إندماج المسلمين في الغرب بين الإمكان واللا إمكان
بقلم: التجاني بولعوالي
شاعر وكاتب مغربي مقيم بهولندا
www.tijaniboulaouali.nl
حول نشوء مصطلح الاندماج
تعتبر قضية الاندماج (Itegratie/Integration) من بين أهم القضايا التي حظيت باهتمام منقطع النظير، ليس فقط من لدن النخبة المثقفة، وإنما كذلك من قبل مختلف شرائح ومكونات المجتمع الغربي المعاصر، على تباين درجة وعيها، ومستوى عيشها، وحجم موقعها الاجتماعي، حتى أضحى هذا المصطلح يسيل على كل الألسنة، وتنشغل به أغلب الجهات، ويحضر في معظم الأنشطة، رغم أنه حديث العهد بالظهور، حيث لم يمر سوى عقدين أو ما يزيد بقليل، على سن سياسة إدماج المسلمين والأجانب في المجتمعات الأوروبية بخاصة، ما دام أن وجود المسلمين بالغرب انتقل من حالة الاستقرار المؤقت إلى حالة المواطنة والإقامة الدائمة، وهذا التبدل والانتقال طرح أمام سلطات وحكومات الدول التي يقطن فيها المهاجرون، إشكالات جديدة وتحديات غير متوقعة، تقتضي معالجة فورية وحلولا معقولة للوضعية التي توجد فيها اليد العاملة، التي تم استيرادها من بلدان العالم الثالث منذ أواسط القرن المنفرط، وهي وضعية تتطلب تسوية قانونية لا تقتصر على منح المهاجرين هوية قانونية ومدنية، ينالون من خلالها أحقيتهم، إما في التحرك داخل رقعة البلد الذي يقيمون فيه، أو في السفر إلى أوطانهم الأصلية أو غير ذلك، وإنما تتجاوز ذلك إلى شتى الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية، إذ يصبح المهاجر باسم القانون ذا حق في العمل والصحة والتعليم والتعبير، وما يستتبع ذلك من حقوق متنوعة.
هكذا لم يعد أولئك العمال الذين كانت قد استجلبتها العديد من الدول الأوروبية من مختلف بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، مجرد ضيوف مؤقتين كما يعرفهم المصطلح الهولندي الشائع ((Gastarbeiders، وإنما منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، اكتشفت سلطات العديد من الدول الغربية المستوردة لليد العاملة، ومنها الهولندية، أن أولئك العمال صاروا مقيمين أو شبه مقيمين بالديار الأوروبية، لأن الوضعية السيئة التي كانت عليها أوطانهم الأصلية، ما عادت تشجع على العودة، وقد تواكب هذا مع أزمة اقتصادية عالمية خانقة، لم تكن أوروبا بمنأى عن مضاعفاتها وخلفياتها، مما دفع الدولة الهولندية ابتداء من 1975 إلى وقف استيراد اليد العاملة. مما سيجعلها تعيد النظر في تعاملها مع ملف المهاجرين، وقد ترتب عن هذه المراجعة إقحام سياسة اندماج الأجانب في مذكرتها السياسية، وبالتحديد منذ أواخر السبعينات من القرن المنصرم، غير أن ما حدث هو أن اندماج اليد العاملة من أصل إسباني وإيطالي كان تلقائيا وسريعا، في حين انعزل المغاربة والأتراك والسوريناميون المسلمون في تكتلات خاصة بهم خارج بنية المجتمع الهولندي.
