه بناها وراكمها خلال وجوده في منافيه الخارجية الإختيارية . ثم أنه ليس بصاحب كاريزما كتلك التي "وهبها" الله عز وجل لحمدوك ... والله أعلم حيث يجعل رسالاته، والكاريزما والقبول والمواهب النادرة في جوف ومحيا من يشاء من خلقه.... وما التوفيق إلا بالله رب العالمين.
ثم جاءت حرب روسيا على أوكرانيا . وموقف السودان الرسمي من هذه الحرب الموالي لبوتين على ةهم أن بوتين سيدخل كييف في ست ساعات . فكان أن إزداد الطين بلّة تحت أقدام إنقلاب 25 أكتوبر. فلا الغرب أصبح في وضع إقتصادي يمنح فيه إعانات وقروض ومانات لدول العالم الثالث . ولا الحكومات الغربية والدول المانحة الأخرى لديها القدرة على مواجهة دافعي الضرائب من مواطتيها وتبرير دعمهم للسودان في ظل إنقلاب 25 أكتوبر. وهكذا إنطبق الغطاء على الوعاء.
وكانت المحصلة أذن أغلق الباب بالضبة والمفتاح في وجه تنفيذ إتفاق سلام جوبا على النحو الذي خطط له د. حمدوك. ثم ولن يتمكن السودان حتى بعد توافق الأغلبية على الإطاري وتشكيل حكومة إنتقالية . لن يتمكن من الحصول على التمويل المالي اللازم لوضع إتفاق سلام جوبا موضع التنفيذ. وحبث من المحال بالطبع أن يظن البعض أنه بالإمكان القدرة على تمويل بنود هذا الإتفاق الحالم من المانحين الآن ولعقود طويلة قادمة بعد أن أضاع إنقلاب 25 أكتوبر كل الفرص المتاحة الممكنة في ذلك الوقت المواتي والمناسب من حكومة د.حمدوك الأولى وحاضنته الحرية والتغيير.
وأما عن فكرة تمويل هذا الإتفاق الخرافي من حليب الشاة العجفاء الذي هو جيب المواطن السوداني . فهو ضرب من الجنون والتفكير اللامنطقي.
حيثما تلتفت اليوم وتستدعي الأحداث والصور والكلمات والمواقف تجد إبراهيم جبريل قائد مليشيا العدل والمساواة ، ووزير المالية في حكومة إنقلاب 25 أكتوبر 2021م الفاشل حاضراً في كل شيء.
وعلى ضوء ضغوط الإتفاق الإطاري . فقد حاول جبريل إبراهيم التقافز إلى الأمام أكثر من مرة . وباءت جميع تلك القفزات بالفشل . وجاءت على عكس ما كان يتمناه ويصبو إليه.
زيارة إبراهيم جبريل إلى كنابي الجزيرة المروية كان فيها إستفزازاً لا داعي له لموطاني وسكان ولاية الجزيرة عامة . ودق إسفيناً بين المكونات الأصلية وتلك الوافدة إليها من خارجها. وخلقت شكوكاً حول النوايا الخفية التي لم تكن بارزة على السطح بين قاطني الكنابي من جهة وأهالي ولاية الجزيرة من جهة أخرى . ويعلم الله وحده كيف وإلى أين ستؤول الأمور . وإلى أي حالة من التوتر الأهلي ستتطور الأحداث وينهار السلم الأهلي في هذه الرقغة الجغرافية الزراعية المتداخلة السكان الآمنة بطبيعة أهلها الذين تراكمت لديهم خبرات وتجارب مئات الأعوام منذ تحالف دولة الفونج في جنوبها مملكة العبدلاب وأحلافها في شمالها أنها لا تحتمل الأحقاد والتوترات والنزاعات القبلية ، والتوجهات والطموحات الجهوية والعنصرية . ولا تنشغل بها ولا تلهث خلفها بمثل ما ينشغل ويلهث سكان الصحاري في بيئاتهم الحاضنة جراء التباعد الجغرافي بين مواطن ومجتمعات القبائل وندرة الكلأ والماء.
وإذا كانت زيارة جبريل إبراهيم لكنابي الجزيرة قد جاءت خصما عليه وعلى جميع قاطني هذه الولاية بدرجات متفاوتة . فإن زيارته الفاشلة فشلاً مدياً إلى حاضرة ولاية جنوب دارفور الأسبوع الماضي إلى نيالا قد جاءت نكالاً ووبالاً عليه شخصيا أولاً وعلى حركة العدل والمساواة ثانياً. وسحبت من تحته بساط الريح الذي كان يدعي أنه ينعم أسفه بتأييد كافة شعوب إقليم دارفور.
وربما كان هذا الفشل هو أحد أسباب التعجيل بمناقشة إتفاق سلام جوبا وتقديمه ليصبح البند الثاني بعد أن كان الخامس في الإتفاق الإطاري. وهو ما يجعل من خيارات جبريل ومناوي محدودة جداً ولا يمنحهما الزمان الكافي للمناورة في أي خوار آخر يحاولان إصطناعه خارج السودان.
وعليه (والكلام لا يزال عن جبريل) . فإنه وفي كلتا الزيارتين إلى كنابي الجزيرة ونيالا ؛ إنما كان "النصر" الوحيد الذي أقلح في تحقيقه هو منح الإتفاق الإطاري الذي يعارضه المزيد من صلابة العود. والإقناع بأن هذا الإطاري هو الإين الشرعي والوريث الوحيد لثورة ديسمبر الممتدة الظافرة . وأنه ولد ليعيش. وأنه سيظل يعلو ولا يعلى عليه.
التعليقات (0)