وبعدما تم تقنين وضعية أعداد كبيرة من المسلمين المقيمين بأوروبا، وصار وجودهم بالمهجر يتحسن شيئا فشيئا، بدأت تنشأ بجانب ذلك التحسن مشاكل جديدة من عيار آخر، مشاكل ذات أبعاد أخلاقية وحضارية، تمس بشكل أو بآخر ما يعتبر مصيريا في تفكير واعتقاد أولئك المهاجرين، كالدين والهوية والأخلاق والذرية وغير ذلك، حيث بين عشية وضحاها تغير التفكير لدى غالبية مسلمي الغرب، من تفكير بسيط ومحدود في لقمة العيش والعمل والسكن، إلى تفكير معقد ومتشعب في تربية الأبناء، ومستقبل العقيدة التي يؤمنون بها، والثقافة التي يمثلونها، والتعامل مع الآخر وغير ذلك. ومن بين الأمور التي استأثرت بقسط وافر من تفكير أولئك المسلمين، وصارت لدى بعضهم بمثابة كابوس ينغص رغد عيشهم، ويعكر صفاء حياتهم، نجد سياسة الاندماج، التي حاولت أغلب البلدان الأوروبية المستقطبة للمهاجرين، بواسطتها أن تدمج المسلمين والأجانب داخل مجتمعاتها، وتجعلهم ينخرطون في الحياة العامة بشكل منفتح وتلقائي وإيجابي، حتى أضحت تعادل ذلك الحلم الذي يراودها، ما دامت ترى في تنفيذ تلك السياسة و تحقيق أهدافها المبرمجة، حلا سحريا لجملة من الإشكالات الناتجة عن الوجود الإسلامي والأجنبي بالغرب، لكن هذه السياسة التي تبدو وكأنها سوف تجلب النفع والخير العميم للجميع؛ سلطة وشعبا، أصليين وأجانب، أوروبيين ومسلمين... قوبلت بالرفض أو التحفظ من قبل العديد من المسلمين، سواء كانوا مثقفين أم عاديين، لأنها تخفي غير ما تعلنه، وتبطن غير ما تعد به من أهداف ومشاريع، فهي تنبني على أسلوب الاحتواء الذي يسعى إلى تذويب المسلمين في أتون الثقافة الغربية، لأن ذلك الإدماج الذي يتراءى نافعا وإيجابيا، سرعان ما يتبدد نفعه وإيجابيته، لما لا يني في بلع هوية الآخر وخصوصياته الحضارية والدينية.
وهكذا صار مصطلح الاندماج ينطوي على مفهوم ملتبس ومخادع، ولو أن دلالته اللغوية الأصلية واضحة ومستوعبة، والمرجع في ذلك الالتباس، أو تلك المخادعة، إلى ذلك الاستهلاك المتنوع والمستمر له، مما شحنه بشتى الأفكار والحمولات والتأويلات الفكرية والسياسية والأيديولوجية، التي حرفت معناه الأصلي، فراح كل تيار أو حزب أو توجه يؤول اندماج المسلمين في المجتمعات الغربية والأوروبية، وفق رؤية المرجعية التي ينتسب إليها، لذلك ارتأينا في هذا المبحث أن ننقب في الجذور اللغوية لهذا المصطلح، سواء في بعض القواميس العربية أم الأجنبية.
حقيقة مصطلح الاندماج
لقد اتفق الدارسون الذين تناولوا مصطلح (Integration) الذي يتكرر بنفس الصيغة اللغوية أو بما يقربها، في أغلب اللغات الغربية، لاتينية كانت كالفرنسية والإسبانية والإنجليزية وغيرها، أم جرمانية كالألمانية والهولندية، على معادلته في اللغة العربية بمفردة (الاندماج)، أكيد أنها أحيانا تترجم بغير ذلك من المفردات القريبة منها دلاليا، كالإدماج والضم والانضمام والتأليف والإدغام وغيرها، لكن تبقى كلمة الاندماج أكثر استعمالا وشيوعا، لذلك رأينا من الجدارة بمكان، أن نذهب نفس المذهب، ونستخدم هذا المصطلح، لكن بعد أن نستوعب دلالته اللغوية الأصلية، التي سوف تمكننا لا محالة من وعي الجانب الاصطلاحي الشائع بيسر وفطنة وإدراك.
إذا كانت بعض القواميس الغربية الحديثة كلاروس الفرنسي وفان دال الهولندي وأكسفورد الإنجليزي وغيرها، تلتقي في تحديدها لمصطلح (Integration) حول ما معناه: الدخول في وحدة أو في الكل، والتجانس مع مكونات تلك الوحدة أو ذلك الكل. فإن جملة من المعاجم العربية القديمة تكاد لا تخرج عن ذلك الخط الدلالي، حيث تشرح أغلبها مادة (دمج) التي تشتق منها مفردة الاندماج، وأحيانا صيغة (اندمج) ب: دخل في الشيء، ومنها ما يزيد على ذلك الشرح عبارة: واستحكم فيه، كما جاء في لسان العرب والمحيط. فيكون بذلك التحديد المتكامل لمادة (دمج) هو: دخل في الشيء واستحكم فيه. وكلمة استحكم، كما هو وارد في قاموسي المحيط والوسيط، تطلق على الشيء إذا توثق وصار محكما ومضبوطا ومتقنا.
استنادا إلى هذا التحديد اللغوي لمفردة الاندماج أو جذرها (دمج)، سواء في المعاجم الغربية أم العربية، يمكن استخلاص النتائج الآتية:
إن الدلالة اللغوية لهذه المفردة تكاد تتوحد توحدا كاملا، رغم اختلاف القواميس التي وردت فيها، من حيث الزمان والسياق واللغة والثقافة، وهذا يعني أن ترجمتها كانت في محلها، وأن استعمالها يظل صحيحا عندما يقترن الأمر بالشق اللغوي، ولا يشذ إلا عندما يخالطه ما هو أيديولوجي وثقافي. وهذا يجعلنا كذلك، نستكنه أن مصطلح الاندماج يبدو وكأنه صالح لكل زمان ومكان، لكن بعيدا عن أي تأويل ضيق، أو إسقاط تلفيقي، ومراعاة لخصوصيات المندمج الأصلية، التي ينبغي تفادي اصطدامها مع خصوصيات غريبة عنها أثناء عملية الاندماج، وإلا انقلب مفهوم الاندماج رأسا على عقب، وصار مبطنا بمفاهيم أيديولوجية مغايرة كالاحتواء والتبعية والإقصاء والذوبان.
إن الدلالة اللغوية لكلمة الاندماج (Integration) تنبني على مفهومين، لا يستقيم معناها إلا بتوفرهما، أو لا يكتمل أحدهما إلا بوجود الآخر. وهذان المفهومان هما: الأول: الدخول، والثاني: الاستحكام أو التجانس مع الكل كما جاء في القواميس الغربية. وهذا معناه أن الشيء لا يصبح مندمجا اندماجا صحيحا وكليا في بنية ما، إلا إذا دخل في تلك البنية وتجانس مع باقي مكوناتها، واستحكم فيها عن طريق توثق الصلة مع كل البنية أو مع البنية كلها. من هنا، يتجلى أن الاندماج لا يكون بالدخول أو الانخراط في منظومة ثقافية ما أو اجتماعية أو غير ذلك، وإنما بالتجانس أو الاستحكام العقلاني مع باقي مكونات تلك المنظومة، وإلا أدى ذلك الدخول إلى ما يشبه الذوبان في ثقافة الآخر، ونكران الهوية الأصلية، لذلك فالتجانس العقلاني أو الاستحكام كما تشير القواميس اللغوية العربية، هو ضرب من التواصل المتبادل والبناء والواعي بين كل مركبات المجتمع، الذي من شأنه أن ينتج عنه اندماج إيجابي؛ يتشبث فيه المسلم والأجنبي بجذوره الثقافية والدينية، لكن في نوع من الانفتاح والتعاون مع الثقافات والعقائد الأخرى تحت مظلة المجتمع الواحد.
وتنضاف إلى الإشارتين السابقتين ملاحظة في غاية الأهمية، وهي أن مفردة الاندماج التي يفضل أغلب الباحثين والمهتمين المسلمين والعرب وغيرهما استعمالها، هي مصدر لصيغة اندمج التي تقابلها في الميزان الصرفي صيغة انفعل، وهي ثلاثية الأصل، مزيدة بحرفين، وفعلها لازم لا يتعدى إلى مفعول، أي أنها تقتصر على فاعل، لكن عندما تتأمل هذا الفاعل تكتشف أنه لا يتجاوز الوظيفة النحوية، فهو لا يعمل شيئا، ولا يسبب في عمل ما، لذلك يمكن أن نعتبره مجرد فاعل نحوي، في غياب الفاعل الدلالي والحقيقي، حيث الأحداث التي تحملها جمل من قبيل: انكسر الكأس، انهمر المطر، اندمج المسلم... ليست من عمل فاعل مباشر ومحدد، وإنما تحدث من تلقاء نفسها، وبشكل عفوي، فالانكسار أو الانهمار أو الاندماج... هي على المستوى المعنوي حالات للفواعل: الكأس والمطر والمسلم، أما على المستوى النحوي فهي فواعل. والخلاصة من هذا، أن تلك الأحداث أو الحالات كما تؤشر الأفعال تحصل بعيدا عن أي عامل معلن، حيث العامل الذاتي هو الوحيد المعلن، وهذا يدل على أن التلقائية والعفوية هي المناخ المناسب الذي يمكن أن يتبلور فيه حدث الجملة التي يوجد فيها فعل لازم مزيد بحرفين وعلى الصيغة الصرفية: انفعل.
بناء على هذه المقاربة اللغوية لصيغة مفردة الاندماج وما يمكن أن تحمله من إشارات دلالية لطيفة، نستطيع أن نوظفها في استيعابنا لمفهوم الاندماج على مستوى أوسع، حيث هذه التلقائية التي تطفح بها الصيغة المزيدة لجذر الاندماج، ينبغي كذلك أن تنعكس على عملية الاندماج داخل المجتمع، فلا تتأتى تلك العملية بأسلوب إجباري أو قسري، بقدرما تنبع بطريقة عفوية من تفكير وسلوك المندمج، وذلك عندما تتوفر له الشروط الملائمة لذلك، وأهمها التواصل الإيجابي المبني على الإيمان بثقافة الآخر وفكره ودوره، أما إذا كان هذا التواصل متقطعا ومرتكزا على العداء الخفي أو المعلن، كذلك يكون الاندماج متقطعا، يؤسس لثقافة القطيعة لا لثقافة التعايش!
الوجه الخفي لسياسة الاندماج في الغرب
بالنظر إلى الخطاب السياسي المهيمن في الغرب، يُدرك أن بقاء المسلمين سواء في البلدان الأوروبية أم في الدول الغربية، غير مرهون فحسب بتوفرهم على وضعية قانونية صحيحة، أو نيلهم لجنسية البلد الذي يوجدون فيه، أو حتى انتمائهم إليه بالولادة والتربية والتمدرس ونحو ذلك، ولكن مرهون بما هو أهم من ذلك كله، وهو وجوب انخراطهم في الحياة العامة الغربية، ثقافيا ولغويا واجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا وغير ذلك، على أن يكون هذا الانخراط مسايرا، بل ومندرجا في بوتقة المجتمع الغربي، قلبا وقالبا، تفكيرا وسلوكا، وبعيدا عن أي تصارع مع أخلاق وتقاليد الغربيين، ولو أنها تهدد المسلمين المغتربين في هويتهم الدينية والثقافية، وفي تربية أبنائهم وتوجيههم، مما يضعهم أمام نارين؛ نار الولاء للآخر، ونار التمسك بالهوية الأصلية. وسعيا إلى تنفيذ هذا المبتغى، الذي يطلق عليه في الأدبيات الغربية سياسة الاندماج، تم حشد شتى الإمكانيات القانونية والمادية والدعائية، التي وظفتها العديد من الدول الغربية في شكل مشاريع عدة، تأتلف حول أهداف موحدة، وتكلفت مختلف الأجهزة بتطبيق ذلك وتعميمه على كل الأجانب الموجودين بين ظهرانيها، من وزارات وأحزاب ومؤسسات تعليمية وجمعيات وشركات وغير ذلك، وعندما تمعن النظر في هذا الاهتمام اللافت لهذه القضية، تشعر وكأنك لست أمام سياسة الاندماج، وإنما أمام ثورة الاندماج، مادام أن أولئك المشرفين على ملفات هذه القضية، تفهم من خطابهم وكأن لا خيار للأجانب والمسلمين إلا الاندماج في المجتمعات الغربية، وأن رضى الغرب عليهم لا يأتي إلا من بوابة اندماجهم وفق رؤيته الفكرية والتنظيرية، وإلا فإنهم سوف يحشرون لا محالة في خانة الخوارج الجدد!
لكن، وحتى تكتمل الصورة في أذهاننا، ينبغي أن نتصفح رؤية الغرب لاندماج الآخر في مجتمعه وثقافته، لعلنا نستغور منها ما قد يكون إيجابيا لوجودنا عنده، فيكون بمثابة ذلك المصباح الذي نستنير به في ليل ضياعنا السرمدي، أو لعلنا نفقه بها ما يساعدنا على أن نفهم الأسباب العميقة لانصراف الكثير من المسلمين وتحفظهم من سياسة الاندماج، التي تقدمها لهم الحكومات الغربية على طبق من ذهب! وسوف أقتصر هنا على النموذج الهولندي، حيث يبدو من كلام وزيرة الاندماج وشؤون الأجانب، أن سياسة الاندماج تنطوي على مشروع عقلاني، يسعى إلى إشراك الأجانب في الحياة العامة، وذلك بمنحهم فرصة تلقي اللغة الهولندية، والتعرف على تاريخ وثقافة الشعب الهولندي، ونحو ذلك من الأهداف الشريفة. وقد جاء في كلمة الوزيرة أو الوزارة المعنية بالأمر ما فحواه: "يجب أن يتم الاندماج في المدارس والشركات والحي والشارع، وهو بدرجة ما مهمة تناط بالسلطة الوطنية، حيث منطلق سياسة المواطنة الجديدة، هو أن كل مهاجر يتحمل مسؤولية اكتساب المعارف والمهارات الضرورية."
إن المتصفح لمثل هذا الكلام، يدرك حقا أنه لا يشكل أي تهديد لهوية وثقافة كل من سوف يطاله هذا الاندماج، لكنه في نفس الوقت، لا يكشف عن الفائدة الملموسة من هذه السياسة، علما بأن ثمة الآلاف من المسلمين الذين اندمجوا لغويا ومعرفيا، أي أتقنوا اللغة الهولندية، وتعرفوا على قيم وتقاليد وتاريخ الشعب الهولندي، لكن رغم ذلك ظلوا بعيدين عن ذلك التواصل التلقائي والحميمي مع المجتمع الهولندي الذي ينخرطون فيه، بل ومنهم من يتفوه علنا برفض قيم المجتمع والثقافة الهولندية، وهذا الرفض لا يأتي من فراغ، وإنما يستند إلى عوامل شتى، منها ما يمكن اعتباره موضوعيا، مثل مشاكل العمل، التواء القوانين المنظمة لبعض القطاعات كالتأمينات والمدرسة والكهرباء وغير ذلك، دون نسيان الهجمة الإعلامية المدعمة ضد المسلمين، وهكذا دواليك.
ارتكازا على هذا، يتقرر أن عدم إقبال مجموعة من المسلمين على الانخراط العفوي في الثقافة الأخرى، لا يعزى إلى فشل في اندماجهم اللغوي أو المهني أو حتى الشبه ثقافي، وإنما إلى أسباب أعمق من ذلك، تتجذر في أسلوب تفكيرهم، وطريقة تعاملهم، وهما أمران لا يفهمان إلا في نطاق البنية المجتمعية العامة التي ينحدر منها هؤلاء، وهي بنية جد مختلفة عن بنية المجتمع الغربي، حيث المعايير الفكرية والسلوكية السائدة لا تليق إلا بالإنسان الغربي، وعندما تطبق على الإنسان المسلم أو الأجنبي تفقد قيمتها، وتنقلب ضدا، كما ينقلب السحر على الساحر، فالحرية مثلا، بالمفهوم الغربي هي فوضى بالمقياس الشرقي أو العربي، لذلك نرى أن أغلب السلوكات المنحرفة والإجرامية التي يقترفها الأجانب، إنما السبب فيها هو الحرية المفرطة في غياب الأنا الأعلى (الأب، الإمام، الشيخ، السلطة...)، لذلك بمجرد ما تغيب سلطة الأب من المنزل، تنفتح شهية الأبناء للتحرر التام من كل القيود الدينية والثقافية والقانونية وغير ذلك، ومثل هذه الوضعية المعيشة التي يعاينها ويعانيها عدد من السلمين في الغرب، تجعلهم يسخطون على القيم الغربية، ويعتبرونها سبب الانحرافات الخطيرة التي تتخبط فيها الأجيال الأخيرة، فيفقدون بذلك كل الثقة في المقولات الدعائية التي يروج لها الإعلاميون والسياسيون، ولا يرون في القوانين التي تصدر تباعا بخصوص الأجانب والمسلمين، مجرد وعود تخفي وراءها قيودا مصممة للحد من المد الإسلامي، وتدجين كل الأصوات التي تنادي بتمكين المسلمين والأجانب من حقوقهم القانونية والدستورية.
هذه الأسباب وغيرها كفيلة بأن تزرع الارتياب في نفوس الجالية المسلمة الموجودة في الغرب، وحتى يتسنى لنا الاستيعاب الشمولي والموضوعي لهذه الوضعية الحرجة التي تعكس الحالة الحقيقية لعدد لا يستهان به من المسلمين، نبلور ذلك في النقاط الآتية:
إن سياسة الاندماج كما تطرحها بعض الحكومات الأوروبية والغربية، ليست هي النموذج الأوحد الذي يمكن بواسطته إشراك المسلمين في المنظومة الاجتماعية والثقافية الغربية، إشراكا إيجابيا وبناء، لأنها أولا، صادرة من طرف واحد، وهو الذي بيده القرار، دون تشاور مع ممثلي المسلمين ومثقفيهم، وثانيا، تبدو في جانبها النظري ذات أهداف إيجابية للكل، لكن أثناء التنفيذ يتضح زيفها وخداعها، وهذا ما راح يحصل من قبل وزيرة الاندماج الهولندية، التي جعلت من وزارتها في جانبها المرتبط بإدماج الأجانب ورشا للتجارب، مما يجعلنا نقرر ما أشرنا إليه في تحديدنا اللغوي لمصطلح الاندماج، الذي ينطوي على مفهوم شريف، ما إذا لم يعتريه ما هو أيديولوجي.
إن عدم تجاوب بعض المسلمين مع بعض قيم الثقافة الغربية، لا يعني أنهم لم يندمجوا، بقدرما يشير إلى أنهم استطاعوا أن يتقنوا اللغات الغربية، ويتعرفوا إلى ثقافات البلدان التي يوجدون فيها، وينتظموا بشكل إيجابي ومنتج داخل سوق الشغل، لكنهم تحفظوا من الانخراط غير المعقلن في ثقافة الآخر، لأنه انخراط يحمل في طياته بذور الموت لثقافاتهم الأصلية، ومن فينة لأخرى تكشف مختلف الآراء عن هذا الموت أو التذويب للآخر في بوتقة المجتمعات الغربية، مثل آراء أحزاب اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية، وغير ذلك، فكيف ينتظر من المسلمين أن يقبلوا على هذا الآخر الذي يرفض قيمهم الدينية والثقافية دون تربص ووجل!
ثم إن وضعية المسلمين في الغرب، ينبغي أن تحلل وتفهم في نطاق أوسع، يراعي شتى الجوانب النفسية والثقافية والدينية والتاريخية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك، وهي جوانب تثبت أن الإنسان المسلم ليس هو الإنسان الأوروبي أو غيره، ومن هنا فالتعامل المثمر معه يجب أن يضع في الحسبان كل تلك الجوانب، وإلا فإنه سوف يتخذ مسارا منحرفا.
في العام الماضي كشف تقرير ( بلوك (عن فشل سياسة الاندماج التي سنتها الحكومات الهولندية المتتابعة طوال حوالي ثلاثة عقود، لكن هذا لا يعزى بشكل أو بآخر إلى عجز المسلمين أو الأجانب عن الاندماج، وإنما يعود إلى خلل ما في تلك السياسة، أو إلى خلل في آلية إيصال فحوى الاندماج إلى الآخر، وجعله يتقبل هذه الفكرة من أصلها، لذلك عمد ذلك التقرير إلى اقتراح توصيات، يستوجب على الحكومة الحالية العمل بها، وما تلك التوصيات إلا قيود جديدة سوف تزيد من تضييق الخناق على الأجانب، مما سوف يولد ارتجاجات جديدة، تجعل المهاجر يسري عليه ذلك المثل المغربي المعروف: (الداخل إلى الحمَّام ليس كالخارج منه!). والجديد الذي يتضمنه ذلك التقرير يتمحور حول: عدم تركيز أكثر من 80% من التلاميذ الأجانب في مؤسسات تعليمية إثنية أو دينية معينة، وإجبار أكثر من 54% من الأقليات على الانخراط في سوق العمل، وعدم السماح بتسكين العائلات ذات الدخل الأدنى في أحياء محددة، وانتهاج أسلوب الوقاية والقمع في مواجهة السلوكات الإجرامية المنحرفة التي يسببها شباب الأجانب، وتنظيم تكوين للأئمة والحد من استيراد الأئمة من الخارج، وإصدار مذكرة حول التطرف والأسباب التي تقف من ورائه وذلك بالتشاور مع عدد من المسلمين.
كيف ينظر المسلمون إلى هذه التبدلات التي بدأت تحصل في الغرب، وهم ليسوا بعيدين عن تأثيرها؟ هل يتخذون منها موقفا معلنا، يحاولون من خلاله إثبات رفضهم أو قبولهم لذلك، أم يبقون مكتوفي الأيدي وهم ينتظرون الذي يأتي ولا يأتي؟ في حقيقة الأمر، يظهر أن مسلمي هذه الألفية الجديدة يختلفون جذريا عما كان عليه أسلافهم الذين شكلوا الجيل الأول، حيث استطاعوا في ظرف وجيز أن يحضروا في شتى قطاعات المجتمع الغربي ومجالاته، لكن ما يعاب على هذا الحضور أنه يتخذ طابعا فرديا، يغيب معه التنسيق الجماعي، مما يشتت الإسهام الذي يقدمه الأجانب داخل بنية المجتمع الغربي، ويجعله باهتا ومحجوبا بالأحداث الساخنة التي يسببها بعض المنحرفين، وهي أحداث تسرق أضواء الإعلام والسياسة، فيبدو معها كل إسهام من لدن المسلمين والأجانب مقزما وليس ذا شأن! رغم ذلك فثمة العديد من المنظمات والمؤسسات الإسلامية، بدأت تتخطى الحواجز لتثبت حضورها الفعلي داخل المجتمع، ومنها من تمكن من فتح الحوار مع السلطات المسؤولة، ومنها من يجمعه معها التعاون في شتى الجوانب، غير أن ما يعوز بعض هؤلاء هو الرؤية الواضحة للأمور، التي تحاول ترتيب أوراقها الداخلية، ومعرفة دورها داخل المنظومة الغربية، ومن ثم وضع استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار كل الحيثيات التي تمت بصلة إلى وجود المسلمين في الغرب، وفي هذا الإطار يمكن إدراج تلك الأصوات التي تنادي بإسلام حضاري، يتكيف مع كل المناخات والثقافات، ليؤسس رؤية إنسانية وكونية ترتكز على الاعتدال والوسطية، ولا تنفي الاندماج الإيجابي في أي مجتمع، اندماج مشروط بالحفاظ على الهوية الأصلية، ومبني على التجانس العقلاني مع ثقافة الآخر، والاستحكام الذي يضمن استمرارية خصوصيات الديانة التي يؤمنون بها، والثقافة التي يمثلونها، والهوية التي يحملونها.
التعليقات (0)